تمتد بعض البرامج والسجالات السياسية المتلفزة في لبنان اليوم الى اكثر من ساعة، وتقتصر على عرض مواقف متعارضة لسياسيين، ويُطلب من المشاهد ان يصطف مع هذا الفريق او ذاك كما في مباراة كرة قدم. ويتلذذ مقدم البرنامج بقدرته على الاثارة والتصادم كمؤشر نجاح، في حين انه لا يُطرح خلال مجمل الحلقات المسماة حوارية أي موضوع في معطياته ووقائعه وتحولاته وأرقامه وإحصاءاته لكي يبني المتحاورون على هذا الأساس مواقفهم ويبني المشاهد بعدها خياراته والتزامه.
يشكل هذا النوع من البرامج تربية مسائية يومية منظمة، ومنتظمة على التبعية والمحسوبية، والاستزلام والمواقف التصادمية النزاعية. الغائب الاكبر خلال كل الحلقة هو المعيار الناظم للحياة العامة، أي مبدأ القانونية principe de légalité أو القاعدة الحقوقية rule of law/règle de droit حيث كل مسألة دون استثناء، من قرار لمجلس الامن الى معاملة مجمدة في ادارة عامة والى حفرة في الشارع العام… تخضع لقاعدة حقوقية.
ساهم الاعلاميون اللبنانيون في نشر ثقافة حقوقية. لكنه منذ سنوات، وبسبب تدهور الاوضاع العامة وتراجع بعض القيم التأسيسية وبسبب انتشار ذهنية محض استهلاكية، يظهر تراجع ملموس في نشر الثقافة الحقوقية في بعض المواد الاعلامية، في حين يحتاج لبنان في واقعه الحالي الى استعادة سلطة المعايير على كل المستويات.
يتضمن الاعلام اللبناني تراثًا وممارسات نموذجية وريادية في مجال تعميم ثقافة حقوقية شعبية، والدفاع عن القواعد الديمقراطية عامة. نذكر على سبيل المثال برنامج الشاطر يحكي في حلقاته الى 75 بإدارة جنان ملاط وزياد نجيم، وملحق حقوق الناس لجريدة النهار (37 عددًا، 1995-1998) وجائزة برنامج الامم المتحدة الانمائي في السنوات 1998-2000، حول أفضل عمل اعلامي لبناني لصالح حقوق الانسان والتنمية والذي أظهر مدى مساهمة الاعلاميين اللبنانيين في نشر ثقافة حقوق وتنمية.
على سبيل المثال، خلال سجال متلفز لمدة ساعتين حول تخصيص الهاتف الخلوي لم تذكر اشارة واحدة حول الشروط القانونية لمناقصة عامة او تلزيم او الشروط الحقوقية للتخصيص.
وبعد ان امتدت ايديولوجية حقوق الانسان، يسعى غالبًا اعلاميون عن حسن نية الى تغطية مكتوبة ومتلفزة لشؤون حياتية يومية متعلقة بحقوق مستهلك وحفرة في الشارع العام…! ليس في البرنامج بحث عن المرجعية الحقوقية او حتى مجرد الاشارة الى مادة في قانون البلدية ام الى اختصاص هذه الادارة او تلك حول الموضوع المطروح. ويمر الميكرو المتجول على بعض الناس فيتمادون هم والاعلامي في “النق” على مسؤول مجهول وحتى يتساءلون: من المسؤول؟ وينتهي العرض مع “فشة خلق” واتهام “الدولة”…
ساهم انتشار سطحي لايديولوجية حقوق الانسان في تنمية ثقافة “النق” بدلاً من ثقافة حقوقية في تحديد المرجعية القانونية والمسؤولية الادارية ومساهمة المواطن في المطالبة بحق وممارسة واجب. ليس المطلوب من الاعلامي صياغة مطالعة او مرافعة قانونية، بل ثقافة حقوقية شعبية في حدها الادنى انسجامًا مع واقع كل حالة يعرضها.
