كتبت صحيفة “الجمهورية ” تقول : من دون أي رادع قانوني أو أخلاقي، تحرّكت “مافيا” اغتيال العملة الوطنية، من جديد، وحوّلت أوكار الصيرفة الى مسالخ لذبح الليرة، وغرف سوداء لدقّ أسافين خطيرة في البنيان اللبناني المتصدّع اقتصاديًا وماليًا، تهدّد بمزيد من الإفقار للشعب اللبناني.
هي جريمةٌ تُرتكب بحق البلد واهله، وفي الوقت القاتل اقتصاديًا وماليًا ومعيشيًا واجتماعيًا، وصحيًا، مع تعاظم القلق والخوف من ان يتغلّب فيروس “كورونا” على كل الإجراءات الوقائية المتواضعة التي تُتخذ في مواجهته، ومنع تفشيه في الأرجاء اللبنانية، مع ما لذلك من عواقب وخيمة، علمًا انّ عدّاد الإصابات سجّل في الساعات الماضية حالتين جديدتين، ليرتفع بهما العدد الإجمالي لحالات الـ”كورونا” في لبنان الى 15 حالة.
إغتيال الليرة جريمة موصوفة بحق البلد واهله، تُرتكب في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع اصحاب القرار، ويردّها مرتكبوها الى مقولة “العرض والطلب”، التي قفّزت الدولار الاميركي الواحد امس، الى ما فوق الـ2700 ليرة، ومجال التحليق مفتوح الى ارتفاع، فيما هم يتغطّون بشلل الدولة وعجزها، لا بل بإفلاسها واستسلامها لهذه المافيا، التي تتعالى الاتهامات في الاوساط الشعبية، وحتى السياسية، بأنّ هذه الجريمة تُدار من غرف مصرفيّة خاصة، وبتغطية مباشرة أو غير مباشرة، من مؤسسات مالية كبرى!
وما يثير الريبة في هذا المجال، أنّ أصوات من يُفترض أنّهم في موقع المسؤولين عن الدولة واهلها، قد اختفت بالكامل، ولم يبد اي منهم رفضاً او استنكاراً لهذا “الشفط المنظّم” لجيوب الناس، وبلع ما تبقّى فيها من قدر قليل من اموال يسدّون فيها حاجاتهم واولويات واساسيات عائلاتهم، فيما “مصرف لبنان” لم يرف له جفن، ويبدو وكأنّه على الحياد، أمام ما ترتكبه أوكار الصيرفة بالتعاطي مع الليرة اللبنانية كعملة متهالكة، كانت من نتيجتها الفورية تحرّك التجار، واعلانهم فلتان اسعار السلع الاستهلاكية الى حدّ بدأت معه القدرة الشرائية للمواطن تتدرّج نحو الانعدام.
المناخ الشعبي العام، يعكس حالاً يُرثى لها؛ الناس بكل فئاتهم، أُقفلت في وجههم سبل الخلاص والفرج، لم يعد لديهم ما يأملون به، في دولة صاروا كلهم ضحايا حكّامها وسياساتها والمهيمنين عليها، يعتبرونها ميّتة، فقدوا فيها الراعي الصالح، وقدرة التحمّل. لم يعد الجوع على الابواب، بل دخل الى قلب البيوت، والاحتقان يتعاظم، وبدأ يقرّب المسافة شيئًا فشيئًا، من اللحظة الحاسمة، لسلوك الناس احد الطريقين المتبقيين امامهم، يوصل الأول نحو الفوضى القاتلة اقتصاديًا واجتماعيًا ومعيشيًا وحتى امنيًا، ويقود الثاني الى ثورة شعبية عارمة ضد لصوص الهيكل، عنوانها لقمة العيش.
إرباك مسيطر
كل ذلك يجري، في الوقت الذي بلغت فيه الدولة أعلى درجات إرباكها في مقاربة سندات “اليوروبوند”، التي باتت على مسافة ايام من ان تستحق، وكذلك في صياغة الموقف اللبناني النهائي منها، إن لناحية دفعها في مواعيدها، أو لجهة الإمتناع عن الدفع، سواء بالتفاهم مع حاملي السندات او بالتعارض معهم.
