مع انقضاء الساعات الـ 24 الأولى بعد اطلاق الرئيس سعد الحريري مبادرته لإنقاذ عملية تأليف حكومة مصطفى اديب ومعها المبادرة الفرنسية من الانهيار، ارتسمت مفارقة سياسية بالغة الدلالة تمثلت في اندفاع ممثلي المجتمع الدولي الى دعم هذه المبادرة وحض الافرقاء السياسيين الاخرين على ملاقاة الحريري في مبادرته، فيما تمهلت القوى الداخلية المعنية، ولا سيما منها الثنائي الشيعي المعني الأول بعرقلة تأليف الحكومة، في تحديد موقفها الواضح من المبادرة .
غير ان الأهم من التطورات الداخلية المتصلة بمأزق تأليف الحكومة ان دلالات الاندفاع الدولي نحو تشجيع الافرقاء اللبنانيين لانجاز الاستحقاق الحكومي تتصل بالمناخات الإقليمية الشديدة التوتر والتي تنعكس بقوة على لبنان. وقد توقف المراقبون باهتمام كبير في هذا السياق امام المواقف القوية والبارزة التي اطلقها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز امس وعزا فيها الكارثة الإنسانية التي تعرض لها الشعب اللبناني بسبب الانفجار في مرفأ بيروت الى “هيمنة حزب الله الإرهابي التابع لإيران ” كما دعا الى تجريد الحزب من السلاح كشرط لاستقرار لبنان.
وعلى رغم ظلال الغموض الواسع الذي غلف المشهد الداخلي امس، فان تعمد تسريب أجواء متناقضة حول موقف الثنائي الشيعي من طرح الفرصة الأخيرة الذي اعلنه الحريري لجهة ان يسمي الرئيس المكلف مصطفى اديب وزيرا شيعيا مستقلا للمال لمرة واحدة، بما لا يشكل أي عرف، عكس من جهة إرباكا لدى الثنائي ترجم في اطلاق إشارة إيجابية من عين التينة حيال خطوة الحريري واستمرارا للمعاندة من جهة أخرى بدليل التمسك بشرط ترشيح الثنائي لأسماء يختار منها الرئيس المكلف. وفي المعلومات المتوافرة لـ”النهار” من مصادر مختلفة معنية بالمناخ السياسي الذي نشأ عن اطلاق الحريري مبادرة اثارت الكثير من الضجيج وردود الفعل المتناقضة، فان الأيام القليلة المقبلة ستكتسب طابعا تقريريا شبه حاسم ليس لبلورة نهائية لموقف الثنائي الشيعي والافرقاء الآخرين وخصوصا العهد وتياره منها فقط، بل أيضا لمصير التشكيلة الحكومية برمتها، وتاليا فان الرئيس المكلف مصطفى اديب سيكون امام مفترق حاسم اما يتمكن عبره من حمل تشكيلته الحكومية الى قصر بعبدا، واما تعود احتمالات اعتذاره لتطرح مجددا. ويبدو واضحا ان الدعاية الإعلامية الخاصة بالثنائي الشيعي ولا سيما منها القريبة من “حزب الله”، حاولت في الساعات الماضية التركيز مجددا على اعتبار خطوة الحريري جزئية وناقصة وغير مقبولة لجهة تسمية الرئيس المكلف لوزير مال شيعي وان أي خرق ممكن للازمة سيمر عبر طرح الثنائي نفسه عشرة مرشحين لوزارة المال يختار منها الرئيس المكلف اسما، فيما لم يعرف بعد موقف الثنائي من رفض الحريري والرئيس المكلف إعطاء أي فريق حق تسمية وزراء بعدما اصر الثنائي على تسمية الوزراء الشيعة جميعا. وهنا برزت نقطة التعارض الأساسية في جوهر طرح الحريري اذ علمت “النهار” ان الحريري ليس في وارد القبول في أي شكل بالية الثنائي الشيعي بتقديم أسماء مرشحيه لوزارة المال الى الرئيس المكلف بل ان جوهر طرحه يقوم على استقلالية تامة للوزير من خلال حصر تسميته بالرئيس المكلف ومن ثم التشاور بينه وبين رئيس الجمهورية وفق ما تلحظ الأصول الدستورية فقط. على ان ذلك لم يحجب الإيحاءات الإيجابية حيال خطوة الحريري التي نقلت عن زوار رئيس مجلس النواب نبيه بري ومنها ترحيبه ببيان الحريري معتبرا انه يبنى عليه إيجابا. ويبدو من مناخ الثنائي الشيعي انه يعتبر الأيام الثلاثة المقبلة حاسمة ويجب ان يكثف خلالها الرئيس المكلف تحركه لتوظيف زخم المبادرة الفرنسية “والا ذهبنا الى النوم العميق”.
