قد تكون من المفارقات اللافتة التي تتصل بالواقع اللبناني المأزوم بل الكارثي ان يعود ملف لبنان الذي يشهد تجربة إقفاله العام الثاني لمواجهة انتشار وباء كورونا الى اجندة الأولويات الفرنسية – الأميركية في توقيت دولي لا يخطر ببال قبل شهرين من انتقال الإدارة الأميركية الى الرئيس المنتخب جو بايدن. هذا البعد سيرتسم بدلالاته الديبلوماسية والواقعية والرمزية عندما يطرح ملف الوضع اللبناني بازماته السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية في لقاء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ووزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان اليوم في قصر الاليزيه ضمن الزيارة الرسمية التي يقوم بها بومبيو لباريس لاجراء محادثات مع الرئيس الفرنسي حول الملفات التي تتسم بشراكة بين الدولتين والتي يصنف لبنان من ضمنها. ويكتسب البحث المشترك في الملف اللبناني دلالة بارزة لجهة انه يتزامن مع اجراء الرئاسة الفرنسية تقييمها الخاص لمهمة المستشار الرئاسي باتريك دوريل غداة عودة الاخير من المهمة التي أوفده اليها ماكرون في لبنان حيث التقى المسؤولين والقيادات السياسية وعاد الى باريس بحصيلة يرجح ان تكون وسعت خيبة باريس من الطبقة السياسية بفعل تخبط مسار تأليف الحكومة الجديدة بالتعقيدات المفتعلة تباعا ولو سمع الموفد الفرنسي سيلا من التعهدات الكلامية المتجددة بالتزام المبادرة الفرنسية.
وبحسب الأجواء التي نقلها مراسل “النهار” في باريس عشية استقبال ماكرون لبومبيو اليوم فان الرئيس الفرنسي لا يزال يعول على تشكيل “حكومة مهمة كفوءة ومقبولة ” من جميع الأطراف لتباشر مسار الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي. ولكن الانطباعات التي خلفتها عودة دوريل من بيروت اوحت بان لقاءاته مع المسؤولين الرسميين والسياسين لم تقدم إجابة حقيقية عن موعد الاستجابة لتشكيل الحكومة وان مفاوضات تأليفها لا تزال تدور في حلقة مفرغة في ظل الشروط والشروط المضادة التي ترفع امام الرئيس المكلف سعد الحريري. وتطرح تاليا في باريس مجموعة واسعة من التساؤلات حول جدية التزامات الافرقاء وكيف يمكن الدفع في اتجاه تذليل العقبات امام تشكيل سريع للحكومة وماذا يمكن للوزير بومبيو ان يطرح كمساهمة لبلاده معنية بدعم المبادرة الفرنسية في لبنان علما ان محاذير عرقلة الحكومة تهدد مؤتمر الدعم الدولي للبنان المزمع عقده قريبا والذي ربط انعقاده بتأليف الحكومة.
والواقع ان المشهد السياسي والحكومي الداخلي اتجه في اليومين الأخيرين الى مزيد من الغموض والشكوك في امكان الخروج قريبا من دوامة التعقيد والعرقلة اذ لم تطرأ أي عوامل من شأنها إعادة تسخين قنوات الاتصالات السياسية ولو انه من المتوقع ان يعقد لقاء جديد في قصر بعبدا بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري في الساعات المقبلة. وتتحدث مصادر مطلعة عن بدء اتخاذ ازمة التاليف بعدا مقلقا للغاية اذا تمادت لمزيد من الوقت لان ثمة معطيات تكثر عن مخاوف من تطورات إقليمية أيا تكن طبيعتها لن تبقي أي مكان لاهتمام دولي او خارجي بمد لبنان بالدعم وحينها سيتعرض لبنان لعزلة بالغة الخطورة على واقعه المازوم. وأشارت هذه المصادر الى ما تسرب عن أسباب انسداد المسار الحكومي يتخذ طابع التعطيل الحقيقي لان كل ما طرح في مسار المشاورات قبل أسبوعين تبخر تماما وعادت العملية برمتها الى مربع البدايات بما أدى الى شلل مسار التاليف.
