يقف لبنان على حافتَي هاويتين في وقت واحد، تفصله عن الوصول الى أعماقهما الكارثية شعرة؛ فلا التعبئة العامة في مواجهة «كورونا» تلقى الاستجابة الكاملة مع التراخي الذي يرتكب في بعض المناطق، ولا الهاوية الاقتصادية وجدت حتى الآن العقلية السياسية المسؤولة التي تدرك انّ الازمة التي يتهاوى فيها البلد وأهله توجِب ان يخرج السياسيون من خلف متاريسهم، ويركّزوا كل حواسهم لالتقاط البلد قبل السقوط النهائي، وليس كما هو حاصل في هذه الايام، بالتنقّل من اشتباك الى اشتباك، وتحت عناوين مصلحية وكيدية وشعبوية وتفاصيل آنية تافهة، ولهدف وحيد هو قضم الجزء الأكبر من قالب الجبنة اللبنانية السياسية والمالية والادارية!
«كورونا» ضَمّ بالأمس 5 مصابين بهذا الوباء، 3 من المقيمين و2 من الوافدين، ما يرفع العدد الاجمالي الى 891 مصاباً، ولعلها نسبة كان يمكن ان تكون أقل، وربما معدومة لو بادَرت الجهات المسؤولة في الدولة الى التشدد اكثر وفَرض هيبتها الرادعة للمخالفين، فحياة الناس وحمايتهم تبرّر لها اتخاذ إجراءات بحق هؤلاء مهما كانت قاسية.
حسن
وأكد وزير الصحة حمد حسن وجوب «أخذ الاحتياطات المطلوبة مع القادمين من الخارج»، لافتاً الى اننا نحتاج الى تعاون مجتمعي لنمرّ الى مسار العودة الى الحياة الطبيعية بحذر ودقة. وقال بعد اجتماع المجلس الصحي الأعلى: «إذا أردنا تخفيف بعض إجراءات التعبئة العامة، فإنّ ارتداء الكمامة أصبح إلزامياً لأنه يَقي بنسبة 95 % من انتقال العدوى». ودعا حسن إلى ضرورة التنسيق والتعاون وتحميل القوى الأمنية والبلديات المسؤولية إضافة إلى المسؤولية المجتمعية للالتزام بتدابير الحجر.
وأكّد أنّ الوزارة تقوم بتتبّع أهالي العسكريين الذين سُجلت إصابتهم بكورونا. وتمنى على المواطنين ان يتجاوبوا مع ارشادات وتعليمات الحكومة ووزارة الصحة، قائلاً: «علينا أن نعمل جميعاً كي لا يحصل في لبنان المشهد الكارثي الذي رأيناه في بعض الدول».
إرتكابات ومحاضرات بالعفّة
أمّا في السياسة، فكأنّ البلد مزنّر بأسلاك كهربائية عالية التوتر، والقوى السياسية على اختلافها تلسع بعضها بعضاً، وتكشف عورات بعضها بعضاً وارتكاباتها وادوارها في الصفقات وسرقة المال العام وإهداره، وتغطي نفاقها بمحاضرات العفة والحرص على مصالح الناس. وامام هذه الصورة، يبدو المشهد الداخلي مرشحاً الى مزيد من العبث السياسي، وباب الاشتباكات المفتعلة مفتوع على مصراعيه مع ما تكشفه التحقيقات من ارتكابات نافذين، ومختلسين، ومشاركين في صفقات، وفي جريمة اغتيال العملة الوطنية ورفع سعر صرف الدولار الى مستويات خيالية، وكذلك مع الشحن والحقن الذي تبثّه المؤتمرات الصحافية من هنا وهناك. كل ذلك يحصل، في وقت يمرّ لبنان في أصعب لحظاته المصيريّة على كل المستويات، وخصوصاً مع بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
قبل بدء المفاوضات مع صندوق النقد، ظنّ المواطن اللبناني أنّ نسمة حرص عابرة على البلد، ضربت المستوى السياسي، حينما تزاحَم الطاقم السياسي على الدعوة الى تحصين المفاوض اللبناني وتوفير كل المستلزمات التي تمكّنه من الصمود على طاولة المفاوضات، وعبور هذا الاستحقاق بالشكل الذي يؤمّن مصلحة لبنان ويمنعه من السقوط نهائياً في هاوية اقتصادية ومالية لا قيامة منها.