ولكن موقف الثنائي الشيعي لم يكن وحده في دائرة الرصد، اذ يبدو ان مبادرة الحريري لم تنزل بردا وسلاما على قصر بعبدا بل علمت “النهار” ان رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه ابدوا انزعاجا شديدا من تجاهل الحريري لمبادرة عون وعدم ملاقاته لها. كما ان عون لا يبدو متحمسا للقاء الرئيس المكلف في بعبدا ما لم يحمل معه هذه المرة تشكيلة حكومية.
وتوافرت معلومات لـ”النهار” ليل امس ان الرئيس المكلف اجرى اتصالا هاتفيا برئيس الجمهورية وتشاور معه حول الاتصالات التي يعتزم القيام بها لاعادة تحريك عملية تأليف الحكومة بعد مبادرتي رئيس الجمهورية والرئيس الحريري .
وتبين ان بعبدا كانت تنتظر زيارة من الرئيس المكلّف، لكنه لم يبادر الى ذلك، وبدا وكانه ينتظر تجاوب “امل” و”حزب الله”، ليبني مقاربة جديدة مختلفة في التأليف.
هذا الأداء من الرئيس المكلّف بربطه عملية التأليف بالحريري وبردة فعل الثنائي الشيعي اثار استياء بعبدا التي ذكرت عبر بيان صادر عن مكتبها الاعلامي “بأنّ الدستور ينصّ صراحة في مادتيه 53 (فقرة 4) و64 (فقرة 2) على انّ رئيس الجمهورية يصدر، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، مرسوم تشكيل الحكومة، ورئيس الحكومة المكلّف يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها، ما يعني من دون أي اجتهاد او اختزال او تطاول على صلاحيات دستورية، ان رئيس الجمهورية معنيّ بالمباشر بتشكيل الحكومة وباصدار مرسوم التشكيل بالاتفاق مع رئيس الحكومة المكلّف.”
في هذا الوقت، اشارت مصادر مطلعة الى ان “تكتل لبنان القوي” رأى في بيان الحريري تجاوزاً للآليات الدستورية الخاصة بتشكيل الحكومة وانه على رغم التسهيل لا يمكن السكوت عن الكلام الذي قيل فيه ان رئيس الحكومة هو من يختار وحده الوزراء، بينما الدستور واضح لجهة ان تأليف الحكومة يتم بالاتفاق مع رئيس الجمهورية وان حصولها على ثقة مجلس النوّاب يحتاج الى الكتل النيابية.
ورأت مصادر مطلعة بان ليس هناك حكومة في المدى المنظور، والمبادرات لن تكسر الازمة طالما ان التوافق الوطني حولها مفقود.
وفي المواقف السياسية من المبادرة اعلن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ان مبادرة الحريري تفتح مجالا كبيرا للتسوية” . وتعليقا على كلام رئيس الجمهورية في مؤتمره الصحافي قبل يومين قال جنبلاط “لا أوافق على كلمة جهنم فهذا كلام غير مسؤول” مشيرا الى اننا نذهب الى مزيد من التأزم الاقتصادي والى افق مجهول “. وأوضح انه لم يقل ان اتصاله بالرئيس الحريري من باريس لم يكن إيجابيا بل كانت هناك وجهات نظر مختلفة لكن مبادرته امس تفتح مجالا كبيرا للتسوية.
باريس ومجموعة الدعم
في غضون ذلك سارعت وزارة الخارجية الفرنسية الى اعلان “اشادة فرنسا بالإعلان الشجاع الذي أدلى به السيد سعد الحريري إذ يبرهن على إحساسه بالمسؤولية والمصلحة الوطنية للبنان. ويمثّل هذا الإعلان انفتاحاً لا بدّ أن يدركه الجميع إدراكاً تاماً حتى يتسنّى الآن تشكيل حكومة ذات مهام محدّدة”. ودعت “جميع المسؤولين السياسيين اللبنانيين إلى احترام الالتزامات التي قطعوها بأنفسهم في الأول من أيلول أمام رئيس الجمهورية في سبيل تلبية الاحتياجات العاجلة للبنان”.
وقالت ان “فرنسا تشجع السيد مصطفى أديب على الإسراع في تشكيل حكومة ذات مهمات محدّدة تتألّف من شخصيات تتحلّى بالاستقلالية والكفاءة يختارها بنفسه “.
كما أصدرت مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان بيانا حضت فيه الزعماء السياسيين اللبنانيين على التكاتف لتشكيل حكومة . وقالت المجموعة في بيان بعد اجتماع عقدته امس ان “أعضاء مجموعة الدعم الدولية للبنان حثوا الزعماء اللبنانيين على التكاتف لدعم تشكيل حكومة في الوقت المناسب تكون قادرة على تحقيق التطلعات المشروعة التي عبر عنها الشعب “.