من ظنّ من أهل السلطة أنّ ثورة 17 تشرين انطفأت شعلتها وسقطت قبضتها خاب ظنه بالأمس، فها هم ناس الثورة قد عادوا إلى الشوارع بزخم متصاعد ووجع متزايد تحت وطأة اشتداد كماشة الغلاء والوباء، بينما حكومة 8 آذار مشغولة بتصفية حساباتها مع خصومها لإحكام قبضتها على الدولة ومرافقها. فبعدما ولّى زمن كورونا عادت المواجهة إلى الواجهة… الثوار مجدداً إلى الشارع والسلطة عادت لتتصدى لهم بالهراوات العسكرية والأمنية، واضعةً الجيش في “بوز المدفع” لقمع التحركات الشعبية المتجددة من الشمال إلى البقاع مروراً بجل الديب والزلقا والزوق وصولاً إلى ساحة الشهداء وعدد من ساحات العاصمة.
هي “الجولة الأخيرة” من النزال على حلبة الصراع المستمر منذ 17 تشرين. في الجولات الأولى اهتزت السلطة ولم تقع فربحت بالنقاط على الثوار، واليوم لا شكّ في أنها ستكشّر عن كل ما أوتيت من أنياب وميليشيات وأدوات قمعية لمنع سقوطها بالضربة الشعبية القاضية، لا سيما وأنها تعلم أنّ المواجهة ستخوضها هذه المرة وجهاً لوجه مع مواطنين تدرّجوا وتمرّسوا في القتال باللحم الحيّ حتى بلغوا التصفيات النهائية من “الجوع والبطالة”.
وإذا كانت عين المنظومة الحاكمة شاخصة باتجاه التحركات الميدانية ومنحاها التصعيدي التصاعدي الذي دقّ خلال الساعات الأخيرة أبواب بيوت النواب في بعض المناطق قبل أن تسلك الأمور ليلاً منزلقات دموية في طرابلس مع سقوط عدد من الضحايا في المواجهات مع القوى العسكرية، فإنّ عينها الأخرى متجهة إلى تسخير مجلس الوزراء لتوليه مهمة تسطير الفرمانات والقرارات الكيدية والانتقامية ضد كل من تسوّل له نفسه معارضة أجندتها السياسية. واليوم سيكون جدول أعمال الحكومة حافلاً ببنود تحاكي في ظاهرها عملية مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، لكنها تحيك في باطنها خيوط إحكام قبضة قوى الثامن من آذار على الدولة، خصوصاً وأنّ اقتصار بند التحقيقات المالية والوزارية على فترة “الخمس سنوات الماضية” يؤكد النزعة الكيدية نحو “الاقتصاص من الخصوم السياسيين الذين تولوا المهام الوزارية خلال هذه المدة مقابل التغاضي عن مسؤولية الوزراء العونيين عن هدر المال العام خصوصاً في حقيبتي الطاقة والاتصالات قبل هذه الفترة” حسبما أشارت مصادر سياسية معارضة لـ”نداء الوطن” مؤكدةً أنّ “رئيس الجمهورية ميشال عون هو من كان يصرّ على تحديد هذا البند ضمن إطار زمني لا يتعدى الخمس سنوات لكي تطال التحقيقات الأحزاب والوزراء المعارضين لعهده من دون أن يصل سيف المحاسبة إلى الفترات السابقة إبان ولاية جبران باسيل وأعوانه من الوزراء في وزارتي الطاقة والاتصالات”.
وتحت وطأة البلبلة التي أثارها هذا البند تسارعت الاتصالات خلال الساعات الأخيرة على أكثر من خط، حسبما نقلت مصادر وزارية لـ”نداء الوطن” وتقرر بنتيجتها “درس إدخال بعض التعديلات على المشروع المقترح بهذا الصدد”، مشيرةً إلى أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ساهم في وضع بعض الملاحظات على البنود المطروحة وسيعمد وزيراه في الحكومة غازي وزني وعباس مرتضى إلى طرحها على طاولة مجلس الوزراء اليوم لا سيما في ما يتعلق بالآلية المقترحة لاسترداد الأموال المنهوبة ومكافحة التهرب الضريبي “لكي لا يصار إلى استخدامها كأداة تنفيذية في عملية تصفية الحسابات السياسية”.
وفي السياق المتوجس من أداء السلطة ونوازعها الكيدية، برز أمس لقاء رؤساء الحكومات السابقين في بيت الوسط للتأكيد على الجهوزية في مواجهة محاولات “العهد الإلغائية”، وعلمت “نداء الوطن” أنّ لقاءً آخر لرؤساء الحكومات السابقين سيعقد الأسبوع المقبل لاستكمال المشاورات وبلورة الصورة أكثر في سبيل التصدي لهذه المحاولات. وفي وقت كثرت التساؤلات خلال الفترة الأخيرة عما إذا كانت القوى المعارضة تستعد لتشكيل جبهة سياسية موحدة في المرحلة المقبلة تضم “المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية”، لفت الانتباه بالأمس موقف لرئيس حزب “القوات” عبر قناة “العربية” أكد فيه استعداده لتشكيل مثل هذه الجبهة لكن على أساس “برنامج واضح من دون أن تشوبه أي خلافات”، كاشفاً في هذا الإطار عن اتصالات ومشاورات مع “المستقبل” و”الاشتراكي” لتنسيق المواقف، مع الإشارة في الوقت عينه إلى أنّ “المشكلة الأكبر في البلد هي “حزب الله” ولا بد من تغيير المنظومة الحاكمة”.
في الغضون، أفادت مصادر ديبلوماسية “نداء الوطن” بأنّ “مجموعة الدول المانحة تخوض حالياً عملية تشاور وتدارس للأوضاع في لبنان بعدما لاحظت من المجريات الأخيرة أنّ “حزب الله” مستمر في محاولات وضع اليد على البلد”، مشيرةً إلى أنّ “المجموعة الدولية تلمس أنّ حكومة حسان دياب لم تُقدم حتى الساعة على اتخاذ أي خطوة إصلاحية إنما على العكس من ذلك عمدت إلى زيادة منسوب التوتر السياسي في لبنان بخلاف كل التحذيرات الدولية”.
وبناءً على ذلك، كشفت المصادر الديبلوماسية أنّ “الدول المانحة تتشاور في ما بينها وبالتنسيق مع الخزانة الأميركية لإصدار بيان يكون شديد اللهجة إزاء المستجدات اللبنانية”، إلا أنها أشارت في الوقت عينه إلى “تباينات في المواقف بين بعض الدول إزاء مستوى الحدة المطلوبة في التعامل مع الملف اللبناني”، لافتةً إلى أنه “في حال حصول توافق على إدراج مضامين وعبارات قاسية في البيان المنوي تبنيه فإنه سيشكل بذلك مقدمة لتعامل دولي أكثر حزماً مع السلطة اللبنانية يبدأ بلهجة تحذيرية إزاء محاولات “حزب الله” إحكام قبضته على المؤسسات الرسمية وقد يصل إلى إصدار حزمة عقوبات أميركية جديدة أشد وطأة على الحزب وحلفائه”.