وعلمت “الجمهورية”، انّ الساعات القليلة الماضية شهدت حركة مشاورات مكثفة على الخطوط الرئاسية كلها، وكذلك على مستوى رئاسة الحكومة ووزارة المالية والجهات المصرفية والمالية الرسمية والخاصة. وقد دارت هذه الاجتماعات وسط توجّه اكيد نحو عدم الدفع.
بري: المصارف خسّرتنا
في هذا السياق، جدّد رئيس المجلس النيابي نبيه بري رفضه الدفع المُسبق لسندات “اليوروبوند”، مشددًا على عدم المسّ بالودائع.
وقال بري امام نواب الاربعاء امس : “انّ غالبية الشعب اللبناني وكذلك المجلس النيابي، ترفض رفضاً مطلقاً الدفع المسبق للدين. والمطلوب دعم الحكومة من قِبل الجميع لهذا الموقف ولو أدّى الى التعثر”.
واشار بري، “انّ المصارف التي اوصلتنا الى خسارة نسبة الـ75% من الدين تتحمّل المسؤولية مع الشارين الأجانب، فإذا ارادوا إعادة الهيكلة من دون قيد او شرط ومن دون دفع اي مبلغ او نسبة من المبلغ او فائدة فليكن، عدا عن ذلك فإننا مع اي تدبير تتخذه الحكومة ما عدا الدفع، ومرة اخرى المسّ بالودائع من المقدّسات”. وختم مؤكّداً على وحدة الموقف الداخلي معارضة وموالاة، ووحدة وطنية لمجابهة هذه الأزمة.
لقاء رئاسي
وعلمت “الجمهورية”، انّ القرار اللبناني في شأن السندات سيُعلن بعد لقاء رئاسي في القصر الجمهوري في بعبدا آخر الاسبوع، يضمّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة حسان دياب. ولم تستبعد المصادر ان يكون هذا اللقاء موسعًا، بحيث قد يضمّ وزير المال غازي وزني ووزير الاقتصاد راوول نعمة، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ورئيس جمعية المصارف سليم صفير.
واشارت المصادر، انّ رئيس الحكومة، سيتولّى بالتوازي مع اعلان القرار اللبناني النهائي، الإعلان ايضًا عن الخطة الإنقاذية التي ستعتمدها الحكومة خصوصًا في هذا المجال، مع تحديد الأسباب الموجبة التي دفعت الحكومة الى اتخاذ قرارها بعدم الدفع. مع الاشارة الى انّ هذا الموضوع سيكون نقطة بحث خلال جلسة مجلس الوزراء التي ستُعقد اليوم، مع احتمال ان يعقد مجلس الوزراء جلسة ثانية مرتبطة بهذا الموضوع السبت المقبل.
وفاق وطني
وقال مرجع سياسي لـ “الجمهورية”: “القرار الذي سيصدر عن الدولة اللبنانية، ينبغي ان يكون قرارًا نابعًا ومظللًا ومعززًا بوفاق وطني شامل حوله من قِبل الموالاة والمعارضة في آن معًا، لأنّ الجميع في مركب واحد، ونجاته نجاة للجميع، وغرقه غرق للجميع. هناك ازمة كبرى ومعقّدة توجب اكبر قدر من التوافق الداخلي على تلمّس مخارجها وحلولها. وعلى هذا الاساس تمدّ الحكومة يدها الى المعارضة لكي تكون شريكة معها في عملية الإنقاذ”.
لا للدفع
الى ذلك، قال مرجع مالي لـ”الجمهورية”، انّ الاجتماعات والنقاشات واغراق المواطنين في متاهة دفع سندات “اليوروبوند” او الامتناع عن دفع قيمتها، لدى استحقاقها الاسبوع المقبل، هي مضيعة للوقت.
أضاف، ان لا قدرة للبنان على الدفع، وهناك من يسعى الى التحايل من خلال طرح نظريات عدة، منها شراء “اليوروبوند” بأسعار مخفّضة او عمليات “سواب”. لكن الواقع يقضي بعدم الدفع، لأنّ عكس ذلك يعني انّه لن تبقى اموال لشراء القمح والأدوية والمحروقات والسلع الحيوية بعد فترة من الوقت، كما يعني الافلاس.
