كم هي “سوريالية” نهاية رحلة ميشال عون في المشهد السياسي اللبناني، فهو بعدما بنى سيرته الذاتية على مبدأ التحرير والتحرّر ومقارعة النظام السوري ومناهضة السلاح الميليشيوي في لبنان، انتهى اليوم إلى ما يشبه وحدة المسار والمصير مع هذا النظام وذاك السلاح. نهاية الثمانينات قاتل وافتدى خيرة شباب الجيش والشعب والمقاومة المسيحية على مذبح الصمود والتصدي لمحاولات انتزاع كرسي بعبدا من تحت أقدامه، فكانت النتيجة خلعه من القصر وأسر وقتل عناصر الجيش وإطباق سطوة نظام الأسد على لبنان بشرقه وغربه. واليوم عاد ليسلك مع نهاية عهده درب القتال والاستقتال دفاعاً عن كرسي بعبدا، لكن مع فارق مبدئي وجوهري، أنّ قتاله هذه المرة أضحى تحت لواء محور الممانعة، وبسلاح منظومة “الجيش والشعب والمقاومة” التي ترعى ديمومة السلاح وتحمي نظامي الحكم في لبنان وسوريا، ولم يعد حتى يتوانى عن السير مقتدياً بخطوات نظام الأسد نفسه في “الانفصام عن الواقع”، وصولاً إلى التشبّه بأسلوبه في قمع الثورة بحجة التصدي لـ”مؤامرة خارجية”، وفي تبرير عدم التنحي عن السلطة بذريعة “منع الفراغ”، حسبما لاحظت مصادر نيابية معارضة، معتبرةً أنّ لبنان وسوريا في ظل عهد عون وحكم الأسد باتا أشبه “بنظام واحد في بلدين” تجمعهما الكثير من القواسم المشتركة، وآخرها “براميل النيترات”، سواءً تلك التي انهمرت فوق رؤوس السوريين أو تلك التي انفجرت في وجه اللبنانيين، وانطلاقاً من ذلك لم ترَ المصادر في كلام رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل أمس عن إحباط “الانقلاب على العهد” سوى “ترداد عوني في بيروت لصدى صوت الرئيس السوري وهو يقول أمام مجلس الشعب: أحبطنا المؤامرة”.
وفي الملف الحكومي أيضاً، يشي أداء رئيس الجمهورية بأنه يسعى إلى التشبّه بالأنظمة التوتاليتارية الرئاسية التي تضرب الأسس البرلمانية الدستورية في تعيين رؤساء الحكومات وتشكيلها عبر إصراره على فرض بدعة “التأليف قبل التكليف” والإبقاء على ورقة الاستشارات النيابية في قبضته، ضارباً بعرض الحائط صلاحية مجلس النواب ورئيسه في تسمية الرئيس المكلف، وصلاحية الرئيس المكلف نفسه في تحديد شكل حكومته. وعلى هذا المنوال، تستمر المراوحة في عملية التكليف وتتواصل عرقلة المسار الديمقراطي الدستوري تحت وطأة “عقدة سعد الحريري” التي لا تزال مستحكمة ومتحكمة بالمقاربة العونية الحكومية، وفق تأكيد مصادر مطلعة على أجواء لقاء عين التينة أمس لـ”نداء الوطن”، موضحةً أنّ اللقاء الرباعي الذي ضم إلى بري، كلاً من باسيل والخليلين، فشل في الخروج بموقف موحد لقوى 8 آذار إزاء ملف الحكومة على وقع إبداء باسيل الاستعداد لتسهيل وصول أي شخصية إلى رئاسة الحكومة “إلا سعد الحريري”.
وفي هذا الإطار، كشفت المصادر أنّ بري “طلع الشعر على لسانو” طيلة نحو ثلاث ساعات وهو يحاول لفت انتباه رئيس “التيار الوطني” إلى أنّ “الضرورات الوطنية الراهنة تقتضي تسمية الحريري باعتباره رجل المرحلة الذي يمكن أن يتصدى لمقتضياتها محلياً وعربياً ودولياً”، غير أنّ باسيل استمر على رفضه المطلق لتسمية الحريري، مبرراً ذلك بأنّ الشروط التي يضعها لتشكيل حكومة تكنوقراط “لا يمكن لرئيس الجمهورية السير بها”. وأشارت المصادر في المقابل إلى أنّ “عون وباسيل يحاولان تسويق لائحة تضم أسماء قضاة وموظفين رفيعي المستوى من الشخصيات السنية لدى الثنائي الشيعي لقطع الطريق على عودة الحريري، لكنّ بري ومعه “حزب الله” لا يزالان غير مقتنعين بإعادة “مغامرة حسان دياب” ذاتها التي أفضت إلى ما أفضت إليه من فشل ذريع”.
وأمام هذا الواقع، تؤكد المصادر أنّ البلد يسلك مجدداً طريق “المراوحة القاتلة”، لكنّ بري الذي كان يريد من خلال اجتماع الأمس الوصول إلى شيء ملموس قبل عودة الرئيس الفرنسي إلى بيروت “لن يستسلم بل سيستكمل لقاءاته ومشاوراته وقد يلتقي الحريري في عطلة نهاية الأسبوع للتشاور معه في إمكانيات ترؤسه الحكومة العتيدة وإبلاغه استعداد الثنائي الشيعي لتسهيل مهمته إلى أقصى الحدود والتجاوب مع طرحه في تأليف حكومة من غير الحزبيين”، مشيرةً إلى أنّ “رئيس المجلس ينطلق من قناعة تامة لديه بأنّ الحريري بما يملك من حيثية داخلية وقدرة على التواصل والاتصال مع دول العالم هو وحده القادر على تأمين المساهمة الفاعلة في انتشال البلد من المأزق الذي يمرّ به في حال تعاون جميع الفرقاء المحليين معه”، وختمت: “يبدو أنّ عون وباسيل لم يلتقطا بعد إشارة “حزب الله” بإيكال ملف التفاوض في الشأن الحكومي إلى بري، مع ما تعنيه هذه الإشارة من أنّ الحزب بات أقرب إلى عين التينة من قصر بعبدا في مقاربة هذا الملف”.