كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: حتى في أسوأ أيام الحرب، لم يحصل ان وصل لبنان الى مفترقات مصيرية خطيرة كمثل التي يقف عليها في هذه الفترة. فالصورة بشكل عام، تجتاحها كتلة غيوم داكنة تُطبق على أنفاس اللبنانيين، الّا انها لا تحجب وضع بلد يبدو أنه صار بلا افق، وكل منافذ النجاة مسدودة. ليس في هذا التوصيف مبالغة سوداوية، بل هي حقيقة تتأكد كل يوم ويعيشها الشعب اللبناني في كلّ أولوياته وثانوياته، وافتقاده الراعي الصالح المتحسّس للمدى الذي بلغه سوء حاله ووضعه، والساعي الى ايجاد حلول ومخارج تطمئنه وتبدّد خوفه وقلقه، لم يبقِ أمامه سوى خيار التحلي بالصبر، والتضرّع الى الله لكي يمدّه بقدرة الصبر والصمود والتحمّل، ريثما ينزاح الكابوس المزدوج الذي يرهقه اقتصادياً ومالياً ويهدّد حياته صحياً.
على المستوى الصحي، تتجه مساحة القلق من فيروس “كورونا” الى مزيد من الاتساع. وعلى الرغم من النشاط المكثّف الذي تقوم به وزارة الصحة في هذا المجال، الّا انّ الطابع الاعلامي هو الغالب على هذا النشاط، خصوصا انّ هذا الخطر الذي يشغل بال العالم بأسره، لم يقابل سوى بخطوات متواضعة، وترداد لإرشادات سطحية، فيما هو يتطلب لبنانيّاً اعلان حالة طوارىء صحية توفّر ما تتطلبه مواجهته واحتواؤه من امكانات واجراءات وقائية جدية وفورية سواء في المطار او على المعابر الحدودية، او في الداخل على مستوى المدارس والتجمعات.
نفط
على المستوى السياسي، تحضيرات على مستوى الحكومة لجلسة مجلس الوزراء المقبلة، بالتوازي مع مشاورات بعيدة عن الاضواء لانطلاق رئيس الحكومة حسان دياب في جولة خارجية أكدت اوساط السراي انها تشكل بنداً أولاً في اجندة رئيس الحكومة، الى جانب مواكبة الملف النفطي، مع وصول سفينة التنقيب لبدء عملها في البلوك 4 قبالة جبيل وكسروان، وهو الامر الذي كان محور الكلمة المتلفزة التي أطلّ بها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون امس، عشيّة البدء بحفر أول بئر نفطي، واعلن فيها انّ “لبنان سيشهد غداً يوماً تاريخياً، سوف يذكره حاضر لبنان ومستقبله، بأنه اليوم الذي دخل فيه وطننا رسمياً نادي الدول النفطية”.
واشنطن
على انّ اللافت للانتباه في المجال السياسي، الحضور الاميركي المزدوج، الأول عبر عقوبات متجددة فرضتها وزارة الخزانة الاميركية عبر ادراج 3 اشخاص و12 كياناً في لبنان على علاقة بـ”حزب الله” على قائمة الارهاب، متهمة الحزب بأنه يسيطر على الاقتصاد اللبناني كما يسيطر على السياسة”، والثاني عبر كلام لافت للسفيرة الاميركية في لبنان إليزابيت ريتشارد أدلت به عقب زيارتها الوداعية لرئيس الجمهورية واعتبرت فيه “أنّ لبنان يقف أمام نقطة تحوّل. في شهر تشرين الاول، خرج المواطنون من جميع الطوائف والمناطق إلى الشوارع للمطالبة بالأفضل من حكومتهم. إنهم على حق. لا يوجد هناك سبب لهذا البلد المبارك بالعديد من النعم، بما في ذلك الموارد البشرية المذهلة، بألّا يكون لديه في العام 2020 نظام حديث لإدارة النفايات، وكهرباء للجميع لأربع وعشرين ساعة سبعة أيام في الاسبوع، وكذلك قوة مسلحة واحدة تحت سيطرة الدولة واقتصاد متنام”.
وقالت: هذا هو الوقت المناسب لجميع المواطنين اللبنانيين لمعالجة قضايا الحكم والاقتصاد بشكل مباشر. يجب اتخاذ قرارات صعبة، وسوف يتحمل الجميع بعض العبء. إنني أعتقد أنّ الجميع يدرك أن النظام، في العقود القليلة الماضية، لم يكن يعمل وبالتالي هذه فرصة تاريخية للشعب اللبناني لقلب الصفحة”.