وأشار المرجع، انّ هناك حاجة الى 5 مليارات من الدولارات الاميركية هذه السنة لشراء المواد الغذائية والحيوية للبنانيين، على مصرف لبنان ان يوفّرها تداركاً لحصول مجاعة وفوضى في الأمن الغذائي والصحي للمواطنين. واعتبر المرجع، انّ العنوان العريض لتوصيف الحالة اليوم هو “حرب مصالح بين 50 مصرفاً لبنانياً وبين الشعب اللبناني”، فإذا دفعت الدولة قيمة السندات تكون اختارت مساعدة الـ50 مصرفاً على حساب الشعب، فأيهما ستختار الدولة: البنك أم الشعب؟
ولفت المرجع، الى انّ على لبنان اخذ العِبرة من الكارثة التي حلّت بفنزويلا، فدينها نحو 100 مليار دولار مثل لبنان تقريباً، لكنها أغنى من لبنان بمئة مرة، وهي ثالث أكبر دولة منتجة للنفط في العالم. في لحظة من اللحظات وقبل انهيارها، اختارت ان تدفع قيمة سندات الدين المستحقة عليها، في الوقت الذي كانت تعاني من مشكلة نقص السيولة لشراء الغذاء والدواء، ورأينا اين وصلت. فهل المطلوب من لبنان ان يتعلّم من اخطاء فنزويلا او أن ينهار سريعاً مثلها؟
وأسف المرجع لوصول البنك المركزي الى ما وصل اليه واعتماده سياسة الهروب الى الامام.
لا سلبية او ايجابية
وبحسب مصادر وزارية معنية بهذا الملف، فإنّه حتى الآن، ما زالت هناك تباينات في الموقف بين الحكومة والجهات المصرفية اللبنانية، حيث ما زالت المصارف تشدّ في اتجاه ان يبادر لبنان الى دفع السندات، اقلّه المستحقة في 9 آذار الجاري، وهي بذلك تشدّ في اتجاه ان تتقاضى حصّتها لقاء السندات التي تحملها، فيما المشاورات مستمرة مع حاملي السندات من غير اللبنانيين. وحتى الآن لا نقول انّها تسير في منحى ايجابي او سلبي، علماً انّ لبنان تبلّغ صراحة انّ الجهات الخارجية الحاملة للسندات تفضّل ان يباشر لبنان بدفعها.
مماطلة أم ماذا؟
وعلى مسافة ثلاثة ايام من حلول موعد استحقاق إصدار “يوروبوند” بقيمة 1,2 مليار دولار، ما زال البعض يعتبر انّ المماطلة في اتخاذ القرار هي نوع من اضاعة وقتٍ ثمين، وانّ الميوعة ستؤدي الى تكبير حجم الأزمة بدلاً من حلّها. الّا انّ مصادر مواكبة لحركة الاتصالات الجارية في هذا الشأن، تلفت الى “انّ الغموض في هذا الموضوع بنّاء، ولو انّه غير مقصود”.
واعتبرت المصادر، “أنّ أزمة بيع السندات قبل الاستحقاق من قِبل المصارف اللبنانية الى مستثمرين أجانب، ما كانت لتحصل، لولا تسرّب معلومات حول وجود نيّة لدفع المال الى الأجانب، وتأجيل الدفع الى حَمَلة السندات اللبنانيين (مصارف) من خلال عملية “سواب”. وبالتالي، في مواضيع حساسة من هذا النوع، يُستحسن الحفاظ على التكتّم من اجل إنجاح المفاوضات عندما تبدأ.
وفي السياق، كشفت المصادر نفسها لـ”الجمهورية”، انّ القرار اتُخذ مبدئياً بعدم دفع الاستحقاق، والدخول في مفاوضات رسمية مع الدائنين على اعادة هيكلة وجدولة كامل الدين باليوروبوند (حوالى 31 مليار دولار)، وانّ ما يجري حالياً، هو تمهيد لتنسيق الخطة التي سيعتمدها لبنان في هذه المفاوضات، مع الدائنين المحليين ومع الدائنين الأجانب.
