“سأعود في كانون الأول”… “هناك مهلة ثمانية أسابيع” … “الحكومة في خلال 15 يوماً”… ”سأتابع البرنامج الإصلاحي شخصياً”. هكذا أنهى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارته الثانية في أقل من شهر إلى لبنان في عيد ميلاده المئة، مبشّراً بخارطة طريق إذا ما سلكت مساراً صحيحاً قد تعني ولادة جديدة للبنان، وبالحدّ الأدنى خروجاً من قعر الانهيار. لكن المسؤولية في نجاح هذا المسار تقع أولاً وأخيراً على اللبنانيين بكل أطيافهم، وبالتحديد على المسؤولين والسياسيين، كلٌ من دوره وموقعه لكي يوفّر فرصةً حقيقية لهذه الخارطة، فينقذ لبنان واللبنانيين، ولربما ينفتح باب التغيير الفعلي في هذا النظام السياسي القائم.
لم يكن ماكرون في خطابه ومحادثاته رحيماً بالمسؤولين اللبنانيين، فقد هدّد بفرض عقوبات، وحذر من التمادي بالاستلشاق، واللّا- مبالاة، وانعدام المسؤولية. والأسابيع الثمانية المقبلة هي بمثابة اختبارٍ فرنسي ولبناني كما لوضع المنطقة ككل. ولا بد، طبعاً، من ترقّب نتائج الانتخابات الأميركية وارهاصاتها لكي يبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وبحسب المعلومات، فإن ماكرون يريد إنجاح مبادرته في أسرع وقتٍ استباقاً لأي تغيّراتٍ دولية وإقليمية، ولذا يريد تمرير حكومةٍ سريعاً. وقد بدأ فريق عمله إجراء اتصالاتٍ سياسيةٍ مع الكتل النيابية لمطالبتها بتقديم أسماء لتولي مناصب وزارية، بشرط أن تكون جديدة على العمل السياسي، ومتخصّصة في مجالاتها، على أن يتم العمل وغربلة الأسماء بهدف تشكيل حكومة مصغرة تعمل على إنجازات سريعة، أولها ملف الكهرباء، بالإضافة إلى الوضع النقدي والمالي من خلال التشريعات والقوانين، وذلك حسب ما أفادت مصادر مطلعة لـ”الأنباء”.
وأشارت المصادر إلى أنه، “على ما يبدو أن تشكيل الحكومة سيكون سريعاً، فيما تبقى الملفات الأخرى الأكثر أهمية، مؤجّلة إلى المرحلة اللّاحقة، وتحديداً إلى ما بعد الانتخابات الأميركية ليتضح مسار التطورات في المنطقة، وعلى أساسها يمكن أن تتحدد وجهة التغيير اللبناني، وذلك بحسب ما أعلن ماكرون نفسه الذي دعا إلى الذهاب إلى ميثاقٍ سياسيٍ، وعقدٍ اجتماعي جديد”.
وفي هذا السياق، تقول المصادر إن، “الأكيد هو أن الحضور الفرنسي في لبنان لن يكون مؤقتاً ولا آنياً، بل أصبح واضحاً من خلال الاهتمام بتفاصيل تشكيل الحكومة، والملفات المالية والاقتصادية والاجتماعية، أن فرنسا تؤسّس لدورٍ جديد لها في منطقة الشرق الأوسط، وسيكون لبنان أحد معاقلها الأساسية، لا سيّما في ظلّ ما يُحكى عن تعزيز الوجود العسكري الفرنسي على الساحل اللبناني، والعمل على توقيع اتفاقيات دفاعية وعسكرية تؤسّس لهذا الوجود العسكري في مواجهة تركيا في البحر الأبيض المتوسط”.
التحدي الأهم هو أن تنجح الحكومة المقبلة، ومعها مجلس النواب، في السير على طريق الإصلاحات وتصحيح المسار الاقتصادي والمالي في فترةٍ قصيرةٍ كثلاثة أشهر. وقد كان رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، سبّاقاً في طرح ورقة الحزب الإصلاحية التي سلّم نسخةً منها لماكرون، وتضمّنت أبرز ما يجب الإسراع في التصدي له من الإصلاحات.
وفي هذا السياق قالت مصادر مالية عبر “الأنباء” إن، “مهلة الثلاثة أشهر هي بالتأكيد غير كافية لكي يستقيم مسار لبنان الاقتصادي والمالي، إلّا أن المطلوب اليوم، والمُمكن، إعادة قطار مالية الدولة إلى السكة الصحيحة من أجل تحقيق الاستقامة”.