اسقاط ووضع يد
غير ان ما استوقف المصادر بكثير من الجدية والقلق ان العهد يبدو كأنه يتجاهل تحذيرات بالغة الخطورة برزت بتزامن لافت امس بين بكركي وقيادة حزب “القوات اللبنانية” حول مشاريع هيمنة على لبنان تنطلق من تعطيل تأليف الحكومة الجديدة. وهو امر لا يمكن العهد ان يبقى اقرب الى شاهد زور حياله فكيف حين يتهم بانه شريك فيه؟ وفي سياق خطبة نارية جديدة سأل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي امس :” هل هذا التمادي في تعطيل الحكومة والاستهتار بمصالح الشعب والوطن جزء من مشروع اسقاط دولة لبنان الكبير لوضع اليد على مخلفاتها ؟”. واعلن “اننا لا نستطيع ان نرى هدفا آخر لهذا التعطيل المتمادي المرفق باسقاط ممنهج للقدرة المالية والمصرفية”. واتهم الراعي معطلي تشكيل الحكومة “باستباحة الدستور والميثاق وهوية لبنان ورسالته في الأسرتين العربية والدولية”.
وليس بعيدا من هذا الموقف تحدث رئيس حزب “القوات”سمير جعجع عن “خطة جدية لأصدقاء محور المقاومة ومن يسمون انفسهم بمحور المقاومة للسيطرة على لبنان ووضع اليد عليه”. وأعطى أمثلة عدة على ذلك مدرجا من بينها “التعويض على النائب جبران باسيل بسبب فرض العقوبات الأميركية عليه بإعطائه مكاسب في تشكيل الحكومة الامر الذي أدى الى تعطيل تشكيلها”. وإذ شدد على الحاجة الماسة الى تشكيل الحكومة اعتبر ان الرئيس سعد الحريري يحاول منفردا تحسين نوعيتها الا ان الافرقاء الاخرين همهم تكسير رأس اميركا بغض النظر عما يعانيه المواطن ودعا الى مقاومة المخطط “لأننا في وضعية مشابهة للعام 1975 “.
مؤشرات مشجعة ؟
في هذه الأجواء بدأ لبنان السبت تجربة الاقفال العام الثاني في مواجهته للانتشار الوبائي لفيروس كورونا وسط مؤشرات مشجعة نسبيا برزت في اليومين الاولين من سريان قرار التعبئة الذي يمتد حتى نهاية تشرين الثاني قبل اتخاذ القرار بتمديده او رفعه. وإذ صادف بدء الاقفال في عطلة نهاية الأسبوع فان المحك للجدل لالتزام المواطنين التدابير المفروضة وعدم مخالفتها سيتضح اكثر وتباعا بدءا من اليوم وطوال أيام الأسبوع الطالع علما ان استنفارا حكوميا واسعا سيواكب الاقفال ويترجم باجتماعات ماراتونية في السرايا الحكومية تركز على خطط تعزيز القدرات للمستشفيات الحكومية ورفع مستوى التنسيق مع المستشفيات الخاصة وتوفير المساعدات المالية الصحية والطبية من البنك الدولي . ولعل ما ميز تنفيذ قرار التعبئة الذي جاءت نسبته مشجعة في معظم المناطق الانتشار الواسع هذه المرة لقوى الامن الداخلي والأجهزة الأمنية وتجريد حملة واسعة لمنع المخالفات وضبطها بحزم ملحوظ من خلال حواجز انتشرت في الكثير من المناطق ودوريات جابت الطرق والأحياء وفرضت التزام الإجراءات. وترجمت هذه الحملة بتنظيم ما يناهز الستة الاف ضبط امس وحده للمخالفين.