التوقّف عند كشف زيف التقرير الذي يتّهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتحويل أموال مفترضة إلى الخارج، ليس أمراً كافياً. كان لا بدّ من الاستمرار في البحث عن الجهة التي وقفت خلف الملف في السابق، وحاولت أن تعيد إحياءه اليوم. ذلك ليس تأييداً لسلامة، أو نكاية بمن «كشف» المعلومات، بل بدافع الواجب المهني الذي يشدّ أيّ صحافي ليعرف من يفبرك ملفات على هذه الدرجة من الحساسية، في هذه اللحظات الشديدة الخطورة من تاريخ لبنان، الاقتصادي والسياسي والصحّي والمالي.
فمن أراد استغفال الرأي العام وتشويه حقائق للفوز والاستثمار في السياسة؟ وما هو المردود السياسي المتوقّع؟ تغيير الحاكم والإتيان بحاكم جديد؟ طيّع في أيدي المفبركين؟ وهل يكون أفضل من سلامة؟ أو أسوأ؟ أو أنّ «الفبركة» أعادت الكرة إلى ملعب سلامة، كيف يصير هو الضحية، والبطل هو؟
في معرض الحديث مع الخبير المقيم في فرنسا، ألبير فرحات، عاد الأخير وكشف في اتصال جديد مع «أساس»، عن تطوّرات حديثة طرأت على الملف خلال الأيام الأخيرة. قال فرحات إنّ صحافياً أميركياً مقيماً في الولايات المتحدة، «سينشر بياناً في الأيام المقبلة يعيد التذكير بالذي حصل معه في الملفّ، وكيف فات بالحيط ثم اعتذر»، بحسب تعبيره. هذا الصحافي الذي فضّلَ فرحات عدم كشف اسمه الآن، سبق أن عُرض عليه الملف قبل نحو 4 سنوات، ونشر بعضَ تفاصيله ثم اضطر إلى سحبها والاعتذار.
فرحات يتحفظّ، حتّى اللحظة، عن ذكر اسم الجهة اللبنانية التي أعدّت الملف أو أمرت بإعداده وكيفية وصوله إلى الشركة، مع الصولات والجولات والرحلات التنسيقية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من أجل تسويقه ونشره، وذلك لاعتبارات ما زالت حتّى اللحظة مجهولة. لكنّه في هذا الصدد كشف أنّ مدير شركة «كريستال كريدي» الفرنسية ومالكها كيفين ريفاتون (الذي يتلقّى عشرات الاتصالات والرسائل للاستفسار عن الملفّ ولم يُجب عليها)، أخفى عليه اسم الجهة في حينه، وقال له إنّ الملفّ وصله من الولايات المتحدة، وهذا «لم يكن صحيحاً أبداً».
خلال المحادثة، أكد فرحات أنّ «أوساط رئيس الجمهورية ميشال عون» كانت على علم بالملف قبل سنوات، ملمّحاً أيضاً إلى الوزير جبران باسيل. أخبرنا فرحات أنّه بعث في نهاية العام 2016 إلى الرئيس عون «عبر نواب ومسؤولين في التيار يتردّدون إلى باريس»، برسالة مفادها أنّ «تصفية الحسابات مع رياض سلامة يجب أن تحصل بعيداً عن مصلحة اللبنانيين»، كاشفاً أنّ «الرسالة قد وصلت، حسبما عرفتُ لاحقاً».
فرحات سمّى اثنين من ثلاثة نوّاب حمّلهم الرسالة وتحفّظ على تسمية ثالثهم.
النائب في كتلة «لبنان القوي» سيمون أبي رميا يقول، إنّه «لا يذكر» تواصله مع الأخير في فرنسا، لأنّ الأمر «فات عليه زمن طويل»، كما أنّ ظروف العمل «تحتّم علينا لقاء الكثير من الناس»، لكنّه أكّد عدم صلته بالموضوع «لا من قريب ولا من بعيد».
كذلك فعل النائب آلان عون الذي لم ينفِ ذهابه إلى باريس برفقة أبي رميا في العام 2016. قال بصراحة إنّه «لا يذكر» إن كان أحد قد طلب منه نقل أيّ رسالة في حينه، مؤكداً أنّ الأسبوع الفائت كانت المرّة الأولى التي يسمع بالملفّ وتفاصيله. أما نائب رئيس التيار الوطني الحرّ السابق، رومل صابر، المقرّب جداً من باسيل، فنفى علمه بالموضوع أيضاً (فرحات يقول إنّه أوصل إليه الرسالة مع قريب له من آل صابر). هؤلاء هم الشخصيات التي ذكرها فرحات، إضافة إلى شخصية رابعة نتحفّظ عن ذكر اسمها الى حين استيضاحها.
«أساس» ستتابع الأمر مع حاكم مصرف لبنان ، لأنه الجهة المعنيّة الأولى والوحيدة التي فجّرت أسماء الأطراف الضالعة في الملف في بيانه الأخير.
الزميل جان عزيز واكب تلك المرحلة أيضاً، وكان مقرّباً من دوائر القرار في بعبدا وفي التيار، وقد أكّد أنّه عَلِمَ في حينه بوجود هذا الملفّ من مصدرين. الأول هو أوساط التيار، والثاني هو جريدة «الأخبار» حيث كان يعمل. قال عزيز إنّ الصحيفة علمت بالملفّ، ويبدو أنها دقّقت فيه وتجنّبت الخوض به بعد أن كشفت زيفه، إلاّ أنّ فرحات يربط اعتبارات الصحيفة بمخاوف قضائية «وتنفيذاً لتعليمات الجهات السياسية المقرّبة منها». زِد على ذلك أنّ «الأخبار» كانت ولا تزال خطّ الهجوم الأوّل والأقوى والمستمرّ، بوجه الحاكم سلامة.
ولدى سؤالنا عزيز عن احتمال أن يكون أحد من التيار متورّطاً بالملف، تحديداً الوزير جبران باسيل، استبعد الفرضية «لأنّ باسيل لا يدخل في مواضيع كهذه. حتىّ مساعديه لا يتجرّأون على أمر بهذا الحجم ولا قدرة لهم على تحمّل تبعاته»، نافياً علمه بأكثر مما أخبرنا إياه، كما لم يستبعد في نهاية حديثنا أن يكون للملفّ «أبعاد مالية ومصرفية وليس بالضرورة سياسية فقط».
ليس سراً أنّ الفصل بين البُعدين المالي المصرفي من جهة والسياسي من جهة أخرى اللذين ذكرهما عزيز في لبنان، يشبه محاولة «فصل الدبس عن الطحينة». وعليه، فإن «أساس» ستتابع الأمر مع حاكم مصرف لبنان ، لأنه الجهة المعنيّة الأولى والوحيدة التي فجّرت أسماء الأطراف الضالعة في الملف في بيانه الأخير.
اليوم ثمّة من أراد الاستثمار مجدّداً بالملف، والنتيجة واضحة. معلومات «أساس» تؤكد أنّ مُسرّب الملف إلى ديما صادق هو أحد «الوزراء أو الوزيرات» في حكومة حسان دياب. ممّا يؤكّد أن الملفّ قد يكون رأس جبل جليد مخطّط أكبر من حملة إعلامية.