بلا نكهة ولا طعم مرّت استشارات “عين التينة” مروراً فولكلورياً على طريق التأليف، فلم تشكلّ سوى مجرد مضيعة لـ24 ساعة ثمينة من مهلة الأسبوعين التي منحها الرئيس إيمانويل ماكرون لاجتياز خط النهاية في السباق الحكومي. خطابات ممجوجة ومواقف طوباوية معجونة بالخبث تطايرت من على منبر الاستشارات، وألبست عتاة التعطيل والعرقلة التاريخيين لتأليف الحكومات والإصلاح في لبنان لبوس النعاج أمام عصا راعي التكليف والتأليف الفرنسي، ليبدو بذلك الرئيس المكلف مصطفى أديب ممسكاً بزمام هذه العصا يهشّ فيها على تشكيلته دون منازع ولا مزاحم في المرعى الحكومي. لكن وعلى الرغم من الزخم الماكروني الذي أعاد ضخ الأوكسيجين في عروق الطبقة الحاكمة، عادت السلطة لتحبس أنفاسها متأهبةً و”مرعوبة” من مفاعيل زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر إلى بيروت خشية أن يعيد قلب الطاولة على المبادرة الفرنسية، لا سيما وأنه وبخلاف أسلوب المواجهة و”التوبيخ عن قُرب” الذي اعتمده ماكرون مع أفراد هذه الطبقة، اختار شينكر أسلوب التجاهل و”الاحتقار عن بُعد” عبر إبقائه أركان الحكم واقفين “على إجر ونص” بانتظار تبيان ما إذا كان جدول لقاءاته سيشمل أياً منهم خلال زيارته اللبنانية.
وبخلاف ما تناقلته المعطيات الإعلامية الأولية حول الزيارة، نقلت مصادر سياسية لـ”نداء الوطن” أنّ الدوائر الرسمية لا تزال تعوّل على إمكانية أن تتبلغ خلال الساعات المقبلة بإدراج بعض المسؤولين الرسميين على جدول لقاءات شينكر، موضحةً في هذا الإطار أنه “إذا كانت الترجيحات تشير إلى استبعاد قصر بعبدا عن قائمة لقاءات المسؤول الأميركي فإنّ الرهان يدور حول ما إذا كانت عين التينة ستشكّل إحدى محطات لقاءاته، أقله لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري حول مسألة ترسيم الحدود المعلقة راهناً”. أما في الملف الحكومي، فالموقف الأميركي لا يزال على حاله لجهة ضرورة “عدم تمثّل حزب الله في الحكومة المقبلة” باعتباره طرفاً مسلحاً ويشكل “الخطر الأكبر على لبنان” حسبما وصفه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو أمس، في ما بدا رسالة تمايز عن الموقف الفرنسي تناقض نظرة التعامل مع الحزب من منظار الفصل بين جناحه المسلح وجناحه السياسي والبرلماني.
وتحت هذا السقف العالي، يجول شينكر في لبنان ليضع ثقل زيارته في خانة المجموعات المعارضة للعهد العوني ولسلاح “حزب الله” سواءً كانوا من المكونات السياسية أو المدنية، مع ترك هامش واسع للتحرك الفرنسي الحكومي والإصلاحي لمعرفة المدى الذي يمكن أن يبلغه خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وما إذا كان سيلبي طموحات وشروط المجتمع الدولي في عملية إعادة استنهاض البلد، من خلال الإصرار على تشكيل “حكومة إصلاح جذري وتغيير حقيقي” كما عبّر بومبيو، مؤكداً أنّ واشنطن في ذلك تتقاطع مع باريس و”تتشارك معها الأهداف نفسها”.
وإذا كان جبران باسيل بدا بالأمس كالناسك المتعبّد على مذبح التأليف زاهداً بوزارة “الطاقة”، وهو الأعلم قبل غيره بأن خروجه منها اتخذ شكل “الإقصاء لا التنحي”، فإنّ المصادر لاحظت أنه تعمّد إثر لقائه الرئيس المكلف أن يدقّ في المقابل إسفين “المداورة” في المركب الحكومي، مستهدفاً بذلك إقصاء “حركة أمل” عن وزارة المالية أسوةً بإقصاء “التيار الوطني” عن وزارة الطاقة، بينما لفت انتباه المصادر أنّ “بري كان أدهى منه بدفع كتلته إلى طرح ميثاقية التواقيع لضمان بقاء “التوقيع الشيعي” في المالية حفاظاً على التوازن الطائفي مع التوقيعين المسيحي والسنّي في مراسيم الدولة”، مشيرةً في هذا السياق إلى أنّ “أي شخصية شيعية سيوكل إليها الرئيس المكلف تولي حقيبة المالية لن تدور بطبيعة الحال بعيداً عن فلك عين التينة حتى ولو كانت من ذوي الطابع الاختصاصي”.