هذا لا يعني توقف الضيوف ومقدمي البرامج عن المناقشات السياسية، بل أن تسند هذه المناقشات الى مرجعية حقوقية تؤدي الى تفادي نقاشات عديمة الجدوى، وتؤمن حلولاً سلمية بعيدة عن التبعية والاستزلام. وليس المطلوب أن يقوم الضيوف او مقدم البرنامج بتحليل قانوني لن يفهمه معظم المواطنين.
في حالات اخرى تقرأ تغطية اعلامية لمؤتمر صحفي لاحدى النقابات الكبرى حيث تعترض النقابة على تعديل المادة 82 مثلاً من قانون يرعى المهنة… لا يورد الصحفي، في اطار ظاهر، مضمون المادة التي يدور حولها كل موضوع المؤتمر الصحفي! لا يتبقى تاليًا من المؤتمر الصحفي في ذهن القارئ الا الاعتراض والتشكي والنق.
بعض الحوارات المتلفزة في السنوات الاخيرة هي سجالات في المواقف ودون قاعدة. نورد مثالاً لبرنامج تلفزيوني حيث يركز الضيف على القواعد الحقوقية حول ملف عالق في وزارة العدل بينما الاعلامي الذي يدير الحوار يطرح اسئلته حول “المناورات” و”النوايا” و”ما يقال” والتكتيك السياسي للفرقاء…! وعندما تحدّث الضيف عن بعض الشروط الحقوقية الوضعية اختصر الاعلامي النقاش بقضية “اقناع” و”قناعة” وقدرة على “الاقناع” على مستوى العلاقات الشخصية، دون مرجعية لهذا النوع من الحوار الذي يطال مفاهيم الدولة ومؤسساتها.
لا مرجعية – حتى في ادنى الحدود – في حوارات متلفزة حيث السياسة هي في مجملها شريعة غاب ونزاع وصراع وتعبئة ومناورات، ودون بُعد للشأن العام ولحقوق الناس وللضوابط الحقوقية التي تلجم جنوح السياسة نحو الاستئثار والتسلط.
مبدأ القانونية في الاعلام اليومي
في اطار دبلوم الدراسات العليا صحافة، في الجامعة اللبنانية بالتعاون مع مركز تأهيل وتدريب الصحفيين في باريس والمعهد الفرنسي للصحافة، ناقشت ميشيل ضومط، رسالة باللغة الفرنسية بإشراف كاتب هذه الدراسة بعنوان: “القاعدة الحقوقية في الاعلام اليومي في لبنان اليوم: دراسة حالات” (تشرين الاول 2005، 60 ص). يظهر في الدراسة أن بعض البرامج والسجالات المتلفزة هي نموذج لخطابين متناقضين، يبدي كل من الضيفين من خلالهما مواقفه الشخصية أو مواقف “حزبه” أو “كتلته”. وقد يرى البعض أنّ هذه الظاهرة طبيعيّة إذ إنّ هذه البرامج تهدف أوّلاً إلى نقل الواقع الذي يعيشه لبنان وإلى معرفة “نوايا” السياسيّين الكامنة خلف تصريحاتهم. غير أنّ البعض الآخر قد يلوم المقدّمين والضيوف على افتقاد هذه البرامج لمرجعيّة وأساس لكلّ حوار بنّاء ومفيد.
القاعدة الحقوقيّة هي المعيار الناظم للحياة العامة ولعلاقة الفرد بالآخرين وبالسلطة، وهي عبارة عن الدستور ومجموعة القوانين والتشريعات والأنظمة الداخليّة في المدارس وقوانين السير… إنّ تسمية هذه القاعدة بـ القاعدة الحقوقيّة وليس القاعدة القانونيّة متعمّدة، ذلك لأنّها لا تشير إلى كلّ القوانين في المطلق إذ أنّ بعض هذه القوانين قد يكون، وخاصة في البلدان حيث لم يترسّخ مفهوم الديمقراطيّة جيّداً في أذهان الناس والطبقة السياسية، مجرّد أداة في أيدي أصحاب نفوذ يستخدمونها لتأمين مصالحهم على حساب الاخرين. الهدف من القاعدة الحقوقيّة تحقيق العدالة والمساواة وحل النزاعات بطريقة سلميّة. فهي الوسيلة الأقلّ سوءًا التي استحدثها الإنسان لحماية الضعيف من الحكم الاستبدادي والتعسّفي.
