بأقل الأضرار الممكنة، تجاوز الجسم القضائي قطوع التمرّد الداخلي الذي قاده “التيار الوطني الحر” وحاول من خلاله شق صفوف السلطة القضائية والإجهاز على وحدتها، ضمن إطار نهج شعبوي هدّام لركائز الدولة وما تبقى من هيبة مؤسساتها. صحيح أنّ سياسة التعطيل التي امتهنها “التيار” في مختلف جوانب الشأن العام، انسحبت بقوة خلال الأيام الأخيرة على مجلس القضاء الأعلى وقوّضت قدرته الذاتية على اتخاذ التدابير الزجرية المناسبة بحق القاضية غادة عون، لكنّ قرار إحالتها على هيئة التفتيش القضائي أتى بمثابة حكم الإدانة على ما ارتكبته من تجاوزات وعصيان لقرارات مجلس القضاء وتعليمات النائب العام التمييزي، على أن يعود للمجلس اتخاذ القرار النهائي بحقها بعد تقديم الهيئة توصياتها بالإجراءات العقابية المناسبة لها.
لم يُسعف عون إلباس حضورها أمام مجلس القضاء ثوب القاضي الرصين ولا “تمسكنها” في معرض تبرير تجاوزاتها حين توجهت إلى أعضاء المجلس بالقول: “أعاني انفعالات عصبية وأحياناً لا أسيطر على انفعالاتي”، حسبما نقلت مصادر مطلعة على أجواء جلسة الاستماع إليها أمس، إنما بدت كمن “حفر حفرة وأوقع نفسه فيها” من خلال “سلسلة من التجاوزات المتراكمة التي يحفل بها سجلها القضائي والتي كانت بمجملها أمس موضع مساءلة قضائية، وليس فقط ما يتصل منها بتهجّمها على مكاتب شركة مكتف وضبطها في واقعة كسر وخلع مشهودة، وتمرّد موصوف على القرارات التي سطّرها مدعي عام التمييز بالأصالة عن موقعه وبالوكالة عن مجلس القضاء الأعلى، لتسيير جدولة الأعمال والمهمات في القضايا المالية المهمة”.
ووصفت مصادر قضائية اجتماع مجلس القضاء الأعلى أمس بأنه كان “اجتماعاً عاصفاً”، انطلاقاً من اصطدام النقاش في تجاوزاتها المتراكمة بتعمّد جهة سياسية تعطيل التوصل إلى قرار جامع بشأن الإجراء الواجب اتخاذه بحقها، موضحةً لـ”نداء الوطن” أنّ إحدى القضاة المحسوبة على “التيار الوطني الحر” (هيلانة اسكندر) قدّمت مطالعة خلال الاجتماع دفاعاً عن القاضية عون وهددت بالاستقالة في حال قرر مجلس القضاء اتخاذ إجراءات قاسية بحقها، لكن الجواب أتاها حاسماً بأن تفعل ما تراه مناسباً حتى ولو اقتضى الأمر تقديم استقالتها”.
ونوهت المصادر بـ”الصلابة” التي أبداها كل من رئيس مجلس القضاء والنائب العام التمييزي في سبيل إنهاء “الهمروجة” التي افتعلتها القاضية عون “ووضعت من خلالها هيبة القضاء على المحك ضاربةً تراتبية السلطة القضائية ووحدتها عرض الحائط”. وكشفت المصادر في هذا المجال أنّ القاضي عبود “كان له موقف صارم خلال الجلسة توجه من خلاله إلى كل الحاضرين، وبخاصة إلى القضاة المحسوبين على “التيار الوطني” الذين يبررون تصرفات القاضية عون وتمرّدها على تعليمات النائب العام التمييزي، قائلاً: فليكن معلوماً أنّ مجلس القضاء الأعلى هو من طلب من القاضي غسان عويدات اتخاذ إجراءات بحق القاضية عون وبالتالي فإنّ ما يحصل لا يمكن إعطاؤه بعداً شخصياً أو انتقامياً، ولا تصويره على أنه بمثابة معركة طائفية بين قاضٍ مسلم وآخر مسيحي، ولا معركة سياسية بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، بل إن الأمر متصل بملف حافل بتراكم المخالفات من قبل مدعي عام جبل لبنان وتجاوزاتها، ولذلك فإنّ مجلس القضاء لن يتراجع ولن يتهاون لأنه إذا تغاضى عما يحصل فستسقط مؤسسة القضاء وهذا ما لن يُسمح به أبداً”.
وإذ نقلت المصادر أنّ القاضية عون قدّمت “مرافعة مكتوبة” لتبرير تجاوزاتها عبر التموضع في موقع “الضحية المستهدفة سياسياً”، أكدت في المقابل أنّ “حجة الانفعال العصبي التي قدمتها أمام أعضاء المجلس لم تخفف من وقع ارتكاباتها”، إنما هي على العكس من ذلك أصرت على كونها “لم تخالف القانون وأصرت على تقديم الشكوى ضد النائب العام التمييزي طلباً لوقف قرار كف يدها عن الملفات المالية المهمة”.
وسرعان ما التقط أعضاء مجلس القضاء مؤشرات سلبية تؤكد نية القاضية عون في الاستمرار والإمعان بتحدي قرارات مجلس القضاء الأعلى، والتمرد على تعليمات رئيسها من خلال إقدامها فور خروجها من جلسة مساءلتها على التوجه إلى منطقة عوكر ومحاولة الدخول إلى مكاتب “شركة مكتف” مجدداً، غير أنّ وكيل الشركة المحامي ألكسندر نجار رفض الامتثال لرغبتها، فما كان منها إلا المغادرة متوعدةً بالعودة في وقت لاحق.
أما في ما يتصل بالإحالة الصادرة عن النيابة العامة التمييزية إلى النائب العام المالي لإجراء التحقيقات حيال آلية عمل شركة مكتف لشحن الأموال، فأوضحت المصادر أنّ هذه الإحالة متصلة بقضية مستقلة عن الملف المثار لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان.