ليست مرحلة عابرة في تاريخ الإعلام اللبنانيّ. مصيرية، مخيفة. الجميع يردّد: “حتى في الحرب لم نصل إلى هنا. بحبوحة وازدهار برغم المتراس”. اليوم، سقوط حاد. كان ذلك النهار حزيناً، حين استفاق لبنان من دون “السفير”. عُمر الأزمة يتجاوز 17 تشرين الأول، إلى ما قبله، حين راح مردود الإعلانات يتراجع، وتكفّ أيدٍ وجهات عن الدعم. طوال 42 سنة، ظلّت “السفير” مساحة للرأي والأقلام والمنافسة المُشرّفة، ثم كان الوداع في نهاية 2016. حزنٌ آخر، بوداع “المستقبل”. 20 سنة والصحيفة في الأكشاك والمكتبات وأيدي القرّاء، إلى أن أُسدلت الستارة في مطلع 2019. لعنة المال وتبدُّل الأحوال. لحق “تلفزيون المستقبل” بالجريدة، فصمت. رافق جيل ما بعد الحرب وإعادة الإعمار. “البلد ماشي والشغل ماشي، لعيونك”. بعد 26 عاماً، توقّف كلّ شيء. إعلاميون بلا عمل وذاكرة بلا صور. تكرّ السبحة، وهذا، في المناسبة، تعبير كليشيه، لكنّه محاكاة لمشهدية مأزومة. تتوقّف مجلة “إيبدو” الناطقة بالفرنسية، ومجموعة “دار الصياد”، كما “راديو وان” بعد 40 عاماً من البثّ. تتعدّد الأسباب والمصير واحد: قطاع مهزوز بالكامل، بعدما كان “لا تهزّوا واقف عشوار”. ربما ليست الكارثة الاقتصادية وحدها الدافع المُلحّ لإغلاق منابر رسخت لعقود في الوجدان اللبنانيّ. فللبعض دوافع شخصية وعائلية وحسابات من نوع آخر، خارج أسى الأقدار حين تُرغِم المرء على ما لا يرضى به. الثلثاء، طالت المقصلة عنق “الدايلي ستار” العائدة إلى الصدور في العام 1996 بعد توقّف قسريّ خلال الحرب. صحيفة لبنان الوحيدة الناطقة بالإنكليزية، “تعلّق صدور نسختها الورقية”، وتُكمِل: “موقتاً”، لشيء من لفحات الأمل. تُصارح القرّاء: “إنّها الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلد”. قطاعات تتعثّر، ومصير عائلات في المهبّ. جرح الإعلام مفتوح، وهذه الأيام القاسية ترشّ الملح عليه. السوق الإعلانية تُحتَضر باحتضار القطاع المصرفيّ وتشديد إجراءات الحصول على الدولار، مع تراجُع العائدات والتحوّل نحو الاستهلاك الرقميّ. شائعات مخيفة تتحدّث عن صرف تلفزيونات أعداداً كبيرة من الموظّفين وتأخُّر دفع رواتب أو اقتطاعها إلى النصف. إنّه النفق.
داخل المؤسسات الإعلامية، أسئلة وقلق. تتّجه “أل بي سي آي” و”الجديد”، ومحطات أخرى إلى إجراء إنقاذيّ: البثّ المشفّر. لم يعد البثّ المجانيّ المفتوح متاحاً في الأزمة. التلفزيونات معاناة. الهواء يُملأ بأقل كلفة، والإنتاج ضئيل. تستغني مؤسسات إعلامية عمن تسمّيهم “الفائض”، وتمتنع عن تجديد عقود ترى أنّه يمكن الاعتذار من أصحابها. “أم تي في” تترقّب أيضاً، وإن أوحت بحالٍ أفضل. تعيد الدراما إلى أمسياتها، وتواصل تقديم برامج، وإن لم يكن برنامج جو معلوف بينها. الإبقاء على إعلام حرّ مستقلّ، خارج تدخّلات جهات وسياسات ودول، يشبه المهمّات المستحيلة. “Mission Impossible”، إن أردتَ بالإنكليزية. تختار “النهار” خطّ الصمود والنضال. لا خيار سوى البقاء، برغم ثقوب المركب والارتماء في الغرق.
