ما احلاها أمسية تعبق بفيروز. هي المكرِّمة والمكرَّمة في ان واحد. فيروز الصوت والضوء، وشعاع الأمل المتبقي في عتمة لبنان الحالكة، تخلت عن عزلتها امس، فاتحة قلبها وذراعيها ومنزلها، للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي خصها بتكريم ما بعده تكريم، اذ ان زيارة رئيس دولة بحجم فرنسا بما تختزنه من حضارة، الى دارة “سفيرتنا الى النجوم”، لهو ابلغ تكريم، وارفع من الوسام الذي منحها اياه رئيس دولة تقدر الفن الاصيل، والثقافة، والشعر، والادب، اضافة الى العلوم الاخرى.
في الزيارة والتكريم، درس لمن يعتبر من رجال السياسة عندنا. وحسنا تفعل فيروز الا تلتقيهم. من المطار الى الرابية من دون اي محطة فاصلة. فيروز بما تختزنه من فن لبناني اصيل كانت مكرِمة ومكرَّمة في ان واحد، وومعها كُرّم لبنان كله.
فعلى رغم النكبات التي حلت بلبنان في ذكرى مئويته الاولى، من التردي الاقتصادي الناجم من الحجر، الى الازمة المالية الخانقة التي تضربه، واخيرا الحدث الجرمي المتمثل بانفجار المرفأ الذي اصاب البشر والحجر، كان لا بد من نفحة أمل، ولكنها للاسف، هبت من حيث يشاء الغير، كما كل الاحداث اللبنانية. وقد اتت هذه المرة من الام الحنون الذي كانت في نشأة لبنان الكبير، والتي عادت لتمسك بلبنان العجوز المتهالك في مئويته، يتكىء عليها مجددا،ً طالباً كل انواع الحماية والرعاية والمساعدة والدفع الى خطوات تنقذ البلد من الزوال.
وكم جميل ان المحطات التلفزيونية والاذاعية، كما المواقع، اعادت امس بث اغنيات وتحقيقات عن فيروز والرحابنة، علها تمحو بعضا من كآبة السياسة والسياسيين.
كيف”هبط” أديب على أرض التسوية “المخيبة”؟
قد لا يكتسب الكلام عن استنساخ التسوية السياسية الشهيرة التي عقدت بين قوى أساسية وأدت الى انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية صدقية كاملة او دقة كاملة في اسقاطه على مجريات الساعات الـ48 الأخيرة التي افضت الى “هبوط” السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب فجأة على المشهد السياسي وانضمامه الى نادي رؤساء الحكومات. ولكن أحدث ابتكارات الوسط السياسي الداخلي مدفوعة بزخم واندفاع فرنسي قل نظيره، لا تبعد كثيرا عن تلك التسوية الرئاسية ولو باختلاف الظروف والطريقة والوسائل التي ابتدعت تسوية كانت سمتها البارزة والأساسية والفاقعة أيضا، انها فجرت أجواء واسعة من الخيبة والإحباط خصوصا لدى شرائح سياسية وحزبية ومدنية وكذلك طائفية لكي يستوي الوصف الموضوعي الكامل للمشهد. صحيح ان التسوية المفاجئة التي استولدت اسما مغمورا وبصرف النظر عما قد تكون عليه صفاته وقدراته ومؤهلاته واستعداداته للعب الدور الذي أسند اليه لم تبرم بشكل مباشر وظاهري ومعترف به علناً وبلا أي قفازات بين الأطراف انفسهم الذين انخرطوا آنذاك في التسوية السياسية والرئاسية. ولكن ما جرى في استيلاد واختيار نادي رؤساء الحكومات السابقين وتحديدا الرئيس سعد الحريري اسم مصطفى أديب مرشح النخبة السياسية السنية واصطفاف غالبية وافرة من القوى السياسية بدءا بمعسكر تحالف العهد والثنائي الشيعي ومعظم قوى 8 