حرارة الحدود الجنوبية مُرتفعة مع التعزيزات التي يقوم بها جيش الاحتلال في شمال فلسطين وذلك تخوّفًا من ضربة إنتقامية من حزب الله ردًا على إغتيال أحد عناصره في سوريا. هذه المخاوف أدّت في الأسبوع الماضي إلى إشتباك ناري من جهة واحدة (من جهة العدو) بحسب بيان المقاومة فيما إعتبر البعض الأخر أن حزب الله قام بهذه العملية لإختبار الميدان.
قناة الحرّة الأميركية صرّحت أن «إسرائيل» تُحضّر لضربة إستباقية، وإذا كان الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي قد نفى للقناة هذا الأمر، إلا أنه قال إن كل الإحتمالات موجودة على الطاولة من أجل الحفاظ على أمن مواطني «إسرائيل». عمليًا هذا الأمر يجعل من المقاومة في حال جهوزية من أجل مواجهة أي إعتداء «إسرائيلي» ولكن في نفس الوقت يؤّدي إلى تعقيدات كبيرة على المشهد السياسي اللبناني.
الحكومة التي أصبحت تعمل بوتيرة غير فعّالة، هي عرضة يومية لنيران صديقة وعدوة وبالتالي وبحسب المصادر سيتمّ الإستغناء عنها في أوّل فرصة ممكنة. لكن ماذا يعني الفرصة المُمكنة؟
تقول مصادر مُطلعة لـ «الديار» أن القوى الداعمة للحكومة لم تعد راضية عن أدائها خصوصًا على الصعيد الإقتصادي والسياسي. فقد كان من المفروض أن يعمد رئيس الحكومة إلى فتح أبواب بعض العواصم العربية وإخراج لبنان من أزمته، وها هو يشتبك مع السفراء. كما أن خطة الحكومة الإنقاذية أصبحت أمام حائط مسدود مما يعني عمليًا موتها السريري. من هذا المُنطلق يتمّ القيام بتواصل بين القوى الرئيسية من أجل تشكيل حكومة وفاق وطني مع إحتمال أن يكون رئيسها سعد الحريري ويكون وزراؤها تقنيين. لكن هذا الطرح الذي يتمّ طبخه على نار هائدة يحتاج إلى تذليل الكثير من العقبات التي ما زالت قائمة. وبالتالي سيتمّ الإحتفاظ بالحكومة الحالية بشكل لا يُشكّل ضغطاً على المفاوضات حيث يبقى وجود هذه الحكومة أفضل من وجود حكومة تصريف أعمال.
وتُضيف المصادر إلى أن الحلول الفعلية للأزمة لن تظهر قبل ظهور قرار المحكمة الدولية في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري وإنقضاء تداعياتها السياسية بحكم أنه من المُستبعد أن يكون هناك أي تداعيات أمنية، بالإضافة إلى نتيجة المفاوضات التي تقوم بها الإدارة الأميركية مع إيران لإيجاد حلّ قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية وهو ما تسعى واشنطن إلى الحصول عليه. وبالتالي فإن أيّ حلحلة على هذا الصعيد ستكون رهينة هاتين النقطتين.
إلا أن المصادر تُضيف أنه وفي حال نشوب حرب مع العدو الإسرائيلي، فإن لحزب الله مصلحة بالإحتفاظ بهذه الحكومة نظرًا لإعتبارات عديدة وعلى رأسها أن هذه الحكومة هي حكومة لون واحد.
الكهرباء ومُشكلة المحروقات
بالتزامن مع هذه التطورات السياسية، عادت مُشكلة الكهرباء لتطرح السؤال حول المنهجية المُتبعة من قبل الحكومة في إستيراد المحروقات وتوزيعها. وإذا كانت الأسباب التي تقف خلف إستيراد المحروقات وتوزيعها تطال فتح الإعتمادات، التخزين والتهريب، إلا أن هذا الأمر لم يعف وزارة الطاقة من الإنتقادات القريبة والبعيدة وفرض رقابة الأمن العام في عملية التوزيع.
