أهو الاهمال المتمادي الذي أغرق بيروت وضواحيها مساء أمس في بحر من الدم والدمار؟ أم هو عمل عسكري نفّذته إسرائيل بأعصاب باردة لتصيب من لبنان مقتلاً وتدفعه اكثر في غياهب الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعيش فيه، ما دفع الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الى تأجيل إطلالته التلفزيونية التي كانت مقرّرة اليوم الى حين تبلور حقيقة ما جرى؟
هذان السؤالان طُرحا بقوة، على أثر الانفجار الهائل الذي شهده مرفأ بيروت، واهتزّ معه لبنان أرضاً وبشراً وحجراً، مخلّفاً مرفأ منكوباً وعاصمة غارقة في الدماء، حيث أوقع، بحسب معلومات اولية، اكثر من 73 قتيلاً وما يربو على 3700 جريح. وبين هؤلاء شهداء من القوى العسكرية والامنية التي تحمي المرفأ. وقد تجاذبت روايتان أسباب حدوث هذا الانفجار الهائل، الاولى تقول انّ سببه انفجار نحو 2700 طن من مادة نيترات الامونيوم، المُصادرة منذ 6 سنوات تقريباً من احد البواخر، وتمّ الاحتفاظ بها في العنبر رقم 12 في المرفأ من دون ان يُعالج وضعها، رغم إدراك المعنيين بخطورتها وتسطير جهة معنية قبل اشهر تقريراً يحذّر من انفجارها. أمّا الرواية الثانية فتتحدث عن عمل عسكري اسرائيلي استهدف هذا العنبر، خصوصاً انّ عدداً من شهود العيان تحدثوا عن وجود طيران اسرائيلي في الاجواء عند وقوع الانفجار، الذي جاء على مرحلتين: إنفجار أول تصاعد منه دخان أبيض، تلاه انفجار آخر شديد القوة، اهتزّت معه بيروت وضواحيها، وكأنّ زلزالاً عنيفاً ضربها، الى درجة انّ المرصد الاردني للزلازل اعلن مساء أمس أنّ الانفجار الذي شهدته بيروت يُعادل هزة ارضية بقوة 4,5 درجات على مقياس ريختر، في الوقت الذي لم يصدر عن أي مرصد لبناني للزلازل اي شيء عن الاهتزاز الكبير الذي أحدثه الانفجار.
هي الكارثة الكبرى؛ حلّت بلبنان وضَمّخته بدم شهداء وجرحى الانفجار الرهيب الذي ضربه في خاصرته البحريّة في مرفأ بيروت.
بيروت مدينة منكوبة ومفجوعة، في لحظات بَدا وكأنّ عاصمة لبنان ستختفي تحت ركامها؛ ما حصل لا يوصف، دويّ الانفجار كان في منتهى الكارثية، وعَصفه اقتلعَ كلّ ما في طريقه الى أبعاد حتى عشرات الكيلومترات عن هذا البركان الذي انفجر بين اللبنانيين الآمنين.
4 آب 2020، يوم هو الأكثر شؤماً في تاريخ لبنان، كأنّه يوم الدينونة، المشهد يستحيل على الكلام ان يصفه، ولا أن ينقل صورة تلك اللحظات الجهنمية التي تصاعد فيها الانفجار وغلالته الفطريّة التي أحدثها وأزهقت ارواح العشرات وأهرقت دماء الآلاف من اللبنانيين ممّن يسعون الى رزقهم والافلات من حبل المشنقة الاقتصادية والمالية التي حكمت عليهم بالاعدام المعيشي.
ما الذي حصل؟ سؤال محيّر، ليس هناك من جواب أكيد له حتى الآن. الكلام الأولي انّ انفجاراً كيماوياً هائلاً وقع في عنبر تخزين كميات هائلة من مادة “نيترات الامونيوم”، وهناك معلومات امنية غير مؤكّدة تحدثت عن نحو 2700 طن من هذه المادة الشديدة الانفجار، والمخزّنة في احد عنابر مرفأ بيروت منذ العام 2014.