مآخذ بالجملة
ولكن مع بدء المفاوضات خابَ ظنّ المواطن اللبناني، وما اعتقد انها نسمة حرص، كانت مجرّد فقّاعة إعلاميّة عابرة، وتُرك المفاوض اللبناني وحيداً، ومن خلفه واقع متفجّرٌ سياسياً، وعلى كل المستويات ونتيجته الفورية اضعاف موقف المفاوض اللبناني. وهو أمر لم يتأخر ممثلو صندوق النقد الدولي في إثارته امام الجانب اللبناني، وإدراجه في رأس ما وصفه مطّلعون على مسار المفاوضات مع صندوق النقد «قائمة مآخِذ بالجملة»، التي سجلها صندوق النقد على الدولة اللبنانية، والتي يندرج في مقدمتها أكثر المآخذ إحراجاً: «تبيّن انّ لبنان هيكل رملي في اقتصاده وماليته، ومن الطبيعي ان يهوي لأنه بلا اسس صلبة، وبالتالي ولم نتفاجأ بانهياره».
المفاوضات
من السابق لأوانه الحديث عن سلبية او ايجابية للمفاوضات مع صندوق النقد، ولكن يمكن التأكيد وبناء على ما دار من أبحاث بين الجانبين على أنّ النقاشات لم تكن مريحة للجانب اللبناني بالنظر الى ما سمعه من تفاصيل مع ممثلي الصندوق، علماً انّ جلسة تفاوض جديدة عقدت أمس عبر الانترنت بين ممثلي الصندوق وممثلي وزارة المالية.
وأبلغت مصادر موثوقة الى «الجمهورية» قولها انّ معنويات المفاوض اللبناني تعرّضت لبعض الاهتزاز مع غياب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن اجتماع التفاوض الموسّع الاربعاء الماضي، وهو ما تمّت ملاحظته من قبل الحاضرين، حيث تقرر ان يعقد ممثلو الصندوق اجتماعاً عبر الانترنت، الاثنين المقبل مع حاكم مصرف لبنان والاستماع الى عرضه للسياسة النقديّة وما لديه من ملاحظات.
ولفتت المصادر الى أنّ الاجتماع، الذي قاطَعه سلامة، دام أقل من ساعتين، وقدّم وزير المالية غازي وزنة عرضاً شاملاً للوضع الاقتصادي والمالي من ضمن خطة التعافي التي وضعتها الحكومة، ورَدّ على كثير من الاستفسارات التي طرحها ممثلو الصندوق.
أرقام الخسائر مختلفة!
إلّا انّ اللافت للانتباه هو الملاحظات التي أوردها صندوق النقد، وبعضها كما تقول المصادر الموثوقة أقل ما يقال فيها انها «مُحرجة للجانب اللبناني»، وعلى وجه التحديد ما لاحَظه ممثلو صندوق النقد من اختلاف غير مفهوم بين أرقام خسائر لبنان المحددة في الخطة الاقتصادية للحكومة اللبنانية، وبين أرقام الخسائر التي يحددها مصرف لبنان، وهو أمر كان محلّ استغراب شديد لدى صندوق النقد، الذي طلب بناء على ذلك من الجانب اللبناني ضرورة الاتفاق على ارقام موحدة قبل بدء البحث في الامور التالية.
وأوضحت مصادر معنيّة بالمفاوضات لـ»الجمهورية» انّ مسألة الاختلاف بالارقام تبدو معقدة، لأنّ كل طرف يعتبر انّ ارقامه هي الدقيقة، مع انها ارقام تؤشّر الى خسارة كبيرة للبنان، وهو أمر سيتم تبديد الالتباسات حوله في وقت ليس ببعيد. وبالتأكيد انّ الارقام الدقيقة هي في حوزة مصرف لبنان، الذي لم يعد أمامه مهرب من ان يُفصح عنها بالكامل، وكيفية إنفاقها.