شُوّه القانون لدرجة لم يعد كثيرون يدركونه كوسيلة حماية. يكفي أن ننظر إلى سلوكيّات لبنانيّين الاجتماعيّة ليتّضح أنّ اللبناني نادراً ما يعتبر القاعدة الحقوقيّة مرجعاً، فيُعرف الذي يؤمّن مصلحته على حساب القوانين (حتّى في أبسط الأمور كمدّ شريط كهربائي بطريقة غير مشروعة)، يُعرف بـ”الشاطر” و”البندوق”… أمّا الذي يبني حياته على أساس القانون فيُنعت بـ”المعتّر”. بات من الضروري اعادة القانونيّة إلى مجراها في الحماية.
شملت دراسة ميشيل ضومط، مضامينًا وتحليلاً، في سلبياتها وايجابياتها، ستة برامج متلفزة وهي “كلام الناس” (7/7/2005 حول تشكيل الحكومة، و 18/8/2005 مع الوزير شارل رزق حول تعطيل المؤسسات… و11/8/2005 حول حقوق المستهلك) و”الاستحقاق” (3/8/2005 مع وزير العمل طراد حماده والنائب ابراهيم كنعان و 30/8/2005 مع غسان سلامه)، و”سجال” (12/7/2005 مع انطوان مسرّه وهاني سليمان حول قانون العفو).
هل يجوز أن نتناقش عن “حصص” ونعرض مواقف دون الاستناد الى القواعد الحقوقية؟ وهل يجوز تحويل موضوع العمالة إلى نقاش يقتصر على أحزاب في حين أنّ هذه المسألة تطال أمّة بكاملها؟ وهل يجوز التكلّم عن تعيينات قضائيّة دون ذكر استقلاليّة القضاء التي يلحظها الدستور اللبناني وتفسير مبدأ الاستقلاليّة بطريقة مبسّطة؟
يساهم ذكر المرجعيّة الحقوقيّة في تربية الناس وتذكيرهم بأنّ الحلول السلمية سهلة متى تمكّن أفراد المجتمع من الخضوع للقواعد نفسها. إن أرادت برامج متلفزّة نقل الواقع السياسي فهي ليست بحجّة؛ كي تتحوّل هي أيضاً إلى شريعة غاب دون الاستناد إلى مرجعيّة. وحين يستعين الضيف أو المقدّم بهذه المرجعيّة يتمكّن الناس من فهمها وتترسّخ في أذهانهم ويتعلّم المشاهد اتّباع الحقّ وليس المواقف. التربية على القاعدة الحقوقيّة كفيلة بتأمين دولة مؤسّسات حيث تتحقّق العدالة بغضّ النظر عن الانتماء والطبقة وبعيداً عن الزعامات .
في رسالة دراسات عليا صحافة أعدتها ميشيلين ابو خاطر كرم بإشراف كاتب هذه الدراسة حول موضوع: “القاعدة الحقوقية في الاعلام اليومي في لبنان: دراسة حالة” (2005، 70 ص) تقول ميشيلين ابو خاطر كرم:
“أدت بي الأبحاث الخاصة بحكم القانون والإستعانة به في مجال الإعلام اليومي في لبنان، وبخاصة تحليل وسائل إعلام متلفزة، إلى الإستنتاج أنه غالباً ما تغيب العودة إلى مبدأ حقوقي بشكل عام، والتشريعات اللبنانية والقانون الدولي. يكمن السبب الأهم في تراجع الثقافة الحقوقية، وهي حالة متعلقة بذهنية وليست نابعة بالضرورة من إرادة واعية” . اعتمدت الباحثة على دراسة حالتي اقفال محطة MTV وقرار مجلس الامن الدولي رقم 1559 في مناقشتهما وسجالاتهما في وسائل اعلام متلفزة.