مُشكلة فتح الإعتمادات هي نتاج المواجهة السياسية الحالية مع المجتمع الدولي وخصوصًا الولايات المُتحدة الأميركية ولكن أيضًا نتاج التعثر العشوائي الذي قامت به الحكومة اللبنانية في السابع من أذار الماضي. هذا الأمر يمنع فتح الإعتمادات بسهولة خصوصًا أن المُقرضين قد يعمدون إلى الإستحصال على قرار قضائي من محكمة نيويورك والحجز على البواخر اللبنانية حتى ولو من قبل شركة خاصة. وإذا كانت شركة سوناطراك قد صرّحت أنها تريد فسخ العقد مع الدولة اللبنانية بسبب إتهامات الفساد، إلا أنه وبإعتقادنا تخضع الشركة لضغوط تمنعها من مواصلة تمويل لبنان بالمحروقات.
أمّا على صعيد التوزيع فحدّث ولا حرج، إذ مع كل ما يحصل من تعقيدات تأتي مطامع التجار لتزيد الطين بلة مع تخزين المازوت وعدم توزيعه لعلمهم بصعوبة الإستيراد وبالتالي بيعه محليًا بسعر أعلى أو تهريبه. هذا الأمر فرض مواكبة الموزعين من قبل الأمن العام وآلية مراقبة البيع من قبل وزارة الإقتصاد والتجارة. كل هذا وما زال مصرف لبنان يؤمّن الإستيراد على سعر صرف الليرة الرسمي.
التدقيق الجنائي في مواجهة الأرقام
التدقيق الجنائي هو مطلب أساسي لفخامة رئيس الجمهورية الذي من الواضح أنه يُريد الذهاب في هذا الإتجاه إلى الأخير. لكن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه: بفرضية أننا توصّلنا من خلال هذا التدقيق إلى كشف أسماء زعماء وسياسيين كبار في الدوّلة، هل هناك إمكانية لسوقهم أمام القضاء؟ حتى الساعة المؤشرات تدلّ على أن الجواب هو لا. فالتقوقع الطائفي – المذهبي – الحزبي سيمّنع القيام بمحاسبة الكبار تحت أية ذريعة كانت. أضف إلى ذلك أن منظومة الفساد القائمة هي أكبر من الدولة ومؤسساتها.
إن نجاح التدقيق الجنائي الذي هو باب الخلاص للبنان يفرض أن يكون شاملاً، مطابقًا للقوانين والأهمّ أن نقبل بنتائجه مهما كانت هذه النتائج. وبالتالي فإن حصر التدقيق الجنائي بمصرف لبنان يطرح السؤال عن أسباب عدم شموليته خصوصًا أن الأرقام المتوافرة تُشير إلى أن حجم الديون المُعطاة للدولة من قبل مصرف لبنان بلغ 69 مليار دولار أميركي حيث تمّ إنفاقها في وزارات ومؤسسات الدولة من خلال الموازنات السنوية.
وتُشير المعلومات المتوفّرة إلى أن المصرف المركزي أمّن الدعم بالعملة الصعبة إلى الدولة اللبنانية وإلى القطاع المصرفي على الشكل التالي:
أولاً: دعم مصرف لبنان وزارة المالية بـ 13.57 مليار دولار أميركي منذ العام 2002 وحتى العام 2019
ثانيًا: أمّن المصرف المركزي ديوناً للحكومة اللبنانية ما زالت قائمة
(outstanding ) وتبلغ قيمتها 55.04 مليار دولار أميركي منها 34.33 مليار دولار أميركي دين بالليرة اللبنانية، 5.06 مليار دولار أميركي سندات يوروبوندز، و15.56 مليار دولار أميركي « overdraft » بالدولار الأميركي.
وبالتالي بلغ مجموع الديون والدعم الذي أمّنه المصرف المركزي للحكومة اللبنانية ما مجموعه 68.62 مليار دولار أميركي
فإذا كانت هذه الأرقام مُثبتة بالوثائق، لماذا لا يتمّ البحث عن أين صُرفت هذه الأموال خصوصًا أن هذه الأموال دخلت إلى خزينة الدولة وتمّ صرفها من خلال الموازنات؟
أمّا فيما يخصّ القطاع المصرفي فقد بلغ صافي التدفقات المالية من مصرف لبنان لصالح المصارف التجارية بالعملة الصعبة ما مجموعه 11.46 مليار دولار أميركي.
