لطالما كان استرداد الأموال المهرّبة بعد 17 تشرين الأول 2019 مطلباً شعبياً لمحاسبة المسؤولين عن تسريع انهيار الاقتصاد والعملة معاً، وللكشف عمّن فرض قيوداً غير محقة على أموال المودعين وأجاز حرية تحويل وتحريك أموال المحظيين والسياسيين وأصحاب المليارات. هذا المطلب بات قانوناً تقدّم به نواب التيار الوطني الحر، وينتظر اليوم مناقشته في اللجان المشتركة لإعادة التصويت عليه. ثمة ثغرات تحتاج الى تعديلات حتى لا تتناقض مع القوانين الموجودة. على أن السؤال الأبرز هو الآتي: هل يقف الدستور اللبناني الحامي للاقتصاد الحر والملكية الخاصة عائقاً أمام تطبيق هذا القانون؟
مرّ أسبوع على تحويل الهيئة العامة لمجلس النواب اقتراح القانون المعجل المكرر لاسترداد الأموال المحوّلة الى الخارج بعد 17/10/2019، الى اللجان المشتركة. القانون المقدّم من التيار الوطني الحرّ، يمثّل ضرورة لمعرفة وجهة الملايين التي أُخرجت من البلد، ولا سيما منها ودائع المساهمين ومديري المصارف والمسؤولين الذين استخدموا نفوذهم ووظيفتهم لتهريب أموالهم وأموال الذين يدورون في فلكهم. الاستنسابية حصلت في فترة إقفال المصارف والفترة التي تلتها، وفي وقت فُرضت تدابير تعسّفية على باقي المودعين. خلال جلسة مجلس النواب الأخيرة، أُسقطت صفة العجلة عن القانون بعد طلب إدخال تعديلات عليه، وسلك طريقه الى اللجان حيث من المفترض أن يُردّ بعد دراسته خلال مهلة 15 يوماً. ولكن لأن الإحالة تمت في فترة الأعياد، ستؤجل الجلسة الى بداية العام الجديد.
الاقتراح يسعى عملياً إلى معالجة مشكلة أسهمت في تعميق وتسريع الانهيار وتدهور سعر صرف الليرة بسرعة كبيرة. فوفق تصريح سابق لرئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، فإن 5.7 مليارات دولار خرجت من المصارف خلال أول شهرين من العام، فيما قدرت قيمة الخسائر المتراكمة حتى شهر نيسان بـ7 مليارات. قبيل ذلك، أي في الشهرين الأخيرين من العام 2019 لغاية 14/1/2020، أُخرج نحو مليارين و300 مليون دولار. حصل ذلك رغم القيود المشددة على إمكانية السحب بالدولار، وفي ظل معارضة سياسية واسعة لإقرار قانون الكابيتال كونترول الذي كان من الممكن أن يوقف هذا الاستنزاف. لهذا السبب نفسه، “إقرار قانون استرداد الأموال المحوّلة استنسابياً مهم جداً ويمثّل ضرورة لمعرفة لمصلحة من نُفّذت هذه العمليات، خصوصاً مع وقوف غالبية الوزراء والنواب بوجه وضع القيود على التحويلات والسحوبات النقدية، ولأنه أحد وجوه الحل لأزمة كبار المودعين”، يقول الخبير الاقتصادي دان قزي، مضيفاً أن هذا القانون يصبح “ضرورة قصوى لأن إخراج الأموال حصل بالتزامن مع إقفال المصارف؛ أدعو إلى تشكيل لوبي للضغط حتى إقرار القانون، علّه يساعد في استرجاع هذه الأموال، ولأنه سيساعد حتماً في رسم خارطة سياسية حول المسؤولين الذين استخدموا نفوذهم لتهريب ودائعهم وحول المصارف التي أسهمت في إتمام هذه العمليات وقبضت عمولة بلغت في بعض الأوقات 10% من قيمة المبلغ المهرّب”. إشارة هنا الى أن القانون لا يشمل جميع المودعين، بل ينص في مادته الأولى على “إلزام جميع مساهمي المصارف من الأشخاص الطبيعيين والمعنويين وأصحاب الحقوق الاقتصادية الحائزين على ما لا يقل عن 5% من رساميل المصارف، كما محامو المصارف والمدراء التنفيذيون فيها، وجميع الأشخاص الذين قاموا أو يقومون بخدمة عامة وتقاضوا مالاً عاماً بصفتهم تلك، بإعادة جميع الأموال النقدية والمحافظ المالية المحولة منهم الى خارج لبنان بعد تاريخ 17/10/2019 والتي يفوق مجموع قيمها ما يوازي مبلغ 50 ألف دولار أميركي خلال مهلة أقصاها ثلاثون يوماً، اعتباراً من تاريخ نفاذ هذا القانون”. وعلل الاقتراح موجبات وجوده بالوضع الاستثنائي “وفي ضوء أزمة السيولة المتفاقمة لدى المصارف، ولا سيما في العملات الأجنبية والمخاطر التي تهدد الودائع فيها والضوابط التي تمارسها المصارف