ما هي أحكام القانون التي يذكرها الصحافيون ويستعينون بها في طريقة عرضهم للتطورات الإخبارية في لبنان؟ هل تم استيعاب الأحكام بشكل كافٍ؟ نادراً ما تكون هذه هي الحال بخاصة في بعض البرامج المتلفزة. إن مهمة الصحافة في لبنان تعاني من أزمة مما يزيد الحاجة إلى جهد يبذله الصحافيون اللبنانيون في المجال الحقوقي. على الصحافي أن يطلع على القرارات الحكومية ويتأكد من صحتها ويفسرها. يقع على عاتق وسائل الإعلام أن تؤثر على المجتمع الأهلي، وحثه على التحرك وإيقاظه كي يطالب بحقوقه.
على النصوص والمقالات والتحليلات السياسية، بخاصة المتلفزة منها، أن تظهر دوماً دوافع المصلحة العامة، إذ عليها أن تبدأ بتفسير المعايير الخاصة بكل قضية، إسوة بما يحصل في البلدان حيث اصبحت الديموقراطية تقليداً مكرساً. لا تنقصنا الثقافة السياسية بحد ذاتها، لكن ما نحتاجه هو توضيح مبدأ القانونية principe de légalité بالإضافة إلى تأثيراته.
ماذا يتوجب فعله على الصعيد العملي بغية تحسين النوعية الحقوقية للأنباء؟ يجب تعزيز ثقافة حكم القانون، اذ يعني القانون في الادراك الجماعي في لبنان ” العقاب”، في حين ان احترام القاعدة الحقوقية يحسّن نوعية الحياة ويضمن استدامة التنمية.
أي برنامج تثقيف على القاعدة الحقوقية في العالم العربي وفي لبنان بشكل خاص يجب ان يأخذ بالإعتبار السياق التاريخي والخبرات الذاتية كي يكون لهذا البرنامج تأثير على السلوك. من المهم ألاّ يظهر حكم القانون بمثابة وسيلة “قمع”، بل كطريقة أساسية لضمان حقوق الإنسان من الإعتباطية.
تبذل الصحافة المكتوبة في لبنان جهوداً حثيثة من أجل تعزيز الثقافة الحقوقية، في حين ان بعض البرامج تكتفي بنقل مواقف، وصدام مواقف، دون عرض المشكلة موضوع التباين عبر الإستشهاد بمعطيات ووقائع وحالات، ودون ذكر المعيار المتعلق بحل المشكلة موضوع النزاع.
مصادر تكون ثقافة الإعلامي الاجتماعية والسياسية في لبنان
ما هي الجذور الثقافية لذهنية شريعة الغاب التي يساهم بعض الاعلام بتعميمها؟ تتطلب ممارسة المهنة الإعلامية اكثر من معرفة تقنيات التواصل وتنوع أساليبه حسب الوسيلة الإعلامية. غالبًا ما ينتظر طلاب الإعلام ان تقتصر مواد التدريس والتدريب على هذه التقنيات والأساليب على اساس انها السبيل للتأهيل المهني.
لا شك ان التقنيات الاعلامية هي السبيل لانتاج مادة اعلامية. لكن التقنيات والاساليب لا تنتج النوعية في المضمون والفعالية في ايصال الرسالة الاعلامية والمساهمة في تطوير الديمقراطية والتنمية. الاشكاليات الكبرى التي يطرحها الاعلام اليوم عالميًا وهو في قمة تطوره تتعلق بمضامين الاعلام وقيمه وفاعليته في التغيير الاجتماعي، وهذه العناصر هي حقوقية وثقافية وخلقية.