”هيركات”
في هذا الوقت، كشف مشاركون في المشاورات الجارية بين لبنان والمؤسسات الدولية حول موضوع السندات، بأنّ المسألة ليست بالسهولة التي يعتقدها البعض. فالحكومة اللبنانية في موقع حَرِج جراء العجز الكامل عن سداد السندات، والجهات الحاملة لسندات اليوروبوند في موقع حَرج ايضًا، لانّها امام خيارين كلاهما صعب ومرّ. الاول، الإصرار على السداد في الوقت المحدّد، فهذا معناه انّ لبنان لن يتمكن من الدفع، وان ذهبت الى المقاضاة، فقد تربح، الّا انّ لبنان لن يتمكن من الدفع، وبالتالي لن تستفيد شيئاً، وهذا معناه خسارة كاملة لها.
والثاني، القبول بالأمر الواقع، والتوافق مع الجانب اللبناني على سعر معقول للسندات، على ان يتمّ سدادها ضمن فترة معيّنة وبفائدة قليلة. وهذا معناه نصف خسارة، والبديهي هنا ان يختار حاملو السندات الخيار الثاني، اي نصف الخسارة، بدل ان يخسروا كل شيء.
بهذه الطريقة، يشير هؤلاء المشاركون، يكون لبنان قد اجرى نوعًا من ”الهيركات” لـ”اليوروبوند”، وعلى ذات المنوال يمكن للحكومة ان تتفق مع المصارف اللبنانية، وبعدها تتفق مع كبار المودعين، لتخفيض الفائدة على هذه الودائع.
ويوضح هؤلاء، انّ الاساس هو التوجّه نحو إعادة هيكلة الدين، فإن خسّرنا اصحاب اليوروبوند قليلاً، وحمّلنا المصارف اللبنانية بعض الخسارة (من ارباحها)، وحمّلنا كبار المودعين بتخفيض الفائدة على ودائعهم حتى 2%، وتمّ تخفيض فائدة الدين الداخلي الى 1%، علماً انّها حالياً 8%، وتسبّب خدمة دين بنحو 9 آلاف مليار ليرة سنويًا، ويترافق ذلك مع إلغاء عجز الكهرباء (2 مليار دولار سنويًا)، فبذلك يمكن ان يوفّر لبنان نحو ثلثي خدمة الدين، وساعتئذ ينتقل لبنان الى سكة المعالجة ويستطيع ان يعدّ موازنة متوازنة.
السرّية المصرفية
الى ذلك، لفت امس تقدّم النائب ميشال ضاهر عبر مجلس النواب، باقتراح قانون معجّل مكرّر لإلغاء السرية المصرفية بالكامل. وفي الاسباب الموجبة التي يعرضها الاقتراح، “الظروف الإستثنائية التي تمرّ بها البلاد، وعمليات تهريب الأموال غير المشروعة التي تزداد، والفساد الذي يتفاقم، وفي المقابل الدولة تنهار”، معتبراً انّ “هناك حاجة ملحّة للتسريع في بَت ملفات كثيرة لها علاقة بالفساد، كاستعادة الأموال المنهوبة وجرائم تبييض الأموال وغيرها من الجرائم، وأنّ السرعة تكمن في اتخاذ الخطوة الأولى والأساسية وهي رفع السرّية المصرفية عن الحسابات”.
لكن تقديم هذا الاقتراح قد يصطدم بحاجزين اساسيين يحولان دون إمراره: اولاً، موقف المصارف نفسها التي قد تعارضه. وثانيًا، مواقف القوى السياسية التي قد لا تجد الجرأة الكافية لرفع السرّية عن كل الحسابات، مع ما قد يستتبع ذلك من فضائح قد تطاول شريحة واسعة من المودعين المنتمين الى مختلف الاحزاب والقوى السياسية، خصوصاً انّ الاقتراح يشمل كل الحسابات المصرفية منذ العام 1991.