على التصرّف بالودائع تلك”، فيما حددت المادة الثانية دائرة المعنيين وهم الأشخاص “الذين استغلوا نفوذهم أو الأسرار التي اطلعوا عليها بمعرض وظائفهم أو سلطتهم لإجراء التحاويل وبصورة استنسابية بصورة مخالفة لتعاميم مصرف لبنان أو تراخيصه أو الذين قاموا بتحويل الأموال في أوقات الإقفال الرسمي أو القسري للمصارف”. ورغم نصّ المادة الثالثة على أن الامتناع عن إعادة الأموال النقدية والمحافظ المالية يجعل من عمليات التحاويل التي جرت كلها حاصلة بأموال تم استحواذها بصورة غير مشروعة عملاً بأحكام قانون العقوبات اللبناني وقانون الإثراء غير المشروع والقانون الرقم 44/2015 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فإنه يترك آليات التنفيذ والمراسيم التطبيقية بيد مجلس الوزراء بناءً على اقتراح كل من وزيريّ المالية والعدل، وبعد استطلاع رأي مصرف لبنان. افتقاد الاقتراح للمراسيم التطبيقية كفيل بإسقاط القانون وجعله غير قابل للتطبيق إلا بعد سنوات على ما يقول أحد الاقتصاديين، إضافة الى بعض الثغرات، كعدم الإتيان على ذكر السرية المصرفية ولا احتمال التنسيق مع الخارج لضمان استرداد الأموال المحولة الى خارج لبنان.
النائب جورج عقيص، وخلال مداخلته عند طرح اقتراح القانون على التصويت في الهيئة العامة، أشار الى أن هذا القانون لم يحدد الأشخاص المستفيدين وما هو مطلوب منهم. لذلك يجب وضع نص جديد اقترح أن يرسل الى اللجان لقراءته مع كل قوانين مكافحة الفساد وتبييض الأموال”. ووفق ما يقوله عقيص لـ”الأخبار”، فإنه مع إقرار القانون ويطلب إحالته الى اللجنة الفرعية برئاسة النائب ابراهيم كنعان التي تدرس اقتراح قانون خاص للأعمال المتأتية عن أعمال الفساد، وقد قاربت على إنهاء عملها. هكذا تتم قراءة هذا الاقتراح بالتوازي مع القوانين الأخرى، ولأنه يفترض أن يكون ضمن هذه الرزمة وبالتآلف معها”. ويلفت النائب الزحلي الى أن “جرم الاطلاع على المعلومات بالاستفادة من الوظيفة وارد في القانون 44/2015 وله عقوبة، وهو ما يجعل الآلية الموحدة مطلباً رئيسياً حتى لا يحصل تضارب بين النصين والعقوبتين”.
ثمة مشكلة أخرى يتحدث عنها آخرون، تتعلق بالفقرة (و) من الدستور، التي تتعلق بالنظام الاقتصادي الحر الذي يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة، وبالتالي لا قدرة لأن يكون تحويل الأموال بمثابة جرم، خصوصاً أنه لم يصدر أي قانون في تلك الفترة يضع قيود على التحويلات والسحوبات بالعملات الأجنبية. في الإطار نفسه، يرى عقيص أن “التركيز يجب أن يكون على عدم الاصطدام بمبادئ قانونية عامة، مثل عدم رجعية القوانين، أي استحالة تطبيق عقوبات بمفاعيل رجعية”.
لكن ما جدوى هذا الاقتراح ما دام القانون 44/2015 يشمل هؤلاء، ولماذا لا يتم تطبيقه عليهم؟ “السؤال الذي يفترض أن يكون موضع نقاش هو هل أن القانون 44 يكفي لاستعادة هذه الأموال المحولة بعد الثورة، أم أننا بحاجة إلى نص عقابي آخر؟ إذا كان الجواب نعم، فهذا يعني أن الاقتراح ذو فائدة ويجب أن نجهد لإقراره بعد وضع بعض التعديلات عليه. إشارة الى أن هيئة التحقيق الخاصة هي الوحيدة القادرة على تقصي وتعقب حركة الأموال ورفع السرية المصرفية، وعملها منصوص عليه في قانون مكافحة تبييض الأموال، ولكن العقوبة غير محددة، وبالتالي نحتاج إلى نص يحدد العقوبة من دون التضارب مع القانون السابق”. أما ترك اقتراح القانون المقدم من التيار الوطني الحر من دون تحديد أي آليات ومراسيم تطبيقية، فيحمل في طياته “بذور فشل وعدم تطبيق”. هناك عدة أمثلة في هذا السياق، أبرزها قانون حق الوصول الى المعلومات الذي أقرّ في العام 2017 ولم تصدر مراسيمه التطبيقية سوى منذ بضعة أشهر. ووفق التجارب، فإن هذه المراسيم إما تُعطل، وفي حال إقرار هذا القانون، هناك من السياسيين والنافذين من سيلهث لتعطيله مستغلاً هذه الثغرة، وإما لا تُقرّ المراسيم إلا بعد سنوات.