ولفتت المصادر الى انّ غياب حاكم مصرف لبنان عن الاجتماع الاول هو من باب تسجيل الموقف، فهو مُستاء من خطة الحكومة، وهو ما جرى التعبير عنه بشكل غير مباشر من قبل المصارف التي أعلنت اعتراضها علناً على الخطة. والسبب الأساسي لاستياء سلامة هو «انّ الخطة الانقاذية للحكومة حدّدت خسائر مصرف لبنان، من دون ان تسأل مصرف لبنان، فضلاً عن انه بمجرّد ان يقال انّ خسائر مصرف لبنان بلغت كذا وكذا، فمعنى ذلك تحميل السلطة النقدية وحدها مسؤولية الخسائر، وتَناسي السلطة المالية والسياسية التي سَبّبت العجز الذي كان مصرف لبنان يسعى الى تغطيته».
واشارت المصادر الى انه على الرغم من تحديد يوم الاثنين موعداً لاجتماع عبر الانترنت بين وفد الصندوق وحاكم مصرف لبنان، فلم يتأكد بعد ما اذا كان سلامة سيحضر، أو انّ الحضور سيقتصر على ممثّلي مصرف لبنان في الوفد اللبناني المفاوض.
مطالب الصندوق
وبحسب المصادر الموثوقة، فإنّ فريق صندوق النقد بَدا أنه على دراية عميقة بتفاصيل الوضع اللبناني، وأورد امام الجانب اللبناني سلسلة مطالب ضرورية وملحّة بالنسبة إليه ومفادها:
– اولاً، تحرير سعر الليرة اللبنانية.
– ثانياً، التعجيل بالاصلاحات والتعيينات المرتبطة بها، في القطاعات المختلفة. (ويندرج في سياق هذه التعيينات، تعيينات مجالس الادارة والهيئات الناظمة، وكذلك التعيينات المالية. وحولها أكدت مصادر وزارية لـ»الجمهورية» انّ التعيينات المالية على نار حامية، وتحتل حالياً الاولوية لإتمامها في وقت قريب جداً، وإخراجها كتعيينات نظيفة بعيداً عن التسييس وضمن معايير الجدارة والكفاءة والخبرة).
– ثالثاً، المعالجة السريعة لملف الكهرباء (تعيينات، تفعيل، زيادة تعرفة) بما يُنهى الحالة الشاذة الذي يمثّلها العجز المتراكم والمرهق للخزينة اللبنانية.
– رابعاً، اعادة النظر في موازنة العام 2020، التي هي في الاساس موازنة غير جدية وغير مقنعة، وهي في الاساس بعيدة كلياً وبمسافات بعيدة جداً عن الواقع اللبناني الحالي اقتصادياً ومالياً. وهذه الموازنة، مع تطوّر الوضع في لبنان وصولاً الى الواقع الراهن، لا تَتطابق ولا تتناسب مع الواقع الاقتصادي والمالي في لبنان، ولذلك لا بد من اعادة تعديلها بالشكل الذي يجعلها متطابقة ومتناسبة مع الواقع الحالي، وتضمينها الابواب المُجدية والضرورية لتوفير ايرادات للخزينة. عملياً، يبدو طلب صندوق النقد بتعديل موازنة 2020 وكأنه يطلب إعادة بنائها من جديد ومن ثم إقرارها من جديد في المجلس النيابي. ومن شأن هذا الأمر ان يخلق حالاً إرباكية اضافية للحكومة، التي عليها، لإنجاز هذا الأمر، أن تطلب من كل الوزارات تزويدها بالارقام والاحتياجات والضرورات واللاضرورات، لوضع التعديلات اللازمة والتي يرى صندوق النقد ان يتم ذلك على وجه السرعة.
– خامساً، أن تبادر الحكومة اللبنانية سريعاً الى اعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديد اي مصارف يجب ان تتعرّض للتصفية، واي مصارف قادرة على الاستمرار.
لقد فشلتم
وبحسب مشاركين في المفاوضات فإنّ ممثلي صندوق النقد تعاطوا بالوقائع والارقام، ولم يبدوا لا إيجابيين ولا سلبيين، بل لعبوا الدور المتوقّع منهم، والذي يقومون به مع أي دولة تدخل معهم في مفاوضات كهذه. قالوا لنا: أنتم فشلتم، لم تقوموا بإصلاحات، ولديكم مشكلات كثيرة، ويجب ان نناقشكم حول ما اذا كنتم ستصرفون المساعدات التي قد تأتيكم في مكانها الصحيح.
