لا يزال بعض المسؤولين الحكوميين ومستشاريهم يُدافعون عن أرقام الخطة المالية للحكومة مدعومين بتصاريح من قبل مسؤولين في صندوق النقد الدولي. هؤلاء صرّحوا في عدّة مناسبات أن أرقام الحكومة هي أقرب إلى توقّعات صندوق النقد في ما يخص الخسائر والتي تمّ تقديرها من قبل فريق المستشارين بـ 241 ألف مليار ليرة لبنانية!
خطة مستشارين
فَرَحُ فريق المستشارين بهذا الدعم من قبل الصندوق، يأتي في ضوء التضارب في الأرقام مع مصرف لبنان وجمعية المصارف ومع أرقام لجنة المال والموازنة التي، وبعد دراسة مُستفيضة للأرقام، توصّلت إلى تخفيض أرقام الخسائر بنسبة واحد إلى ثلاثة حيث توصّلت لجنة تقصي الحقائق النيابية إلى 80 ألف مليار ليرة بدل الـ 241 ألف ليرة.
لكن الحكومة التي استعجلت في إقرار خطّة مُعدّة من قبل مستشارين من دون التواصل مع مصرف لبنان أو المصارف اللبنانية، ما تزال تُصرّ على أن أرقامها هي الدقيقة مدعومة بمنظومة من المحلّلين الاقتصاديين الطارئين الذين يستخدمون وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لدعم وجهة نظر الحكومة.
مصلحة صندوق النقد
لكن كيف لصندوق النقد الدولي أن يؤكد على أرقام الحكومة إذا ما كانت غير صحيحة؟
الجواب في أن صندوق النقد الدولي له مصلحة في تعظيم أرقام الخسائر وبالتالي زيادة الاقتطاع من أموال المودعين ومن أموال حاملي السندات، مما يجعل مساهمته في الإنقاذ قليلة. ولكن في المقابل يُمكنه رهن عدد أكبر من أصول الدولة اللبنانية لمصلحته! وبالتالي لا عجب في أن يدعم صندوق النقد الدولي أرقام الخسائر التابعة للحكومة والتي تُحمّل مصرف لبنان خسائر بقيمة توازي الـ 50 مليار دولار أميركي. وبالتحديد هنا تكمن المُشكلة: كيف يُمكن لصندوق النقد الدولي أن يوافق على خسائر لمصرف لبنان وهو الذي أجاب على رسالة مصرف لبنان في ما يخص الكتابات المحاسبية (من ضمنها المداخيل المستقبلية لطبع العملة) وقال ان هذه الطريقة في كتابة العمليات الحسابية هي أمر طبيعي ومعمول بها من أكبر المصارف المركزية في العالم؟ الجدير ذكره أن مصرف لبنان يستند في كتاباته المحاسبية إلى استشارات طلبها من صندوق النقد الدولي وهو يحمل وثائق تُثبت هذا الأمر.
عملياً، المنهجية التي اتبعتها خطة المستشارين تنصّ على محو دين الدولة اللبنانية ببساطة عبر «هيركت» على اليوروبوندز بنسبة 70% وعلى سندات الليرة بنسبة 40% مع محو كل ديون مصرف لبنان على الدولة، أي بمعنى أخر أخذت الدولة كل أموال مصرف لبنان بما فيها مداخيل سك وطبع العملة وقامت بسدّ قسم من دينها البالغ 92 مليار دولار أميركي! ولم تقف عند هذا الحدّ، إذ ان المسّ بأموال مصرف لبنان يعني المسّ بأموال المصارف، وبالتالي بأموال المودعين، وكل ذلك عن غير وجه حقّ!!
وهنا يُمكن تشبيه ما قامت به الحكومة تجاه المُقرضين، بشخص اقترض من المصرف أموالاً وقال لهذا الأخير لم أعد أستطيع دفع مستحقاتي وبالتالي سأشطبها! هذا الأمر مخالف لكل قوانين السوق اذ ان التخلف عن الدفع لا يعفي الدولة من مسؤولياتها.
إستسلام كلّي لصندوق النقد
الحكومة ومن خلال خطّتها «الإنبطاحية» سلمت لبنان على طبق من ذهب إلى صندوق النقد الدولي وذلك عبر اعتمادها أرقام الخسائر القصوى، وخفض سعر صرف الليرة في المرحلة الأولى وتحريرها في المرحلة الثانية. هذه الإجراءات بالإضافة إلى إنسداد الأفق على الصعيد الإقتصادي والمالي، جعلت موقف لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ضعيف جدًا لدرجة أن مسؤولي الصندوق قالوا ان الطريق طويل قبل الحصول على مساعدات.