وشدّدت المصادر على “ضرورة البدء بالإصلاحات، وتحديداً من مدخل الكهرباء”، مذكّرةً بالموقف الدولي الواضح حول ضرورة الإيفاء بالالتزامات، متوقفةً عند حديث ماكرون في مؤتمره الصحافي في ختام زيارته: “إذا كان السياسيّون في لبنان عند التزاماتهم، فسوف نفي بالتزاماتنا”.
توازياً، أشار الباحث الاقتصادي، جاسم عجّاقة، في حديثٍ لـ”الأنباء” إلى، “وجوب اعتماد قاعدةٍ أساس في عملية إعادة لبنان إلى السكة الصحيحة، وهي تصحيح الخلل في الموازنة العامة، عبر خفض الإنفاق من جهة، ورفع الإيرادات من جهة أخرى، ومنها الانطلاق إلى تحسين الوضع الاقتصادي”.
على صعيد تخفيض النفقات، يشدّد عجّاقة على، “ضرورة البدء بمعالجة الهدر الحاصل في الملفّات الكبيرة، والقطاعات الثقيلة”، وفق تعبيره، “على رأسها القطاع العام كقطاع الكهرباء والاتصالات وغيرها، وهي الإصلاحات التي ينادي بها أساسا المجتمع الدولي”.
أما على صعيد رفع الإيرادات، فتوقّع عجّاقة، “رفع الضرائب، وهي الأداة الأساسية من أجل زيادة عائدات الدولة. وسداد الدَّين العام سيتم تمويله من هذه الضرائب، على أن تترافق العملية مع تحصيلٍ أفضل لناحية جباية هذه الضرائب، وملاحقة التهرّب الضريبي، ابتداءً من التهرّب الجمركي، وغيرها من مزاريب الهدر”.
وردّاً على سؤال حول عدم قدرة المواطن اليوم على دفع المزيد من الضرائب، فقد اعتبر عجّاقة أن، “فرض ضرائب يجب أن يكون على الموارد غير المستخدمة، وهي سياسة تُعتمد من أجل تحريك العجلة الاقتصادية. وتتنوّع هذه الموارد بين رؤوس الأموال غير المستثمرة في المصارف، أو الأراضي غير المزروعة، أو الشقق الخالية. وفرضُ ضرائب على هذه الموارد يدفع أصحابها لاستثمارها، وبالتالي زيادة في الأرباح، وحركة في الإقتصاد”.
كما لفت عجّاقة إلى، “ضرورة دعم القطاع الخاص ليكون شريكا في تصحيح مسار اقتصاد لبنان، إذ بدعمه وزيادة إنتاجيّته سيحقّق أرباحاً أكثر، ما يعني زيادة في المداخيل. وفي هذا السياق، من الممكن أن تتجه الدولة إلى الخصخصة، بعد أن أقرّت قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص”.
وشدّد عجّاقة على، “وجوب فتح ورشة في القضاء بالتوازي مع الإصلاح الاقتصادي، إذ أنه الأداة الأساس لاسترداد الأموال المنهوبة. وفي هذا المجال، يجب إقرار قوانين استقلالية القضاء، بحيث تُتاح له فرصة تعيين القضاة، كما والجهاز الإداري، بمعزلٍ عن السياسة، على أن يتمتع باستقلالية مالية”.
وعن أهمية إقرار سلّة قوانين جديدة، كالضرائب على الثروة وغيرها من القوانين، رأى عجّاقة أن، “الأولوية اليوم هي لتطبيق القوانين الموجودة، وضبط الهدر، إذا أن حوالي الـ54 قانوناً لا تطبّق اليوم، خصوصاً وأن القوانين الجديدة قد تحتاج لتعديلات دستورية”.
وفي ما خصّ صندوق النقد الدولي، أكّد عجاقة أن، “الشروع في الإصلاحات المطلوبة اليوم سيُقابل بدفعات “Fresh Money” من الصندوق من أجل دعم الاقتصاد بهدف الاستمرار، كما أن الصندوق لم يطلب إصلاحَ مختلف القطاعات في فترةٍ قصيرة، لكن البدء فيها هو مؤشر جيّد”، لافتاً إلى أن الطريق مع النقد الدولي طويلة.
وفيما يغادر ماكرون أرض لبنان في يوم مئويته، بعد أن وضع لفرنسا دورها الديناميكي الفاعل الذي يثبت، للأسف، عجز قوى الداخل، لتبقى ضرورة أن تتوفّر، ولو لمرةٍ، الإرادة السياسية المحلية لإعادة لبنان إلى سكة الشفاء من أمراضه العضال.