كتبت “الاخبار” تقول: يقول مصرف لبنان إنّه لم يعد يملك الدولارات الكافية لتمويل استيراد المشتقات النفطية والدواء والقمح والمواد الغذائية. يُفترض أن يقوده ذلك إلى خفض النفقات و”ترشيد” استخدام ما تبقى لديه. ولكن المصرف فضّل “تعويم” عدد من المصارف التي تُعاني من عجوزات في حساباتها الخارجية، وباعها دولارات لتُسدّد التزاماتها. هذا أحد أبواب هدر الدولارات لدى “المركزي”، التي انخفضت، “دراماتيكياً”، بقيمة 2.2 مليار دولار في غضون أسبوعين
الحقيقة الوحيدة الثابتة: موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تنهار. انخفاض ضخم شهدته هذه الموجودات (يسمّيها المصرف احتياطي) هذا العام، منه 2.2 مليار دولار سُجّلت حصراً بين 15 أيلول و30 أيلول الماضي. القيمة الإجمالية للخسائر منذ بداية العام تُقدّر بـ11.3 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من الـ2020. إنّها سنة انهيار “الهيكل”، الذي انطلقت تفسّخات أُسسه قبل سنوات. لا يُفترض أن يكون هناك نقاش حول وقوع “الفاجعة”، لكون مصدر الأرقام هو ميزانية مصرف لبنان. ولكن تحت هذه “الشمسية”، تتعدّد “الروايات” لكيفية صرف الأموال بالعملات الأجنبية. من يُطلق “دخان التمويه” ليس إلّا “المركزي” نفسه. وقد ظهر ذلك في البيان الذي صدر أمس عن اللقاء الشهري بين الحاكم رياض سلامة وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف وأعضاء جمعية المصارف.
بعد تطمينات سلامة إلى أنّ الأزمة الحادّة “أصبحت وراءنا” (!)، سأل المشاركون عن تراجع الموجودات الخارجية لمصرف لبنان بين 15 و30 أيلول. جواب سلامة بحسب ما نُقل في التعميم: “ذلك عائد بشكل رئيسي إلى سداد قروض مصرف لبنان بالدولار من قبل المصارف”. التفسير العربي البسيط للجملة أنّ “المركزي” كان قد أقرض المصارف دولارات، عَمِدت الأخيرة إلى إرجاعها. وبما أنّ “الموجودات الخارجية” للمصرف المركزي تضمّ: الودائع لدى المصارف المراسلة، والودائع لدى صندوق النقد الدولي كالتزامات الدولة، والقروض التي يُديّنها للمصارف العاملة في لبنان بالعملات الأجنبية، ألا يفترض ذلك أنّه إذا جرى تسديد الدين أن ترتفع الموجودات بالعملات الأجنبية لا أن تنخفض؟ يقود ذلك إلى استنتاجين: إما التباس المعلومات على كاتب المحضر – التعميم، فلم ينقل محضر الاجتماع بأمانة، أو أنّ حاكم المصرف المركزي يُحاول التضليل، ولا يُريد كشف الأسباب الحقيقية لاستنزاف العملة الصعبة منذ بداية السنة، واستفحلت في الأسبوعين الأخيرين، لأنّه إن فعل فسيُعزز النار المُشتعلة تحته.