آذار والقوى الوسطية مثل الحزب التقدمي الاشتراكي وراء هذا الخيار، أدى في واقع الامر الى حل سريع لاستحقاق التكليف، ولكن أيضا الى تعويم تسوية ضمنية بين بيت الوسط الذي كان العراب الداخلي لتكليف أديب، والعهد وحلفائه ولو “من بعيد لبعيد”. اذ ان احد الأسباب الوجيهة والكبيرة والمبررة للخيبة التي سرت لدى فئات واسعة مؤيدة لـ”تيار المستقبل” او لقوى 14 آذار سابقا هو ان الرئيس سعد الحريري الذي اثبت التزام صدقية تعهده عدم العودة الى رئاسة الحكومة حاليا، ذهب الى حرمان أي من أعضاء كتلته النيابية او أي اسم لصيق به مباشرة خيار التكليف ليبقى حرا من تبعات التعامل مع العهد والافرقاء الاخرين الذين اشترطوا عليه شروطا لا يقبلها للعودة. ولكنه في المقابل بتحوله العراب السياسي الأول والاكبر لخيار رؤساء الحكومات السابقين تزكية مصطفى أديب صار تلقائيا في موقع الدافع أيضا نحو تسوية متجددة مع الثنائي الشيعي والحلفاء وضمنا مع العهد. كما ان هذه التسوية “تميزت” هذه المرة بقلة معارضيها من القوى والكتل الكبيرة اذ تبدو “القوات اللبنانية” وحدها ككتلة كبيرة بعد استقالة نواب الكتائب الطرف النيابي والسياسي المعارض للتسوية من داخل المجلس النيابي وهي التي اختارت مرشحا لرئاسة الحكومة السفير نواف سلام. واذا كان هذا يشكل الظاهر الداخلي المباشر لواقع التسوية التي اثارت غباراً كثيفا من الخيبة لا يمكن تجاهله وإنكاره مهما كانت بلاغة المبررات التي طرحت لهذا الخيار ولهذه التسوية، فانه من غير المنطقي حتما تجاهل الوساطة الفرنسية التي اضطلعت بدور الرافعة القوية وبشكل مباشر ويومي ترجمته الاتصالات غير المسبوقة في كثافتها التي كان يجريها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالافرقاء السياسيين قبيل عودته مساء امس الى بيروت في زيارته الثانية للبنان في اقل من شهر للمشاركة أيضا في احياء الذكرى المئوية الأولى لاعلان لبنان الكبير. وإذا كان بعض المعطيات “حلق” في رسم سيناريوات من مثل ان اسم أديب جرت بلورته بين مسؤولين ديبلوماسيين ومخابراتيين فرنسيين وسياسيين لبنانيين، فان ذلك لا يحجب ان مناخ الرعاية الفرنسية النشطة والدافعة بقوة نحو حل سياسي داخلي لعب دورا محوريا في استعجال التسوية. ولم يكن امرا عابرا ان يجري اختيار أديب بين الكثير من ألاسماء الذين اخضعوا للغربلة في الاجتماعات المفتوحة لرؤساء الحكومة السابقين بما يعني ان ثمة مجريات في الكواليس يملكها خصوصا الرئيس الحريري كان لها الأثر المباشر في حمل مصطفى أديب الى نادي رؤساء الحكومات. واما وقد جرى تكليف أديب رسميا تأليف الحكومة الجديدة، فان مدى اتساع التسوية الداخلية “لتحميلات” خارجية وما يمكن ان تكون فرنسا قد تولته من اتصالات مع الدول المؤثرة لتسهيل ولادة حكومة اختصاصيين مصغرة كما يجري تداول الامر فهنا تماما يمكن الاختبار التالي.
وقد افضت الاستشارات النيابية الملزمة التي أجريت امس في قصر بعبدا الى تكليف مصطفى أديب بأكثرية 90 نائبا فيما نال السفير نواف سلام 16 صوتا ونال كل من الفضل شلق وريا الحسن صوتا واحدا وامتنع 9 نواب عن التسمية .