“أل بي سي آي”: لا خيار آخر
“إنّه واقع اقتصاد البلد، لا واقع الإعلام فحسب”. منذ مدّة ورئيس مجلس إدارة “أل بي سي آي” بيار الضاهر يضع إصبعاً على جرح امتدّ على مساحة الجسد. يرى أنّ 17 تشرين الأول سرَّع الانهيار الحتميّ، والحلّ بالانتقال إلى الإعلام المدفوع. يستعيد واقع الحكومات منذ 2014 إلى اليوم، فلبنان مرَّ بفراغ سياسيّ، ثم لم يتناوب على الوزارات مهتمّون بهذه النقلة. مرّة أخرى، يضرب “النهار” مثلاً، بانتقالها من المحتوى المُتاح للجميع، إلى المحتوى المقروء مقابل بدل. المَهمّة، برأيه، لا تقتصر على مبادرات فردية، بل لا بدّ أن تشمل ذهنية المؤسسات الإعلامية كلّها. يُعدّد: “هذا يتطلّب مدّ فايبر أوبتيك، إلى خدمة انترنت جيّدة بأسعار مقبولة، وإعادة تأهيل الموظّفين، فالمنافسة لم تعد بين الشاشات المحلّية وحدها، أو بينها وبين الفضائيات العربية، بل مع عمالقة كفايسبوك وغوغل ويوتيوب، أصحاب الحصص الإعلانية الأكبر عالمياً. هذه المنصّات الهائلة لم تُبقِ لنا سوى الفتات”.
تستنجد “أل بي سي آي” بالبثّ المشفّر، وسط كلام عن صرف وأنصاف رواتب، فما الحقيقة؟ “شأنها كسائر المؤسسات، كالبلد. لا مفرّ من التدابير للاستمرار، منها الاستغناء عن خدمات وتسديد رواتب غير كاملة. لم نُجدّد عقوداً انتهت مَهمّات أصحابها. لكنّ الصرف بأعداد كبيرة شائعة”. يتحدّث عن “ترقيع” تمارسه الحكومة، “كما يبدو حتى الآن”، عوض الحلول، ويرى أنّ تغيير عقلية العمل جذرياً هو القادر على الإنقاذ. يفضّل عدم التنبّؤ: “أمشي خطوة خطوة. أنا متفائل”. كيف؟ “لأنّ النظام السياسيّ والاقتصاديّ المُتهالك منذ عقود، يلفظ أنفاسه، ولا عودة إلى الوراء. ولأنّ البلد اليوم يستطيع الاستقطاب أكثر لتقلّص الرواتب وتواضع السقوف العالية”. الغلاء الفاحش مهزلة، تستحقّ مساحات نقاش.
نعود إلى التشفير، فيشرح: “نحن أيضاً لم نعد نحتمل. أصحاب الكابلات يتقاضون حصّتنا من الأرباح منذ العام 1997، فيما لا يجدون مانعاً من الدفع لفضائيات أجنبية. لن نكلّف المواطن. على أصحاب الكابلات التسديد”.
“الجديد”: علينا مسؤوليات
الحال واحدة. نستبق اجتماعات كرمى خياط، ابنة صاحب “الجديد” ورئيس مجلس إدارتها تحسين خياط، المتتالية. تقرّ بصعوبة الأزمة على المؤسسات والعاملين، ولا مهرب من خطوات. تُشبّه واقع التلفزيون بواقع أكبر هو التعثّر اللبنانيّ، وتتحدّث عن “سُبل المواجهة”: “لا نستطيع الوقوف في صفّ المتفرِّج. علينا مسؤوليات. نحن أمام واجب تقديم محتوى للمُشاهد، فكيف نستمرّ إن لم نواجه الأزمة؟”. تقول إنّ مردود الإعلانات تراجع بعد 17 تشرين الأول، وتُحدّد نسبة: “80 في المئة”. لكنّها، كبيار الضاهر، متفائلة. تترقّب التشفير مَخرجاً، وتُطمئن: “من دون كلفة إضافية على المواطن. جزء من أرباح أصحاب الكابلات يعود لنا. هذه حقوقنا، فالمضمون كلّف الملايين. نحن أمام تجربة جديدة وعلينا المحاولة. أسأل الناس أن تتحمّلنا. مُرغَمون لنستمرّ”.