للنائب إبراهيم كنعان رؤية أخرى؛ فآليات التنفيذ تحتاج الى مراسيم تضعها الحكومة وأخرى تخضع لمسؤولية مصرف لبنان، ولأن الاقتراح أصلاً مقدم بصفة معجل مكرر. أهمية هذا القانون، وفق كنعان، أنه يدخل تحويل الأموال بعد تاريخ 17 تشرين في سياق الملاحقة، وذلك ما لا ينص عليه القانون 44، لأن العمليات لا تدخل ضمن نطاق تبييض الأموال. هذا الاقتراح لا يناقض قانون النقد والتسليف، بل يعمد الى تعديله، أما ورود القانون 44/2015 ضمن الاقتراح، فيفتح باب الملاحقة المحلية والدولية المسموح به ضمن عمليات غسل الأموال. لكن تعميم مصرف لبنان ينص هو الآخر، كالمادة الثالثة من الاقتراح، على اعتبار المصارف الرافضة لإعادة نسبة معينة من رأسمالها مخالفة للقوانين المذكورة ومنها القانون 44؟ “التعميم غير ملزم ولا يعدّ بمثابة مخالفة، يفترض إعداد قانون حتى تصبح تلك العمليات مخالفة قانونية وتخضع لعقوبات صارمة”. ويشير كنعان الى أن هناك نظرية تقول بعدم إمكانية سنّ قوانين تتعارض أمام المجلس الدستوري. ولكن المفارقة هنا أن “المصلحة العليا المذكورة في الأسباب الموجبة لاقتراح القانون، ومنها إفلاس الدولة والظروف المالية، تجعل الظرف استثنائياً”.
ويعطي مثالاً على ذلك انهيار بنك إنترا في العام 1969. حينها تم إصدار قانون ووضعت قيود استثنائية على الودائع مخالفة لقانون النقد والتسليف، لكن تمّ تطبيقها لأنها حملت طابعاً استثنائياً. من ناحية أخرى، قانون الكابيتال كونترول يتعارض هو الآخر مع الاقتصاد الحر، ولكن موجبات تطبيقه في لحظة بهذه الحساسية تبرر ضرورة وجوده، فيما الفقرة الدستورية الضامنة للاقتصاد الحر عامة وغير محددة بموضوع التحاويل غير أنه يستنتج منها ضمان حرية تحرك الرساميل من دون أن تذكر الحالات الخاصة، كالإفلاس والتعثر المالي، التي يقدرها المجلس النيابي والمجلس الدستوري في حال جرى الطعن في القانون. الأمر نفسه، على ما يلفت كنعان، حصل عند إقرار الموازنة من دون حسابات مالية، والتي ردّ الدستوري الطعن فيها لأن “المصلحة العليا فوق كل اعتبار”.
في مادته الخامسة، يشمل اقتراح القانون كلاً من “زوج الأشخاص الطبيعيين المشار اليهم في المادة الأولى وفروعهم القاصرين”، فيما تقول المادة الرابعة بعدم استفادة الأموال النقدية والمحافظ المالية المستردة من أي إجراءات تحفيزية معمول بها بمقتضى تعاميم مصرف لبنان. وفي وقت يقترب الاحتياطي في مصرف لبنان من النفاد وتستفحل أزمة السيولة في المصارف، يفترض أن يجري إقرار هذا القانون بعد إدخال التعديلات اللازمة عليه، على وجه السرعة، تماماً كما التحقيق الجنائي، علماً بأن حركة تحويل الأموال لم تتوقف حتى الساعة، بل باتت تجري باحترافية عالية، بحيث انتقل البعض الى تهريب أمواله تحت ستار الدعم، وبحجة استيراد القمح عبر تقديم فواتير وهمية… وبمساعدة من سبق لهم أن أسهموا وساعدوا في تهريب المليارات عقب اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.