يحمل الطالب الذي يتابع دروسًا جامعية او دورات تدريب وتأهيل في الاعلام مخزونًا ثقافيًا وخلقيًا نابعًا من بيئته العائلية والمدرسية والسياسية والاجتماعية عامة. يؤثر هذا المخزون سلبًا ام ايجابًا على الممارسة المهنية. كيف يتشكل هذا المخزون في المجتمع اللبناني وما هي تأثيراته في الممارسة الاعلامية وكيف السبيل لتنقية هذا المخزون حقوقيًا وتثميره؟
1. فقر الثقافة العامة تطبيقًا لقاعدة البعد الانساني intérêt humain في الاعلام: ان فقر الثقافة العامة الادبية والفلسفية والفنية لدى اعلاميين من الجيل الجديد يحوّل الاعلامي الى مجرد ناقل اخبار. الحاجة تتزايد اكثر فاكثر الى الاعلامي المتخصص والاعلامي القادر على تخطي آنية الخبر.
2. التنشئة السياسية على قيم التبعية والزبائنية: ان القيم التي تنقلها البنيات التحتية في المجتمع في العائلة والمدرسة والجامعة، وبخاصة من خلال كتب التاريخ والادب (المدح والهجاء…)، وأساليب التعليم التلقينية الاملائية تساهم في اعادة انتاج البنيات السلطوية. غالبًا ما ينساق الاعلامي نحو تغطية أخبار الحكام “والذوات” مهملاً قضايا المجتمع. حصل تطور بارز في السنوات العشر الاخيرة نحو تغطية أخبار المجتمع ونحو مساهمة الاعلام في لبنان في الثقافة المواطنية. لكنه في مجالات عديدة، وبخاصة في الاعلام الاداري، هناك نقص كبير ومساعي لتحويل هذا الاعلام لصالح المستفيدين من خدمات عامة.
3. الانسلاب الثقافي aliénation بالنسبة لطبيعة المجتمع اللبناني: ان المعرفة التي تنقلها وسائل التنشئة، وبخاصة التعليم الجامعي في لبنان، حول الانظمة السياسية والنظام اللبناني وقاعدة الاكثرية والاندماج الوطني والولاءات الاولية واحتواء النزاعات والتسوية… تؤدي الى انفصام بين المعرفة الملقنة والواقع المعيوش، وغالبًا الى عقدة خجل حول لبنان في بنيته السياسية وسياقه الخاص في التغيير. يساهم غالبًا الاعلام في لبنان في ترداد شعارات ومفاهيم مستوردة بدلاً من ممارسة النقد وتنقية المفاهيم وفضح ما تعممه الايديولوجيات… يقول الصحافي ادوار صعب الذي اصابه قناص على معبر المتحف في بداية الحرب: “ان لبنان هو مهد الايديولوجيات ولحدها” .
4. التركيز على المعرفة الاعلامية في كليات ومؤسسات التدريب والتأهيل الاعلامي واهمال السلوكيات الاعلامية: في كليات الاعلام، وكذلك على مستوى الدراسات العليا في الصحافة، يلاحظ لدى الطلاب في السنوات الاخيرة ضعف سلوكيات الاصغاء والحوار والقبول بالرأي المختلف والمناقشة والتوليف بين الآراء التي تبدو متناقضة… وتعرض غالبًا على الشاشات برامج مسماة حوارية حيث الافكار تتصارع وتتصادم في متاريس مواقف دون ان يساهم المشرف على البرنامج في تحويل التصادم الى نقاش وتوليفه synthèse، بحيث كل رأي يوضح ويغني الرأي الآخر ويصوّبه. البرامج هي غالبًا سجالات بلا حوار ولا اصغاء ودون معايير. يخرج المشاهد من البرنامج التلفزيوني الطويل كما دخل اليه مع ذات المواقف وتصلبها. قليل من البرامج يخرج عن هذا السياق، ابرزها سابقًا برنامج “الشاطر يحكي”.