يقول أحد المُشاركين في الاجتماع لـ”الأخبار”، إنّه في ختام اللقاء سُئل سلامة عن الخسائر في الموجودات بالعملات الأجنبية، فردّ بشكل مقتضب وضبابي بأنّه دفع التزامات للمصارف المحلية لدى مصارف المُراسلة. ماذا يعني ذلك؟ أنّ سلامة باع المصارف دولارات حتى تُسدّد التزامات لها في الخارج. من أين أتى سلامة بالدولار الأميركي؟ من الحساب الذي يُطلق عليه اسم “إجمالي الاحتياط” ويضمّ قرابة 19.5 مليار دولار (استناداً إلى الأرقام التي يُسرّ بها سلامة للمسؤولين السياسيين، من دون أن يُبرز أي دليل عليها). هذا الرقم هو كلّ ما لدى “المركزي” من موجودات بالعملات الأجنبية، مُكوّنة مما بقي من ودائع الناس التي أودعتها المصارف لديه. لا يوجد من هذا الاحتياطي (إذا كان الرقم دقيقاً)، سوى 3 مليارات دولار فقط قابلة للاستخدام. وهو ما دفع سلامة إلى إشهار الراية البيضاء، مُعلناً الاستسلام، وعدم القدرة على استمرار دعم المواد الرئيسية. فكيف يُمكن لمصرف الدولة الذي يُبشّر المواطنين في لبنان بالتوقّف عن دعم الدواء والقمح والمازوت والبنزين والمواد الغذائية، لأنّه مُفلس لا يملك الدولارات، أن يبيع المصارف التجارية ما تبقّى لديه من هذا المخزون؟ علماً بأنّ سلامة أقفل الخزنة أمام المصارف، منذ نهاية الـ2019، رافضاً حصولها على السيولة بالدولار لتسديد التزامات في الخارج، إلا لقاء فائدة تبلغ نحو 20 في المئة. واللافت أنّ من طلب الاستيضاح حول استنزاف الموجودات بالعملة الصعبة كان ممثلي المصارف، ليأتيهم الجواب بأنّ المصارف هي من استفادت منها! فهل لم يكن من حصل على الدولارات على عِلم بذلك؟ أم أنّ المُستفيدين منها هم قلّة ممّن ينالون رضى الحاكم؟ وما الذي تبدّل حتى تُصبح الأولوية إنقاذ مجموعة من المؤسسات التجارية الخاصة على حساب حقوق عامة الشعب؟
تعود مصادر مصرفية إلى موجودات المصارف اللبنانية لدى المصارف المراسلة. في آخر إحصاءات صدرت في تموز الماضي، بلغت الأصول 4 مليارات و425 مليون دولار، مقابل مطلوبات بقيمة 7 مليارات و580 مليون دولار، ما يعني عجزاً بـ3 مليارات و155 مليون دولار لدى المصارف في الخارج. لا يوجد سوى أربعة مصارف تملك فائضاً لدى مصارف المراسلة، منها 3 من فئة “ألفا” – أي الأكبر. عددٌ من الاعتمادات (أو Letter of Credit وتُستخدم في عمليات التجارة لتسديد ثمن البضائع) “استحقت ويجب أن تُسدّد حفاظاً على ما تبقّى من علاقة مع المصارف المراسِلة التي فرضت إما زيادة قيمة الضمانات التي تحصل عليها من نظيراتها اللبنانية لفتح الاعتمادات أو تتشدّد أكثر في إجراء التحويلات وفتح الاعتمادات”. ويُبرّر المصدر بأنّ الإجراء المُتخذ “مُجبر الحاكم على اتخاذه لتأمين الاستيراد، وبعد أن بات عجز المصارف اللبنانية في الخارج كبيراً”. لماذا أصبح العجز هائلاً؟ لأنّ المصارف بعد أن كانت توظّف 23% من ودائع الناس لديها في الخارج، وظّفت ما يُقارب 70% من الودائع في مصرف لبنان.
يوجد أسباب أخرى لتراجع موجودات “المركزي” بالعملات الأجنبية، ومنها “إعادة تقييم سندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)”، والدعم للمواد الرئيسية “الذي يُكبّد بين 600 و800 مليون دولار شهرياً”، واستمرار “تحويل أموال إلى الخارج”، بحسب أحد العاملين في مصرف لبنان، “نُحاول استعادتها عبر التعميم 154 الذي حثّ المصارف على الطلب من المعنيين إعادة ما نسبته 15% و30% من المبالغ التي أُخرجت من لبنان”. تتقاطع معلومات مصرفية حول سبب خامس لهذا الانخفاض. العودة إلى أيلول 2019، حين ارتفعت موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بحدود مليار و400 مليون دولار أميركي، عبارة عن وديعة لأحد صناديق الاستثمار الأوروبية، عَمِل على استقطابها كلّ من “غولدمان ساكس” و”بنك سوسييتيه جنرال”. تقول المصادر إنّه من بين شروط العقد، حقّ الصندوق الاستثماري سحب الوديعة قبل انقضاء خمس سنوات إذا ما طرأت مشاكل مالية أو انخفض احتياطي “المركزي” عن نسبة مُعينة. وترجّح المصادر أن يكون مصرف لبنان قد اضطّر إلى إعادة الوديعة، بعدما تراجعت موجوداته بالعملات الاجنبية عن الحد المتفق عليه مع “غولدمان ساكس”. وما يُعزّز هذا الاحتمال أنّه “خلال تلك الفترة أيضاً، حاول مصرفيون آخرون استقطاب ودائع، كانت الصناديق تشترط خلال التفاوض أن تحفظ حقها بسحبها بمجرّد أن ينخفض احتياطي مصرف لبنان عن حدّ معيّن”.