نعم يُمكن القول ان الحكومة وضعت لبنان في موقف صعب، خصوصًا أنها لم تُعالج أي ملف إصلاحي بدءاً بملف (العار) الكهرباء مروراً بالإتصالات والجمارك والتهرب الضريبي والتهريب الجمركي… حتى أن التعيينات المالية والإدارية الأخيرة التي رفضها رئيس الحكومة سابقا بسبب فقدان معايير الكفاءة واعتماد معايير المحاصصة، عاد وأقرّها كما هي ليُثبت بذلك أن الحكومة عاجزة. أما التشكيلات القضائية، فحدّث ولا حرج!
تطويق حزب الله
المعروف أن صندوق النقد الدولي الذي يحمل في جعبته شروطاً ظاهرها اقتصادي مالي، وباطنها سياسي بامتياز، يهدف إلى تطويق حزب الله. وهذا الأمر ليس بخفي على أحد، إذ يكفي النظر إلى أبعاد مراقبة الحدود البرية مع سوريا بحجّة وقف التهريب (المدان بكل التعابير) لمعرفة أن المراد من هذا الإجراء التضييق على حركة حزب الله من وإلى سوريا.
سيري وعين الله ترعاكِ
وما يُحزن في الأمر أن الحكومة التي من المفروض أنها حكومة اختصاصيين، تعتمد مبدأ «سيري وعين الله ترعاكِ». فهي لم تقم بأي دراسة لما يجب فعله في هذه المرحلة الحساسة خصوصاً مع استمرار تفشي كورونا (51 إصابة سُجّلت البارحة) وبدء العمل بقانون قيصر، أي بمعنى أخر تراجع مداخيل الدولة واحتمال ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
والأصعب في الأمر أن الحكومة التي انتقدت مصرف لبنان على إقراضه الحكومات السابقة وتثبيته سعر صرف الليرة، هي نفسها اليوم تُنفق من الأموال التي يعُطيها إياها مصرف لبنان وتُطالبه بالتدخل للجم سعر صرف الدولار عبر ضخّه في الأسواق. فعلا إنه التخبّط الكامل التي تغرق فيه حكومة يديرها مستشارون لا خبرة لهم.
محاسبة التقصير
في الاجتماع المالي الشهير في السراي في 12 من الشهر الجاري، قامت الحكومة بتهديد حاكم مصرف لبنان بالإقالة نتيجة التقصير خصوصًا في ضخ الدولارات في السوق. وحتى عملية الضخّ هذه أثبتت فشلها الكلّي نتيجة غياب خطة كاملة مُتكاملة.
وهنا نطرح السؤال: ألا يتوجّب بعد فضيحة أرقام الخسائر التي أقرتها الحكومة وبعد التلاعب الواضح بالأرقام من قبل المستشارين أن تتمّ محاسبة المسؤولين عن هذه الفضيحة؟ فأرقام الخسائر التي قدّمتها الحكومة تشير إلى أن هناك عدم كفاءة أو تواطؤاً! وفي كلتا الحالتين يجب محاسبة المسؤولين عن هذه الفضيحة بدل محاولة تحميل هذا الفشل إلى حاكم مصرف لبنان الذي استطاع تثبيت سعر صرف الليرة وبالتالي المحافظة على الأمن الاجتماعي على مرّ ثلاثة عقود.
مستقبل غامض
من الواضح مما سبق أن الحكومة تتخبّط على كل الأصعدة. وباستثناء ملف الكورونا الذي يعود الفضل فيه لوزير الصحة ووزير الداخلية، فشلت الحكومة في كل الملفات المطروحة وعلى رأسها معالجة الأمن الغذائي للمواطن اللبناني الذي يعبث التجار به كل يوم عبر بيع السلع على سعر الدولار في السوق السوداء (أعلى سعر)، مع العلم أن الشراء تمّ على سعر منخفض. كل هذا تحت أنظار حكومة عاجزة عن لجم جشع التجار، وعن لجم المضاربة على الليرة اللبنانية على الرغم من الفعالية الكبيرة للأجهزة الأمنية التي لولا مجهودها لكنا في وضع سيء جداً.
على كل الأحوال، نتوقّع أن تسوء الأوضاع أكثر مما هي عليه اليوم، وبالتالي هناك إلزامية للقيام بإجراءات عملية لتدارك الأمر. وبحسب معلومات الديار، توصّلت القوى الداعمة لهذه الحكومة إلى استنتاج أنها عاجزة لكن لا يُمكن تغييرها في الوقت الحالي نظرًا إلى غياب البديل.