“كورونا” الاقتصاد والمال
على المستوى المعيشي والحياتي، لم تتلمّس السلطة الحاكمة بعد، طريق احتواء “كورونا” الاقتصاد والمال، على رغم كلّ الوعود التي قطعتها، فلا شيء ملموساً سوى مراكمة كلام لا يُغني ولا يسمن، بل انّ الملموس بصورة فاقعة، هو الاغماض المريب لعيون السلطة عن وحوش الغلاء ورفع الأسعار، وعن تجار العملة والمتلاعبين بالدولار وضرب العملة الوطنية، وكذلك عن اللصوصية التي تعتمدها المصارف بحق المودعين، والتي وصلت الى حد مصادرة رواتب الموظفين بالكامل، وتقطيرها في بعض المصارف بما لا يزيد عن 50 دولاراً، وكلّ ذلك يجري على مرأى ومسمع السلطة السياسية و”مصرف لبنان” الذي لا يحرك ساكناً!
تعديلات
وتوازياً، يبدو الداخل على ضفّتي الموالاة والمعارضة، في حال انتظار اولى المبادرات الحكومية على خط المعالجة الموعودة. واللافت هو اجتماع الطرفين على انّ الكلام عن خطوات موجعة وقاسية ليس مفيداً تكراره، بل المطلوب خطوات تنفيذية سريعة ولكن مؤقتة وليست دائمة.
وفي هذا السياق، قال مرجع نيابي لـ”الجمهورية” اننا مستعدون لأن نسهّل كل التشريعات والقوانين، للوصول الى الخطوات الاصلاحية المطلوبة، ونعطي جواً من الاطمئنان حيال ما هو آت.
وعلم في هذا المجال، انّ تحضيرات نيابية تجري لوضع مجموعة اقتراحات تعديلية للقانون المتعلق بالاثراء غير المشروع، وبالتركيز على الاموال المنهوبة والمهرّبة. واستعادة الاموال الناتجة عن إثراء غير مشروع.
فتوى الصندوق
وفيما ينتظر لبنان “الفتوى” التي سيصدرها صندوق النقد الدولي، بناء على محادثاته التي قام بها الى بيروت قبل ايام، أبلغت مصادر مطلعة على اجواء المحادثات الى “الجمهورية قولها: المرحلة الحالية هي لإجراء عملية جَوجلة لنتائج المحادثات مع الجانب اللبناني، وسيتلقّى لبنان “فتوى الصندوق” بعد ايام قليلة.
وقالت المصادر: وفد صندوق النقد لم يأت الى لبنان، ليقسمه او يضع يده عليه، او اي شيء آخر. بل هو حضر بدور استشاري، ولم يطلب احد من الصندوق وضع برامج، وليس صحيحاً أبداً ما يُقال عن انّ الصندوق يمارس التصلّب حيال لبنان، وأنه بصدد الفرض على لبنان ان يحدث ضرائب وغير ذلك، كل هذا الكلام غير صحيح. هذا ليس دورنا، لأننا لسنا نحن من يضع برنامج. بل انّ ما نريده هو برنامج مُنتج محلياً في لبنان، يراعي ظروف البلد. على اعتبار انّ اللبنانيين هم يدركون اكثر من غيرهم حجم أزمتهم ومتطلبات المعالجة.
واشارت المصادر الى انّ المطلوب هو ان تعدّ الحكومة اللبنانية خطتها او برنامجها للمعالجة، ودور الصندوق هو ان يتشاور معها في خطتها ويقدّم لها استشارته الفنية فيه. وحينما يرى الصندوق أمامه برنامجاً جيداً لديه فرصة للنجاح، سيباركه ويؤيّده حتماً، وهذه المباركة تعطي مجالاً للبنان لكي يكون حصوله على تمويل أسهل.
لكن الشرط الأساس للبرنامج او الخطة، كما تقول المصادر، هو ان يكون برنامجاً جدياً وشفافاً، والوعود التي ستقطع فيه ستنفذ، لا ان تكون وعوداً فارغة او مجرد حبر على ورق.
16 آذار
وقالت مصادر وزارية لـ”الجمهورية”: انّ الحكومة ستتخذ “القرار الصائب” في ما خَصّ سداد سندات “اليوروبوندز” او عدمه، وهو نابع بالدرجة الاولى من مصلحة لبنان، ومن السعي للحؤول دون اي تداعيات سلبية لهذا القرار، الذي لن يكون اعتباطياً.