والسؤال المحيّر أكثر، من المسؤول عن هذا التخزين؟ ولماذا هذا التخزين في مكان يبعد بضعة امتار عن بيوت الناس؟ ومن استورد المواد المخزّنة؟ ولأيّ هدف؟ ولماذا أُبقيت مخزّنة كل هذه المدة؟ وما هو دور الجمارك؟ وما هو دور الوزارات المعنية؟
هذه الاسئلة وغيرها تتطلب اجوبة سريعة من السلطة، وليس الاكتفاء بالتعبير عن الحزن والاسف والبكاء على الاطلال. وقبل كل ذلك هناك سؤال اساسي: من سيعوّض الشهداء الذين يتزايد عددهم مع مرور الوقت، والجرحى الذين زادوا عن الـ3 آلاف وقد ضاقت بهم مستشفيات العاصمة والمناطق؟ ومن سيعوّض الدمار الهائل الذي وقع؟ ومن سيعوّض مرفأ بيروت الذي تدمّر بالكامل؟ وإهراءات القمح التي زالت بالكامل، وهذا باب لأزمة خانقة في هذا المجال؟ والأهم، من هو المسؤول عن هذه الكارثة، او بالاحرى عن هذه الجريمة ضد الانسانية؟ هل حصل الانفجار نتيجة خطأ غير مقصود؟ وهل حصل نتيجة عمل مقصود؟ وفي كلا الحالتين من سيحاسب؟ هل هذه السلطة الضائعة أصلاً في مغارة العجز والتراخي واللامبالاة؟
واذا كان اللبنانيون، على اختلافهم، ضحايا هذا الزلزال الكيماوي الذي ضربهم، وجَمعهم المصاب الواحد، والحزن الواحد، والقلق الواحد على وطن يتعرّض للتدمير الشامل، فإنّ ما تبقّى من السلطة مُطالَب بأن ينزل الى الارض بمبادرات حتى ولو كانت مُكلفة، لبَلسمة الجروح العميقة التي حفرها الزلزال في العاصمة وأبنائها، وفي الوقت نفسه ينبغي ان يشكّل ما حصل حافزاً لأشقاء لبنان وأصدقائه على المبادرة الى إغاثته ومساعدته على تجاوز هذه المحنة التي لن تُمحى آثارها بسهولة، وارتدادتها ستستمر حتى مسافات زمنية بعيدة.
مجلس الدفاع
وكان المجلس الأعلى للدفاع اجتمع ليل أمس، وبحث في الانفجار وما خلّفه من دمار، وأعلن بيروت “مدينة منكوبة”.
وعلمت “الجمهورية” انّ تقريراً قدّمه رئيس جهاز أمن الدولة طوني صليبا إلى المجلس الأعلى للدفاع، يروي فيه انّ 2750 طناً من كمية “نيترات الأمونيوم” تمّت مصادرتها عام 2014 من باخرة تحمل العلم المولدوفي كانت تتّجه إلى الموزمبيق، وتعرّضت لعطل في هيكلها. وأثناء تعويمها، عُثر على البضاعة وهي مواد شديدة الانفجار، ونقلت إلى العنبر الرقم 12 حيث تم تخزينها وحفظها إلى أن يبتّ بها القضاء كونها بضاعة محجوزة.
منذ فترة، وأثناء الكشف على العنبر، تبيّن انه يحتاج إلى صيانة وقفل للباب الذي كان مخلوعاً، إضافة إلى فجوة في الحائط الجنوبي للعنبر يمكن من خلالها الدخول والخروج بسهولة، وطلب من إدارة مرفأ بيروت تأمين حراسة للعنبر، وتعيين رئيس مستودع له، وصيانة كل ابوابه ومعالجة الفجوة الموجودة في حائطه.
ومن الروايات الأمنيّة التي تمّ عرضها على مجلس الدفاع، أنّ الإنفجار وقع أثناء عملية تلحيم لباب العنبر 12، وتطايرت منه شرارة أدّت الى اشتعال مفرقعات كانت موجودة في العنبر نفسه، أدّت بدورها الى إنفجار كمّيات الأمونيوم الموجودة في محتوى مجاور.
وقدّر التقرير الأمني كمّية الـ 2750 طناً بما يوازي 1300 طن من مادّة الـ”تي أن تي”.
وذكّر رئيس جهاز أمن الدولة أنّه كان قد قدّم هذا التقرير في 20 من تموز الماضي أثناء الكشف الدوري على عنابر المرفأ، تبيّن بنتيجته انّ باب العنبر 12 مخلوع، وهناك فجوات في حائطه، وحذّر حينها في تقريره من أنّ هذه المواد خطيرة جداً، لكن ايّ إجراءات فورية لم تتخذ.
وقد أكّد وزير الإقتصاد راوول نعمة خلال الإجتماع أنّ كلّ القمح الموجود في الإهراءات قد تلف، كما أنّ الاهراءات أصيبت بأضرار جسيمة، وانّ بناءها باتَ آيلاً للسقوط ولم يعد صالحاً للاستخدام.
أمّا المرفأ الجديد فشبه مدمّر، في حين انّ المرفأ القديم، حيث كان يوجد عنبر 12، فقد لحق به دمار شامل.
مواقف عربية ودولية
وعلى أثر الانفجار وانكشاف هول الكارثة، تتالت المواقف المواسية والمعبّرة عن تقديم المساعدة والدعم للبنان، فأعلن المجتمعان الدولي والعربي مساندتهما للبنانيين.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كايلي مكناني، إنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب تتابع عن كثب الانفجار الذي وقع في بيروت، وأوضحت أنه تم إطّلاع ترامب عليه، وأضافت: “نصلي من أجل سلامة اللبنانيين، ونراقب الوضع عن كثب”.
وذكر مكتب القيادة الوسطى في الجيش الأميركي في البنتاغون انه “قلق حيال وقوع خسائر بشرية كبيرة في انفجار بيروت، ونتابع التقارير”.
وفي السياق ذاته، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها “تُبدي استعدادها لتقديم المساعدة للسلطات اللبنانية”، مشيرة إلى أنه لا تتوافر أي معلومات عن الانفجار لديها، داعية رعاياها في بيروت الى “الالتزام بأوامر السلطات اللبنانية وتوجيهاتها”.
وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ “هناك مساعدات واسعافات فرنسية يتمّ الآن (ليل أمس) نقلها الى لبنان”. فيما شدّد وزير خارجيته جان إيف لو دريان على أنّ “فرنسا الى جانب لبنان”.
كذلك، أكّد وزير الخارجية البريطانية دومينيك راب أنّ “بريطانيا تقف متضامنة مع شعب لبنان، ومستعدة لتقديم المساعدة والدعم اللازمين”.
من جهتها، أكّدت المملكة العربية السعودية “وقوفها وتضامنها في شكل كامل مع الشعب اللبناني”، وأصدرت سفارتها في لبنان البيان الآتي:
“تودّ سفارة المملكة العربية السعودية لدى الجمهورية اللبنانية أن تهيب بجميع المواطنين السعوديين الموجودين في لبنان بضرورة أخذ الحيطة والحذر والبقاء في مقار سكنهم جرّاء الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت اليوم (أمس)، حرصاً على أمنهم وسلامتهم. كما تدعو السفارة المواطنين السعوديين في لبنان إلى متابعة ما يصدر من إرشادات وتعليمات عن السلطات اللبنانية والالتزام بها، والتواصل مع قسم شؤون السعوديين في السفارة عند طلب المساعدة.
وإذ تعلن السفارة عن ذلك، تسأل الله العلي القدير أن يرحم الضحايا ويُصبر ذويهم، ويمنّ على المصابين بالشفاء العاجل، ويحفظ لبنان وأهله من كل مكروه”.
وأعلنت دولة الإمارات العربية المتّحدة تضامنها مع لبنان، مُقدّمة التعازي لأهالي الضحايا. وقد أُضيء برج خليفة في إمارة دبي بالعلم اللبناني “تحيةً لأرواح الشهداء وتضامناً مع اللبنانيين”.
وأرسلت دولة الكويت مساعدات طبية عاجلة، واتصل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد بالرئيس ميشال عون وأمر بإرسال مستشفيات ميدانية الى لبنان. كذلك تلقّى عون اتّصالاً من العاهل الأردني عبدالله، واضعاً إمكانات بلده بتصرّف لبنان.
كذلك، أعلن العراق أنه سيُرسل الى لبنان مستشفى ميدانيّاً اليوم، وسيزوّد لبنان بمئة ألف برميل من النفط شهريّاً، طوال مدة الأزمة.
أمّا الرئيس بشار الاسد، فأعطى توجيهات “لتتوجّه فرق من الاسعاف من جمعية الهلال الاحمر السوري لنقل الجرحى الى المستشفيات في الجمهورية العربية السورية، وفتح الحدود البرية والجوية، ووضع طائرة لنقل الجرحى الى سوريا”.
وكتب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عبر “تويتر”: “قلوبنا مع الشعب اللبناني في هذه الكارثة الكبرى”.
وبعث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برقية تعزية بضحايا الانفجار الى عون، أكد له فيها أنّ “روسيا تُشاطر الشعب اللبناني حزنه. وأرجو نقل كلمات المواساة إلى أهالي الضحايا، وتمنياتنا الشفاء العاجل لجميع المصابين”
كذلك إبرقَ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إلى عون مؤكداً “وقوف الأردن إلى جانب الأشقاء في لبنان في هذا المصاب الأليم، واستعداده لتقديم كافة أشكال المساعدة”
وغرّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عبر “تويتر”، معزّياً لبنان بضحايا الانفجار، فكتب: “نحن في تركيا سنقف دائماً إلى جانب لبنان وأشقائنا اللبنانيين”.
وأفادت الرئاسة التركية أنّ أردوغان اتصل بعون عارضاً المساعدة.
الى ذلك، حرص عدد من الأندية الأوروبية، وبينها برشلونة وإنتر ميلان وباريس سان جيرمان، على توجيه رسائل مواساة للشعب اللبناني وحكومته، بعد الانفجار.
وعزّى المنسّق الخاصّ للأمين العام للأمم المتّحدة يان كوبيتش، “الأُسر التي فقدت أحبّاءها بإسم أسرة الأمم المتحدة كلها”.
صندوق النقد
وأعرب صندوق النقد الدولي عن “عميق حزنه لخسائر الأرواح والإصابات والدمار من جرّاء الانفجار الذي وقع اليوم في بيروت، وعن بالغ الأسى والتعاطف مع شعب لبنان الذي يمر بظروف اقتصادية واجتماعية صعبة”.
المصارف تقفل
وأعلنت جمعية مصارف لبنان أنه بسبب الإنفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت وطاوَل بأضراره البالغة مختلف أرجاء العاصمة اللبنانية وبعض ضواحيها، تعلن الجمعية أنّ المصارف بفروعها كافة ستقفل أبوابها يوم غد الأربعاء في 5 آب 2020 لمعالجة الأضرار المادية الناجمة عن هذه الكارثة الكبرى، وهي تتقدّم بأصدق التعازي بالضحايا، وتتمنّى الشفاء العاجل للجرحى والمصابين. حمى الله لبنان وشعبه