بين “السوداويات” المتمددة على أرض الواقع في ظل شحّ الليرة بعد الدولار وانقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية واجتياح النفايات المناطق والأحياء، وبين “الإيجابيات” المتطايرة من فضاء قصر بعبدا، ثمة انفصام سوريالي في المشهد اللبناني تتنازعه كوابيس اليقظة مع أضغاث الأحلام. فكما الرهان في الإنقاذ لم يكن يوماً على صدق الوعود الداخلية بل على قوة الضغوط الخارجية، كذلك الأمل في أن تسلك حكومة العهد الأخيرة مسلك الإصلاح والتغيير في النهج التدميري والذهنية الهدامة للدولة ومؤسساتها، لن يكون أملاً يُرتجى من إرادة ذاتية تتملك أهل الحكم إنما من أفعال لاإرادية أضحت تحكمهم من الخارج لتسيير أعمال الدولة الفاشلة التي يتربعون على كراسيها… هكذا مرّ التكليف وهكذا يخوض التأليف سباقه “الماراتوني” لاقتناص لحظة ولادة الحكومة في ظل الحاضنة الدولية المتاحة للبنان.
وعلى ميدان التشكيل يبدو الرئيس المكلف سعد الحريري “داعساً” بسرعة قصوى نحو تسجيل رقم قياسي غير مسبوق في سجل تأليف الحكومات، مدفوعاً بيقين مختلف الأفرقاء أنّ الفرصة الفرنسية الأخيرة للبلد هي أيضاً آخر فرصة لبقائهم على قيد الحياة السياسية إن هم أحسنوا التقاط حبل النجاة الممدود في بحر التقاطعات الإقليمية والدولية. ومن هذا المنطلق، تؤكد مصادر مواكبة للملف الحكومي أنّ الأسبوع الجاري سيختزن مؤشرات حاسمة في بلورة اتجاهات الأمور، موضحةً لـ”نداء الوطن” أنّ القيّمين على عملية التأليف “ينتهجون نهجاً متسارعاً في تدوير الزوايا، وما زيارات الرئيس المكلف المتلاحقة لرئيس الجمهورية ميشال عون سوى دلالة على اعتماد معيار السرعة والجدية في إنجاز حكومة المهمة”.
وإذ لفتت إلى “اتفاق الحريري مع عون على إنضاج الطبخة الحكومية بسرية تامة من دون ضجيج إعلامي وسياسي، وهذا ما دفع بقصر بعبدا الى اصدار بيانين متتاليين خلال 48 ساعة لنفي كل ما يُنشر ويُنسب الى رئيس الجمهورية أو القصر الجمهوري حول مفاوضات التأليف”، أشارت المصادر إلى أنّ طريق “الكتمان” الذي يسلكه الحريري في مسار مباحثاته الرئاسية، سينسحب كذلك على مفاوضاته مع الكتل النيابية “بعيداً من دهاليز التسريبات والحرتقات” السياسية، بحيث أعربت عن اعتقادها بأنّ “حبل التأليف لن يطول إذا صدقت النوايا ونجحت “خلطة” التشدد والليونة التي يعتمدها الحريري في تسريع ولادة حكومة اختصاصيين غير حزبيين مهمتها إنجاز بنود الورقة الإصلاحية الفرنسية”، كاشفةً في هذا السياق أنّ “الرئيس المكلف لديه تصور واضح إزاء التشكيلة الوزارية التي يعتزم ترؤسها، وجعبته مليئة بالسير الذاتية لذوي اختصاص على درجة عالية من التخصّص والكفاءة بعيداً عن المحسوبيات السياسية، وهو ينطلق في تشاوره مع رئيس الجمهورية والأطراف السياسية من هذا التصوّر لدفع الأمور قدماً باتجاه ولادة سريعة ومختلفة للحكومة”.
في الغضون، برزت الرسالة “المسيحية” التي ضمّنها البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي عظة الأحد متوجهاً إلى الحريري بالقول: “لا تضع وراء ظهرك المسيحيّين، تذكّر ما كان يردّد المغفور له والدك: البلد لا يمشي من دون المسيحيّين”.
وحث الراعي الرئيس المكلف على ضرورة تخطي “شروط الفئات السياسيّة وشروطهم المضادّة والتزام الدستور والميثاق ومستلزمات الإنقاذ والتوازن في المداورة الشاملة وفي إختيار أصحاب الكفاءة والأهليّة والولاء للوطن، حيث تقترن المعرفة بالخبرة، والإختصاص بالإستقلاليّة السياسيّة”، مجدداً التشديد في الوقت عينه على وجوب أن يكون لبنان “دولة حياد ناشط تنأى بنفسها عن الدخول في أحلاف وصراعات وحروب إقليميّة ودوليّة”، باعتبار الحياد هو “المدخل الضامن إلى الوحدة الداخلية وإلى الإستقرار والنهوض الإقتصادي والمالي والإنمائي والإجتماعي”، مع دعوته إلى تعجيل تشكيل الحكومة لكن ليس “كيفما تيسّر على قاعدة: من مشى مشى، ومن لم يمشِ يبقى خارجًا”.