فهل تُوسّع هذه الأرقام وجهة التدقيق المالي مروحة البحث عن الأموال العامّة وأموال المودعين؟ الجواب بالطبع عند المعنيين.
«الفايننشل تايمز» ومصرف لبنان
نشرت صحيفة «الفايننشل تايمز» مقالاً بعنوان «Controversy over seigniorage in Lebanon is a warning sign » تحدّثت فيه عن الإجراءات التي قام بها مصرف لبنان في العام 2018 من خلال ترحيل الخسائر وتسجيل مداخيل سكّ العملة وطبعها (أو ما يُعرف بالـ «seigniorage » في خانة الأصول للمصرف.
ويعترف المقال أن مداخيل الـ «seigniorage » للمصارف المركزية في العالم هي مداخيل كبيرة وثمينة بحكم أن إصدار العملة وإستثمارها في أصول بمخاطر قليلة هو أمر مُربح جدًا. ويلفت المقال النظر إلى أنه تقليديًا كان يتمّ إعتبار هذه المداخيل كمداخيل وليس كأصول في ميزانيات المصارف. وبالتالي إعتبار المداخيل المستقبلية كأصول من خلال تقنية الـ «discounting » ليس بـ «فضيحة» لا بل على العكس من الغريب ألا تكون هذه المداخيل الكبيرة واردة في ميزانيات المصارف! وأضاف المقال أن هناك شرطاً لتكون ملاءة المصرف المركزي دائمة وهو ألا تكون مطلوبات البنك المركزي بالعملة الأجنبية.
ويُضيف المقال أن العائق في لبنان هو أن أرباح الـ «seigniorage» تمت في نفس الوقت مع فقدان ثقة كبيرة في الليرة اللبنانية بحكم أن الأزمة الإقتصادية هزّت النظام المالي خصوصًا مع إعلان الحكومة وقف دفع إستحقاقات الدين العام مما دفع بالمُستثمرين إلى الهروب. بالطبع لن نُعيد نشر المقال الذي يُمكن إيجاده على الرابط (https://www.ft.com/content/daac9683-9148-4e85-9d05-6da1ea315721)، إلا أن ما يُمكن إستخلاصه أن ما قام به مصرف لبنان من إحتساب أصول هو أمر مُتداول به عالميًا من قبل المصارف المركزية وخصوصًا الإحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي طبع عملة بشكل كثيف بعد أزمة العام 2008 وتمّ إحتسابها على أساس أصول على سعر فائدة مُنخفض جدًا مما عظّم من هذه الأصول. ويقول المقال أنه على الرغم من شرعية هذه الإجراءات التي قام بها مصرف لبنان إلا أنها مؤشر سلبي للوضع الإقتصادي، المالي والنقدي في لبنان.
العائق الأساسي الذي يواجهه مصرف لبنان اليوم هو أن الحكومة أعلنت تعثّرها وهو ما أطاح بكل إمكانية للخروج من الأزمة الحالية بحلولٍ محلّية. فعجز الموازنة يُموّل من قبل مصرف لبنان عبر طبع الليرة اللبنانية في حين أنه لا يمّلك مداخيل بالدولار نظرًا إلى أن التعثّر أدّى إلى هروب المُستثمرين وبالتالي لا مداخيل لدولارات من الخارج.
بالطبع قد يقول القارئ أن هذا ليس بالعامل الوحيد، فالحصار الدولي وخصوصًا الأميركي على قدوم الدولارات هو عائق أساسي في اللعبة، وهذا حق. من هذا المُنطلق، كان يتوجّب على الديبلوماسية اللبنانية أن تعمد إلى إعادة فتح قنوات تواصل مع الإدارة الأميركية بشكل يسمح برفع هذا الحصار. وإذا كان البعض يظنّ أن هذا الأمر مُستحيل مع المطالب الأميركية بتحجيم حزب الله، إلا أن التواصل الحاصل بين الولايات المُتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران هو دليل واضح على قوّة الديبلوماسية حتى في عزّ الصراع.