هناك مخزون ثقافي ايجابي تنقله وسائل التنشئة للاعلامي اللبناني ويتضمن تقاليد راسخة في الميثاقية والحرص على الصلة الاجتماعية (مع انحرافاتها ولا شك في المساومة والمجاملة والتكاذب والتذاكي…). هذا المخزون الايجابي بحاجة الى تثمير، واحيانًا الى تصويب، انسجامًا مع روحيته وللحؤول دون انحرافه.
5. الصورة الاجتماعية للاعلامي لدى الطلاب والمنخرطين الجدد في المهنة الاعلامية: يمكن استخلاص الصورة التالية من خلال تحقيق اجري سنة 1985 مع الطلاب الذين يتقدمون الى مباريات الدخول الى كلية الاعلام والتوثيق : تبدو المهنة براقة وتتميز بالنجومية والظهور والعلاقات…، بينما الاهل مترددون ويخشون على بناتهم “قطع الطرقات” و”السهر في الليل” “ومقابلة ايا كان من الناس”… قلما يتحدث الطلاب عن الصعوبات التقنية في التحرير وعن العوائق الوظيفية والمالية. اما اليوم فيبدو ان مخاوف الاهل اللبنانيين تجاه العمل الاعلامي لبناتهم تراجع، لكن الصورة النجومية والعلائقية تضاعفت نتيجة انتشار “التسلية التواصلية” عالميًا Loisir médiatique. هذه التسلية، بواسطة وسائل “اعلامية”، يقتضي تمييزها بوضوح عن الاعلام وقواعده المهنية والخلقية. هذه التسلية او الترفيه تؤثر سلبًا على ادراك المهنة وممارستها.
ما العمل إعلاميًا لاستعادة سلطة المعايير؟
انطلاقًا من الدراسات الميدانية ومن المخزون الثقافي يقتضي العمل، في مؤسسات التعليم والتدريب الاعلامي وعلى مستوى الممارسة الاعلامية، في المجالات التالية:
1. مواد التعليم: تمتين المعرفة بالعمق لطبيعة وخصائص المجتمع اللبناني ونظامه السياسي انطلاقًا من الدراسات المقارنة ودون اغتراب او عقدة نقص او خجل.
2. السلوك: تضمين البرامج الاعلامية تقويمًا للسلوكيات في الاصغاء، والحوار، والنقاش، والاستماع الى الرأي المختلف، والقدرة على طرح موضوع محدد ونقل الرسالة بوضوح وايجاز، والتعريف، والدقة والصدقية في نقل المعلومات والتدقيق في صحتها… وضعت في قسم الدراسات العليا صحافة علامة صفر لطالبة لمجرد انها نسبت الى نفسها معلومة نقلتها عن مصدر دون ذكر هذا المصدر! انه خطأ فادح في الخلقية الاعلامية.
في مهنة اساسها التواصل يقتضي التركيز في برامج التأهيل والتدريب على اكتساب الطالب في الاعلام معرفة علائقية في الاصغاء والتحاور والمناقشة والاحترام والتفاعل مع الاشخاص والاوضاع والعوائق والتباينات والمستجدات دون مساومة في القواعد الاساسية للخلقية الاعلامية.
3. برامج: المشاركة في برامج اعلامية مجددة في سبيل توجيه الاعلام نحو الديمقراطية والتنمية. نظمت برامج رائدة في السنوات العشر الاخيرة تساهم في تطوير الاعلام اللبناني نحو ديمقراطية القربى Démocratie de proximité (صفحات مناطق وبلديات، التراث، الاعلام الاداري، مدنيات…). ما يكتبه العديد من الاعلاميين في لبنان يشكل نموذجًا في الثقافة الحقوقية اعلاميًا. يقتضي جمع بعض النماذج لتشكل مادة في التدريب الاعلامي .