ورداً على سؤال عن المدى الذي ستستغرقه المفاوضات، قال مصدر وزاري معني بها لـ»الجمهورية»: بالتأكيد انّ الدولة اللبنانية مستعجلة، الآن بدأنا التفاوض، والطريق طويلة وليست سهلة، ولا نتوقع ان تستمر المفاوضات وقتاً طويلاً.
وحول الموضوع نفسه قال خبير بشؤون المؤسسات المالية الدولية لـ»الجمهورية»: من الخطأ الحديث عن فترات زمنية للتفاوض، فقد يأخذ فترة قصيرة جداً، وقد يأخذ ايضاً، جرّاء تفصيل بسيط، فترات طويلة.
وقال: مفاوضات من هذا النوع تستغرق بين ثلاثة اشهر الى ستة،
واذا كانت سريعة وميسّرة قد تستغرق ثلاثة اشهر، وإن كانت تسير بوتيرة عادية قد تستغرق ستة اشهر. امّا اذا برزت في الطريق عراقيل ومطبّات غير متوقعة، فقد تطول حتى تسعة اشهر. وفي حالتنا في لبنان، كلما استطاعت الدولة اللبنانية ان تلبّي متطلبات الصندوق، وان تقوم بالاصلاحات وتقدّم للعالم صورة عنها بأنها جدية ومُقبلة على الانجاز والاصلاح، فإنها بذلك تتمكّن من الوصول الى نتائج سريعة، وكلما تأخّرت في الانجاز والاصلاح، فإنّ مسؤولية التأخير عليها.
وزنة
الى ذلك، قال وزير المال غازي وزنة إنّ «لبنان مستعد لتلبية طلب صندوق النقد الدولي بتعويم سعر صرف الليرة، لكن بعد تلقّي لبنان الدعم الخارجي، على أن يُعتمد في المرحلة المقبلة سعر صرف مَرن».
ولفت وزنة الى انّ «صندوق النقد يطلب دائماً تحرير سعر صرف الليرة. هم يريدون توحيد أسعار الصرف والتعويم، لكنّ الحكومة اللبنانية طلبت مرحلة انتقالية تمرّ بسعر الصرف المَرن قبل أن نصل إلى التعويم».
وأضاف: «علينا تعديل سياسة التثبيت إلى سياسة سعر الصرف المَرن في مرحلة أولى وعلى المدى المنظور، وحين يصلنا الدعم المالي من الخارج ننتقل إلى التعويم».
ورداً على سؤال، قال وزنة انّ «الحكومة اللبنانية ترغب بخفض عدد المصارف التجارية من 49 إلى نحو النصف».
وأمل الانتهاء من المفاوضات مع صندوق النقد في أسرع وقت. وقال: «كلما أسرعنا في الانتهاء من موضوع المفاوضات كان ذلك أفضل للبنان»، مشيراً إلى أنّ «الاتفاق مع صندوق النقد يعطي مصداقية لبرنامج الحكومة، ويفتح أفق لبنان أمام مؤتمرات الدعم الدولية ويسهّل التفاوض بين لبنان والدائنين».
ورجّح أن يقرّ مجلس النواب خلال الأسابيع المقبلة مشروع «كابيتال كونترول».
الصرّافون وارتفاع الدولار
في ملف التحقيقات في موضوع الصرافين، على خلفية وجود شبهة بالتلاعب في أسعار صرف الدولار، طرأ تطوّر نوعي أمس، تمثّل بقرار مصرف لبنان كشف السرية عن عملياته مع الصرافين، والتي تبيّن بموجبها انّ المركزي اشترى في غضون شهر حوالى 11,300 مليون دولار من الصرّافين وباعَهم في المقابل حوالى 12,705 مليون دولار، بما يعني انه باع اكثر ممّا اشترى، وهذا الواقع يدحَض نظرية المؤامرة، والتي تحدثت عن عمليات يقوم بها المركزي لجمع الدولارات من السوق، الأمر الذي أدّى الى ارتفاع سعر صرف الدولار بصورة دراماتيكية في الاسابيع الأخيرة. وقد جاء قرار رفع السرية عن العمليات مع الصيارفة في أعقاب اجتماع عقدته «الهيئة الخاصة لمكافحة تبييض الأموال»، تقرّر خلاله الكشف عن المعلومات بهدف تزويدها الى المدعي العام.