وأشارت المصادر الى انه ما يزال امام لبنان مُتّسع من الوقت لاتخاذ قراره، وليس صحيحاً ما يقال انّ الوقت داهمنا، وانّ المطلوب هو ان نتخذ القرار خلال هذا الوقت وقبل 9 آذار المقبل، بل ما يزال امام لبنان فرصة لاتخاذ القرار تنتهي في 16 آذار المقبل، فيوم 9 آذار، هو آخر يوم لاستحقاق سندات آذار، وحقنا في القانون ان نطلب التمديد فترة اسبوع وهذا ما سيحصل. وخلال هذا الوقت، تكون الحكومة قد تلقّت ما سيقدم لها من الخلية الاستشارية، اي ما سينصحها به المصرف الدولي الذي ستختاره، مالياً، وكذلك ما سينصحها به مكتب الحقوق الدولي حقوقياً وقانونياً، وفي ضوء ذلك تتخذ قراراً مبنياً على معلومات صحيحة وعلى رأي علمي.
بري
الى ذلك، قال رئيس المجلس النيابي نبيه بري امام نواب الاربعاء امس، انّ “القرار الذي ينبغي اتخاذه بشأن استحقاقات “اليوروبوندز” يجب أن يكون قراراً وطنياً غير خاضع للمزايدات والتباينات. مُعتبراً في الوقت نفسه انّ “أقدس المقدسات ودائع الناس وتعبهم وجنى عمرهم”.
تعقيدات مالية
وفيما لا يزال الغموض يكتنف الموقف الذي ستقرره الحكومة حيال إصدار اليوروبوندز، لفتَ إقدام لبنان على دفع فوائد عن اليوروبوندز استحقّت امس (26 شباط 2020) بقيمة 71 مليون دولار. هذا الامر دفع البعض الى التساؤل ما اذا كان ذلك يعني انّ الحكومة لم تسقط من حساباتها بعد إمكان دفع مستحقات اليوروبوندز في 9 آذار المقبل، والتي تصل قيمتها الى 1.2 مليار دولار؟
وأوضح الوزير السابق المحامي كميل ابو سليمان انّ هذه الفوائد التي استحقت أمس لا علاقة لها باستحقاق سندات اليوروبوندز في 9 آذار المقبل، لأنها تعود الى غير إصدارات، وتأتي من ضمن 27 سلسلة متوجبة على الدولة.
واعتبر انّ السؤال الجوهري هو: هل الاولوية اليوم هي لدفع الاستحقاقات او للحفاظ على اموال المودعين واستعمال اموال مصرف لبنان للحاجات الضرورية مثل استيراد الادوية والقمح والبنزين وبقية الحاجات الماسّة للبنانيين عبر آلية شفافة؟
وأكد ابو سليمان انه من الافضل ألّا يدفع لبنان مستحقاته، جازماً بأن الحفاظ على أموال المودعين أولوية، مشدداً على ضرورة البدء في إعادة الهيكلة في اسرع وقت ممكن.
إهتمام فائق بلبنان!
الى ذلك، يبدو لافتاً الاهتمام الفائق الذي توليه وسائل الاعلام العالمية في هذه الايام للوضع المالي المتأزّم في لبنان، وفي مقدمها وكالة “بلومبرغ” المتخصّصة في شؤون المال والاقتصاد والاسواق. ولا يكاد يمر يوم من دون أن يتصدّر لبنان أخبار الوكالة.
وأمس، نشرت بلومبرغ تقريرين عن لبنان، الاول يتعلق بوضعية مصرف لبنان، والثاني يتعلق بسندات اليوروبوندز، وحيازة “أشمور” على نسبة كبيرة من استحقاقات 2020، من ضمنها استحقاق 9 آذار.
في التقرير الاول، أوردت معلومات تفيد انّ سندات اليوروبوندز التي يبلغ مجموعها حوالى 31 مليار دولار ليست المشكلة الاساسية التي يواجهها لبنان. وسلّط التقرير الضوء على المطلوبات التي يعانيها البنك المركزي، وقال انّ قيمة هذه الالتزامات تصل الى 52.5 مليار دولار في شكل ودائع بالعملات الأجنبية وشهادات إيداع ، وفقاً لحسابات قام بها توبي إيليس وجان فريدريك، المُحللان في هونغ كونغ في مؤسسة “فيتش”.
واعتبر التقرير انّ هذه الالتزامات المستحقة للبنوك اللبنانية تزيد من مشاكل البلاد، كما أنها تعقّد عملية إعادة هيكلة محتملة للديون من قبل الحكومة.
