لم تكن طلائع الموجة الجديدة من الاحتجاجات الشعبية أمس والتي توجت بتكرار ممارسات إقفال الأوتوسترادات والطرق الدولية ولا سيما منها أوتوستراد الجية – الجنوب بكل ما ينطوي عليه ذلك من تسبب باحتقانات، سوى عيّنة أولية متقدمة يخشى أن تطلق شرارة احتجاجات أوسع اليوم وغداً وفي الأيام المقبلة. ذلك أن البلاد تقف واقعياً، وبإدراك جميع المسؤولين الرسميين والسياسيين والأجهزة الأمنية والقوى العسكرية والأمنية، أمام مرحلة قد تكون الأشد خطورة منذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 كما منذ تمدد جائحة وباء كورونا المستجدّ الى لبنان في شباط الماضي. واذا كان للمفارقات السلبية الرمزية مكانها المؤثر في مجريات المشهد الداخلي كما ظهر أمس، فهي برزت من خلال السباق المحموم بين عداد الاصابات بكورونا التي عادت تشهد قفزات مثيرة للقلق مع تسجيل 35 اصابة أمس واتساع البقع الوبائية للمخالطين في مناطق عدة، وعداد دولار السوق السوداء الذي لم يعد ممكنا رسم منحنى بياني تقريبي لقفزاته بعدما تجاوز أمس سقف الـ 7440 ليرة لبنانية من دون رادع. ولم تكتم أوساط سياسية ومالية معنية بمعاينة التداعيات التصاعدية لأثر قفزات الدولار على مجمل الوضع المالي وعلى التداعيات والانعكاسات على السلع الحياتية والغذائية كما على المواد الاستراتيجية، مخاوفها المتعاظمة من أن يكون لبنان قد بدأ ينزلق فعلاً الى أسوأ مراحل أزمته المالية والاقتصادية والاجتماعية من خلال مجموعة مؤشرات ووقائع توالت فصولها السلبية طوال أسابيع وبلغت ذروتها في الفترة الأخيرة. وأبرز هذه الوقائع يتمثل في سياسات هروب السلطة السياسية الحاكمة من تحمل تبعات مواجهة الإنهيار المالي والإمعان في تصفية الحسابات السياسية مع معارضيها وخصومها لتبقي كرة المسؤولية ضائعة من جهة وللتغطية على المسألة الأساسية المتعلقة بأزمة علاقات لبنان الخارجية مع الدول المانحة والمعنية بدعم لبنان بسبب واقع ارتباط السلطة بـ”حزب الله”.
واذا كانت ظاهرة الاطلالات المتكرّرة لمسؤولين أميركيين أخيراً على المشهد اللبناني قد طرحت تساؤلات كثيفة عن خلفياتها ودوافعها، فإن الأوساط المعنية نفسها تقول إن الظاهرة لا تستدعي تفسيرات لأن القرار الواضح لدى الولايات المتحدة كما لدى المجتمع الدولي هو محاولة منع بلوغ التدهور المالي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان حدوداً كارثية، لكن ذلك لم يقترن قط بترجمة الحكومة اللبنانية الحدود الدنيا من الالتزامات الاصلاحية الملحّة والتي طال انتظارها عبثاً. وليس أدلّ على ذلك من تكرار ملامح الموقف الفرنسي الغاضب من تخلف الحكومة اللبنانية عن الخطوات الإصلاحية التي كان من شأنها أن تقنع المجتمع الدولي ببدء مد لبنان بجرعات سريعة وحيوية لمساعدته على مواجهة الأزمة. أما في ما يتعلق بالوقائع الأخرى المسببة للانهيار فان الاوساط تخشى ان يكون دومينو” العجز عن احتواء الارتفاع غير المسيطر عليه للدولار والتراجعات البالغة الخطورة لسعر صرف الليرة قد بات ثابتاً فلا تنفع معه كل المحاولات الجارية والجديدة للجمه وكان آخرها أمس إطلاق مصرف لبنان المنصة الالكترونية في أحدث إجراءاته لضبط سوق الصرف.
خلية الازمة
وصرح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد انتهاء اجتماع خلية الأزمة المعنية بمتابعة الموضوع المالي في السرايا الحكومية مساء أمس بأن “مصرف لبنان أطلق المنصة الالكترونية التي ستنظم التداول بين الصرافين على أسعار العملة وينضم إليها كل الصرافين المرخصين وخلال أول جلسة اليوم (امس) جرى تداول ببيع وشراء أكثر من 8 ملايين دولار حسب سعر صرف أقصاه 3900 ليرة”.
وأوضح أن “السعر الرسمي للدولار سيبقى في المصارف 1515 ليرة لضبط أسعار الدواء والمحروقات والمواد الغذائية والطحين”.
وعن السوق السوداء، قال سلامة: “البنك المركزي لا يتعاطى أو لا إمكانية لديه لمقاربة السوق السوداء وهي تأخذ دعاية اكثر مما تستحق لأن الحركة في هذه السوق ضئيلة وغير منظمة”.
وأعلن وزير الاقتصاد راوول نعمة أن الوزارة ستدعم أكثر من 200 سلعة بسعر 3000 ليرة “وقد وضعنا كل السلع على الموقع الخاص بالوزارة ليراها المواطن وإن كانت بأكثر من سعرها يتصل بنا لنتخذ الاجراءات المناسبة”.