تملأ “الجديد” هواءها بما لا يُكلّف، وبديكور متواضع. “الجميع يتّخذ إجراءات، منها التقشّف الإنتاجيّ وتخفيف الكلفة. في النهاية نُسدّد الرواتب بعد الاقتطاع منها، وإسوة بسوانا، اضطررنا للاستغناء عن البعض. وإلا لن يبقى منا أحد”.
“أم تي في”: نرفض الاستسلام
رافق مسؤول قسم التسويق باتريك غلام، الـ”أم تي في” في كلّ مراحلها. نبرته إيجابية، يحاول التمسّك بالأمل. كيف الحال؟ يجيب: “نحاول تأمين بقاء أكبر عدد من الموظّفين، فاتّخذنا إجراءات للاستمرار. بعض الرواتب خضع للاقتطاع بحسب إنتاجية الأشخاص، وبعض العقود لم يُجدَّد. نريد النهوض من جديد. المدخول الإعلانيّ في تراجع مؤلم، ولم يكن ثمة مَهرب من التضحية”. “أم تي في” تكاد تكون المحطة الوحيدة المستمرّة في الإنتاج. طرحت الجزء الثاني من “ما فييّ”، وبرنامج جديد مع جيسيكا عازار، وتستعدّ لطرح برنامج مع طوني بارود، توازياً مع برنامجَي عادل كرم وبيار رباط، والتوك شو السياسيّ مع مارسيل غانم. “لو أذعنّا للواقع، لاستسلمنا. نرفض الاستسلام. لا خلاص خارج الإيجابية برغم الغيمة السوداء”. يشفع للمحطة امتلاك “استوديو فيزيون”، وإن عرَّض الورثة لنزاعات قضائية لم تعد في دائرة أسرار العائلة. لديها ديكوراتها وأدواتها، فتُنتج بالحدّ المقبول، مستغنيةً، طبعاً، بحُكم الدوّامة الكبرى، عن إنتاجات مُكلفة كـ”ديو المشاهير” و”رقص النجوم”. يتمنّى غلام ألا تطول الجلجلة، ولا يُخفي قلقاً من الغد. “السوق الإعلانية علينا جميعاً. الإعلام بأسره على الدفّة نفسها، حيث المُعلن أيضاً”. كـ”أل بي سي آي” و”الجديد”، تعيش “أم تي في” المرحلة “يوماً بيوم”. “المعطيات رهن الوضع. قد تتبدّل بين أسبوع وآخر”. ماذا عن رواتب الموظّفين؟ “نسدّدها”.