يحمل اصدار مجموعة ما كتبه ميشال ابو جوده في “حقيبة النهار” طيلة حوالي اربعين عامًا ، مع بعض الانتقاء نظرًا لغزارة الانتاج، عدة اهداف متكاملة ومتلازمة. انه تأريخ لمراحل لبنانية اساسية، واحياء لذاكرتنا الجماعية، وعودة الى الاصالة، ومساهمة في ترسيخ ثقافة حقوق وقواعد حكم في لبنان بعد سنوات من الحروب في البلد الصغير. كتابات ميشال ابو جوده مختصر لقواعد الحكم في لبنان في اطار ثوابت حقوقية في الوطن الصعب ولكن غير المستحيل اذا وعى اللبنانيون اسباب “الاستمرارية اللبنانية” (26/3/1968) وتقيدوا “بالوصايا اللبنانية العشر” (12/4/1970) وارتقوا الى “مستوى الميثاق” (21/8/1978).
كيف يستفيد اللبنانيون من تراثهم التاريخي والدستوري والثقافي والحقوقي في سبيل مزيد من التضامن في الشؤون الاساسية والتأسيسية؟ الحاجة الى سياق تربوي واعلامي. يتطلب انماء وظيفة الاعلام المدنية في لبنان مزيدًا من التعامل مع مدرسة الناس، واعلاماً معاصراً حيث التربية والادارة والمجتمع والبطالة والضرائب والنقليات والبيئة… هي ايضًا سياسة. تكمن الثقافة المدنية في تحرر الناس من الاستزلام وانماء حسهم النقدي وتربيتهم الاعلامية وادراكهم لمشاكل المجتمع والمحيط الذي يعيشون فيه في اطار قواعد حقوقية ناظمة للشأن العام.
الحاجة في هذا السياق ولاستعادة سلطة المعايير في لبنان الى السياقات التالية في الممارسة:
1. مساهمة في تعميم ثقافة حقوقية: نشر الاخبار كافة والايجابية منها: مواطن حقق انجازًا في قرية، ادارة سهلت المعاملات مع المواطنين، بلدية تواصلت مع الناس وانجزت مشاريع محلية…
2. الانتقال من الاعلام المتعلق حصرًا بالحكام الى الاعلام عن المجتمع الذي يعيد السياسة الى الناس.
3. التوفيق بين الاعلام والديمقراطية من خلال تحرر الناس من الاستزلام وانماء حسهم النقدي وادراكهم لمشاكل المجتمع والمحيط الذي يعيشون فيه.
4. الحرص على طرح المعايير الناظمة لكل قضية، وبخاصة المعايير الحقوقية، في سبيل الحد من الصراع السياسي دون ضوابط واستغلال وسائل الاعلام كمنابر للصورة والدعاية وللحد من تبعية الناس لمواقف، اذ توفر القاعدة الحقوقية مرجعية وضعية عادلة ودون تمييز لمعالجة النزاعات وللحؤول دون تحول السياسة الى مجرد حلبة صراع.
5. التعريف بالتشريعات والنقاشات العامة حول الحقوق والواجبات من منطلق المستفيدين من هذه الحقوق والواجبات في الحياة اليومية ونقل المعرفة القانونية من مجموعات التشريع الى عامة الناس ومن منطلق انساني.
6. تعميم سلوكيات لدى الناس تتميز بوعي المواطن لحقوقه وواجباته والدفاع عنها وثقته بقدرته.
7. التبسيط ولكن دون تسخيف من خلال البساطة في اللغة والتعابير، وفي حال استعمال عبارات تقنية لا بد من تفسيرها مع التركيز على وقائع وحالات وأمثلة وارقام، بدلاً من التفسير التجريدي، ومن خلال الاحتفاظ بكل غنى المضمون واحيانًا تعقيداته.
8. عدم حصر برامج اعلامية في مواقف وتصادم مواقف دون طرح الموضوع في معطياته ووقائعه وتحولاته واحصاءاته في سبيل بناء الخيارات والالتزام.
9. عدم شمولية الامانة في تغطية الاخبار والتصريحات الشتائم والاهانات والتهديدات والتخوين التي يجب على الاعلامي الامتناع عن نقلها وتعميمها .
وزارة الاعلام اللبنانية
مديرية الدراسات والمنشورات
اعداد: د.انطوان مسرّه