بينما أعلن المدير العام للامن العام اللواء عباس ابرهيم “إنشاء غرفة عمليات تتلقى الشكاوى على قاعدة أن كل مواطن خفير، ويمكن القول إننا أوقفنا أكثر من 150 صرافاً شرعياً وغير شرعي. وبما خصّ السلة الغذائية هناك دور للأمن العام وسيكون هناك دوريات لحماية المستهلك للتأكد من أن السوبرماركت تتقيد بالأسعار”.
أما ما لا يمكن تجاهله في وقائع الأزمة وخلفياته، فبرز غداة لقاء بعبدا الذي لم يرسم حرفاً مؤثراً في مجريات الأزمة بدليل اشتعال سعر الدولار وانزلاق البلاد الى موجة احتجاجات شعبية جديدة. ودفع ذلك رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع الى التغريد على حسابه الخاص عبر “تويتر”، قائلاً: ” أعطى لقاء بعبدا “الوطني الجامع” نتائجه فوراً. فما كادت أن تنتهي تلاوة البيان الختامي حتى قفز الدولار قفزة غير مسبوقة”.
لكن مصادر بعبدا تمسّكت بقولها إن لقاء بعبدا فتح باباً واسعاً للحوار في المواضيع الأساسية وسيستمر بشكل أو بآخر. ورأت أن الردود السلبية على اللقاء ليس لها ما يبرّرها وكان حرياً بالمقاطعين أن يشاركوا ويبدوا آراءهم.
قطع الطرق
في غضون ذلك لبّت مجموعات من الحراك الشعبي نداءات وجّهت أمس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لـ”النزول الى الشوارع و قطع جميع الطرق، تحت عنوان: صف سيارتك بنص الطريق، السيارة مش أغلى من الوطن”، وإعلان التصعيد في جميع المناطق من الشمال إلى الجنوب بعد صلاة الجمعة”. وأقدم عدد من المحتجين باكراً، على قطع الطريق الساحلية في الاتجاهين في الجية مفترق برجا، وفي الناعمة وخلدة بشاحنات كبيرة قبل ان يفتحها الجيش بالقوّة، بعدما عمد بعضهم إلى تمزيق اطارات الشاحنات لمنع إزاحتها من الطريق.
ولم يمرّ وقت طويل حتى أعاد هؤلاء قطع الأوتوستراد عند مفترق برجا، وعمد الجيش الى ابعادهم الى الأحياء الداخلية. أما قطع الأوتوستراد باكراً، فقد حال دون وصول عدد كبير من المواطنين الى أشغالهم ومقاصدهم. وتردد أن سيارات تعرضت للرشق بالحجار.
وتواصلت الخطوات التصعيدية وقطع الطرق في طرابلس، احتجاجاً على تدهور الاوضاع المعيشية ا وارتفاع سعر الدولار.وفي البداوي، قطع محتجّون الأوتوستراد في الاتجاهين والطرق المتفرعة منه بالشاحنات. كذلك قطع أوتوستراد الميناء – بيروت قبالة فري في الاتجاهين أيضا.
وتجمع عشرات المحتجين بعد صلاة الظهر وسط ساحة النور، بعد قطعها في كل الاتجاهات.
وفي عكارأقدم محتجون على سوء الأوضاع المعيشية، على قطع الطريق الدولية الرئيسية بحنين – العبدة عند جسر نهر البارد في المحمرة.وتجددت ليلا عمليات قطع الطرق في عدد من المناطق.
صندوق النقد… وشيا
وعكس كلام لمديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا أمس عن لبنان عمق الأزمة إذ صرحت بان ليس لديها أي سبب حتى الآن لتوقع تحقيق تقدم في المفاوضات مع لبنان الرامية إلى المساعدة في حلّ الأزمة الاقتصادية للبلاد.
وقالت جورجيفا خلال مناسبة نظمتها وكالة “رويترز” عبر الإنترنت إن مسؤولي صندوق النقد الدولي ما زالوا يعملون مع لبنان، لكن لم يتضح ما إذا كان من الممكن أن تتوحد قيادات البلاد والأطراف الفاعلون والمجتمع حول الإصلاحات الضرورية لتحقيق استقرار اقتصادها والعودة إلى مسار النمو.
وأضافت: “جوهر القضية هو ما إذا كان من الممكن أن تكون هناك وحدة للهدف في البلاد يمكن بالتالي أن تدفع الى الأمام صوب تطبيق مجموعة من الإصلاحات الشديدة الصعوبة لكنها ضرورية…كل ما يمكنني قوله هو أننا نضع أنسب الأشخاص لدينا للعمل مع لبنان، لكننا حتى الآن ليس لدينا أي سبب للقول إن هناك تقدم”.
وأكدت أن الوضع في لبنان “يفطر قلبي” لأن البلد له ثقافة قوية في ريادة الأعمال، ويستقبل لاجئين من فلسطين وسوريا مساعدة منه في تخفيف أزمة إنسانية كبيرة.
كذلك رأت السفيرة الأميركية لدى لبنان دوروثي شيا أنّ “اللبنانيين لا يعانون من سياسة واشنطن بل من عقود من الفساد”، مشيرة الى أنّ واشنطن هي من أكبر الداعمين للبنان بـ750 مليون دولار”.
وأبدت في مداخلة عبر قناة “الحدث” قلق بلادها من “حزب الله”، قائلة: “لدينا قلق بالغ من “حزب الله” في لبنان والذي نصنّفه إرهابياً”. وأشارت إلى أن “حزب الله بنى دولة داخل الدولة استنزفت لبنان”، وأنّ “دويلة حزب الله كلّفت الدولة اللبنانية مليارات الدولارات”.
وأضافت: “مليارات الدولارات ذهبت الى دويلة “حزب الله” بدل الخزينة الحكومية”.