“النهار”: صمود ونضال
على جدار مكتب مدير تحرير “النهار” غسان حجار، ترتفع صورة جبران تويني لتُذكّر بأنّ قدر الديك عدم اليأس. تطال الأزمة الصحافة المكتوبة قبل المرئي والإذاعي والالكتروني، واليوم، كلّها معاناة وعذابات. تضع “النهار” خططاً، وفق ما يُتابع مدير تحريرها، للخروج من النفق، لكنّ الظروف معاكسة. في كلّ مرّة نرى الحلّ قريباً، يحدث ما يُبعده من اليد. إلامَ نحتاج اليوم، أستاذ؟ “إلى رؤية جديدة، وتكتّلات إعلامية كبيرة، وربما توحيد مؤسّسات لتوفير عدد العاملين، وإعادة هيكلية على كلّ المستويات. لسنا جاهزين بعد”. يتحدّث عن الأمل، وهو أولاً من ذلك الشجاع صاحب القَسم، الجريء، المُغامِر. يعلم جبران، من عليائه، أنّ الأمل في المحن عملٌ شاق، لكنّه قدر. للصحيفة الورقية ناسها برغم خسائرها، و”النهار” تراهن على الأوفياء. إذاً، ما مصير المؤسسة، وماذا عن مصير العاملين فيها؟ “حقوقهم محفوظة، وإن تأجّلت”، يجيب غسان حجار. “لم نتّخذ قراراً بالإقفال ورقياً. نناضل للاستمرار. قد نجدنا أمام خيار أخير مؤلم، فنتوقّف عن الصدور ورقياً. حتى الآن، نبحث عن حلّ ونأمل بإطالة العُمر. الأمور رهن الأزمة الكبرى وقسوتها على الإنسان والوطن. إن استمرّ الانهيار وارتفع حدّة، لن يبقى موظّف في قطاع. نواصل اليوم خطّ الصمود والنضال. نعلم حجم التضحيات. ليس سهلاً على مَن أصبحت المؤسسة جزءاً منه، مواجهة النهاية المفجعة. لن نكفّ عن محاولة الوصول إلى حبل النجاة. إن استسلمنا أقفلنا، عندها سنكون أمام مجزرة. أعني هنا الإرث والذاكرة والأشخاص والأمانة وحرّية لبنان. نتمسّك بالأمل، فنعبُر”.
رفيق خوري: انتهت تلك المرحلة
رجل عتيق في مهنة المتاعب، يشاء لو يفنّد المأساة في صفحات. يستعيد ذكريات السبعينات والثمانينات في “النهار” حين لم يكن ثمة متّسع لخبر في الصفحة الأخيرة، ومعظم الصفحة الأولى في الجريدة خلال فترة الأعياد. “انتهت تلك المرحلة”، يتحسّر. يتحدّث عن مأزق إعلاميّ عالميّ، يُضاف إليه الإفلاس السياسي والاقتصادي، لينهار القطاع برمّته في لبنان. يصف الإعلام بالزهرة في تربة، لكنّها اليوم يباس وصحراء. لا يخشى موت الصحافة، فلا التلفزيون مات بعد الراديو ولا الكتاب مات بعد الجريدة، بل على العكس، يسوّق الرقميّ للمكتوب. “تعكس الصحافة مجتمعاً مأزوماً في سياسته واقتصاده وثقافته ورؤيته للمستقبل. إن ازدهرت الأوطان، قدّمت نموذجاً إعلامياً مُشرقاً، وإن انهارت، لا نجاة لأحد”.
وزيرة الإعلام: إيجابية ووعود
سيّدة جديدة على وزارة مُشرَّعة على المُساءلة والمحاسبة، هي منال عبد الصمد. نسألها أي الخطط تضعين لفتح النافذة على شيء من النسائم الممكنة؟ تردّ بأنّها وضعت خطّة تترك تفاصيلها لمؤتمر صحافي تعقده بعد نيل الحكومة الثقة. “تتضمّن رؤية وأهدافاً، منها تحديث قوانين تحاكي التطوّر التكنولوجي، وتنظيم العلاقات بين المؤسسات، فلا ينافس “بلوغ” غايته تشويه السُمعة أي وسيلة إعلامية، فنحدّ من المنافسة غير المشروعة لمصلحة القطاع”. تتابع إنّ دور الوزارة تنظيميّ، إلى التواصل مع الخارج لتقديم صورة وطنية تليق بلبنان. أهذه كلّها شعارات؟ ترفض وتردّ: “إنّها معايير دولية لتقويم أداء الحكومات. كما أبهرنا المشهد الرائع في الشارع، علينا إفساح المجال أمام الحكومة لتعمل. استعادة الثقة تُحرّك الاقتصاد. دور الإعلام يتغيّر. المنصّات الرقمية قلبت الطاولة. بالتنظيم نُساعد في الحلّ، وبالانفراج الاقتصادي نبدأ من جديد. مُصمّمون، ولدينا أفكار إيجابية. العبرة في التنفيذ”.
المصدر: صحيفة “النهار” – فاطمة عبد الله