وقد بلغ إجمالي شهادات الإيداع 20,9 مليار دولار، ورغم أنّ القليل منها يستحق هذا العام أو العام المقبل، فإنّ أكثر من 8 مليارات دولار تستحق في 2022 و2023، وفقاً لـ”فيتش”.
في التقرير الثاني، تحدثت “بلومبرغ” عن المعركة الحادة التي قد تنتظر لبنان مع صندوق “أشمور”، في حال قررت الحكومة اللبنانية طلب جدولة الدين، أو إعادة هيكلته. إذ انّ “أشمور” متخصصة في الرهان على هذا النوع من السندات الخطيرة التي تدور حولها تساؤلات في شأن سدادها في موعد استحقاقها. وقد استحوذ الصندوق على سندات استحقاق 9 آذار، ورفع نسبة حيازته الى اكثر من 25 % وهي نسبة كافية ليتمكّن “أشمور” من وضع فيتو ومنع إعادة الهيكلة.
وقال كارمن راينهارت، الاقتصادي في جامعة هارفارد والنائب السابق لقسم الأبحاث في صندوق النقد الدولي: “إنّ رهان أشمور هو أن لبنان قد تم إنقاذه في الماضي، وسيتم إنقاذه مرة أخرى”.
أضاف رينهارت: “لبنان مثل فنزويلا مرة أخرى. ماذا يمكن أن نقول. ولكن حظاً سعيداً”.
نصائح متجددة
وقد لوحظ في الآونة الاخيرة تزايد في جولات موفدي المؤسسات المالية الدولية على المسؤولين اللبنانيين، وعلمت “الجمهورية” من مسؤول كبير انّ الهدف الاساس منها هي حَث اللبنانيين على اعتماد سياسة مغايرة للسياسات السابقة، واكثر إدراكاً لحجم الازمة. وبالتالي، الشروع في تطبيق ما تتطلبه الازمة من خطوات علاجية نوعية ومن دون ابطاء.
وبحسب المعلومات فإنّ الموفدين الماليين الدوليين لم يتلقوا من الجانب اللبناني اي مبرر حول “التقصير اللبناني” في مقاربة الازمة، مع علمهم انّ السبب الاساسي لذلك، هو التباين الحاد والصراعات المتتالية على المستوى السياسي. وقد سمع الموفدون إقراراً صريحاً بهذا الخطأ من قبل العديد من المسؤولين.
واللافت “انّ ما يذكر فيه الموفدون هو انّ لبنان سار في السنوات الماضية عكس سير مصلحته، وهذا ما تتحمّل مسؤوليته الحكومة، التي لم تستجب، على نحو ظهرَ فيه لبنان امام المجتمع الدولي في موقع المتراخي واللامبالي بالنصائح الدولية التي كانت تُسدى له، وتحذّر من انّ استمرار الحال على ما هو عليه سيجد لبنان نفسه أمام ازمة اقتصادية ومالية شديدة الخطورة، قد يصل معها الى وضع لا يمكّنه من احتوائها”.
ومن الأمثلة الفاقعة على “التقاعس اللبناني” كما عرضها الموفدون، سلسلة النصائح المتتالية، التي كانت ترد على لسان السفير الفرنسي بيار دوكان المعني بملف “سيدر”، ودعواته المتكررة الى تعيين الهيئات الناظمة في الكهرباء والطيران المدني والاتصالات، من دون ان يلقى استجابة من الحكومة، وكذلك النصائح التي أرسلها البنك الدولي اكثر من مرة الى الحكومة اللبنانية مُنبّهاً من الخطر المحدق بلبنان واقتصاده وماليته، ولعل ابرزها في ربيع العام 2017 حينما حمّل مسؤول الشرق الأوسط في البنك الدولي إيريك لوبون، نواباً لبنانيين التقوه في ذلك الوقت، تحذيراً خطيراً قال فيه: “إنّ سفينة لبنان فيها كثير من الثقوب التي تتسرّب منها المياه وهي معرّضة للغرق، والفجوة التي ستشكّل الضربة القاضية هي فجوة خدمة الدين المتصاعدة، والتي ستخرج قريباً عن السيطرة إذا لم يجد لبنان أجوبة سريعة لخفض العجز في موازنته”.
هذا الكلام عمره أكثر من 3 سنوات، وعلى ما عكسَ الموفدون الدوليون، ما زال يصلح الى اليوم، والكرة في ملعب الجانب اللبناني.