وفي اول تصريح له بعد تكليفه رسميا اعرب أديب عن “ثقته باننا سنوفق بهذه المهمة لاختيار فريق عمل من اختصاصيين للانطلاق بالعمل بسرعة والذي من شأنه ان يضع البلد على الطريق الصحيح “. وقال “في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها وطننا لا وقت للكلام والوعود والتمنيات الوقت للعمل من اجل تعافي وطننا”.
وتقرر ان يجري الرئيس المكلف استشاراته النيابية غير الملزمة مع الكتل النيابية والنواب غدا الأربعاء في مقر رئيس مجلس النواب في عين التينة وعزي السبب الى الأضرار التي اصابت مبنى المجلس في ساحة النجمة جراء انفجار مرفأ بيروت .
في سياق المواقف السياسية البارزة التي واكبت الاستشارات في قصر بعبدا اوضح الرئيس الحريري بعدما اعلن تسميته لأديب انه “يجب ان يكون هدفنا جميعا إعادة اعمار بيروت وتحقيق الإصلاحات والاتفاق مع صندوق النقد الدولي لنكسب دعم المجتمع الدولي ونسيطر على الانهيار”. وشدد على “تشكيل حكومة من أشخاص معروفين بالكفاءة والنزاهة والاختصاص ويجب ان تتشكل بسرعة ” لافتا الى ان كل الكتل النيابية أعلنت تعاونها مع الحكومة لتحقيق الهدف المنشود .
وفي ما يتعلق بموقف “القوات اللبنانية” ككتلة لم تنخرط في تسمية مرشح الأكثرية وسمت السفير نواف سلام فعزا ذلك النائب جورج عدوان الى “اننا اخترنا نواف سلام لان لا تجارب مجهولة معه وموقفه السيادي معروف وان الأوان لنأخذ نحن قرارتنا ونحن كقوات لبنانية لا نشبههم ولا هم يشبهوننا وسنصنع التغيير من قلب المؤسسات ولن نقبل تسويات داخلية وخارجية على حساب لبنان “.
وبعد اقل من ساعتين من تكليف أديب اطل رئيس مجلس النواب نبيه بري في كلمته لمناسبة الذكرى ال42 لإخفاء الامام موسى الصدر ليعلن ان “الوطن لم يعد يمتلك فائضا كافيا من الوقت لاستهلاكه وإضاعته وصرفه على المماحكات والمناورات وتصفية الحسابات “. واعتبر ان ” الخوف والقلق على لبنان هذه المرة ليس من الخارج إنما من الداخل ” ودعا الى وقف الحملات الإعلامية والتراشق الكلامي مشددا على “ضرورة تشكيل حكومة قوية جامعة للكفاءات تمتلك برنامجا انقاذيا محددا بفترة زمنية توازن بين إعادة اعمار ما تهدم في بيروت والقيام بالإصلاحات الضرورية ” . كما دعا كل المكونات السياسية الى الحوار تحت سقف المؤسسات حول مفهوم الدولة المدنية .
ماكرون ثانية
وتوج اليوم الماراتوني المفعم بالدلالات بوصول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعيد التاسعة ليل امس الى مطار رفيق الحريري الدولي في زيارته الثانية للبنان في اقل من شهر . وغرد ماكرون عبر تويتر فور وصوله فكتب باللغة العربية ” أقول للبنانيين أنكم كأخوة للفرنسيين وكما وعدتكم انا اعود الى بيروت لاستعراض المستجدات في شأن المساعدات الطارئة وللعمل سويا على تهيئة الظروف اللازمة لاعادة الاعمار والاستقرار “. كما صرح لاحقا معلنا ترحيبه بتكليف رئيس للحكومة الجديدة وقال انه “يقصد لبنان اليوم في ذكرى مئوية لبنان الكبير ولإجراء جردة للوضع العام ورأيت ان العملية بدأت بتكليف رئيس للحكومة وأرحب بتكليف رئيس حكومة لا ينتمي الى أي طرف سياسي ” ودعا الى “الإسراع في تشكيل حكومة بمهمة محددة “. وكان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في استقبال ماكرون في المطار قبل ان يبدأ الرئيس الفرنسي برنامج زيارته التي تستمر يومين بالتوجه الى الرابية لزيارة السيدة فيروز.