يشهد لبنان والمنطقة تسارعاً في الأحداث السياسية وكأن ثمة ما يطبخ على نار حامية، إذ فجأة استأنفت مفاوضات ترسيم الحدود بعد توقُّف دام لأكثر من خمسة أشهر، وأُعيد تحريك ملف تأليف الحكومة الذي يبدو ان مفاجآت قد تبرز على صعيده، وبالتوازي تتحرّك وتيرة المفاوضات النووية بنحو متسارع، على وقع محادثات سعودية ـ إيرانية، وفي ظل كلام عن استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية بعد انتخاباتها الرئاسية في 26 الشهر الجاري.
قد يكون الوصول إلى اتفاق في ملف الترسيم ليس قريباً، ولكن استئناف المفاوضات يشكل رسالة في حد ذاته، وتجاوباً مع مسعى أميركي يمثِّل أولوية لواشنطن، ويضع لبنان، أي الترسيم، على أجندة أولويات الولايات المتحدة، الأمر الذي يعزز أوراق العهد الذي دفع في هذا الاتجاه من أجل ان يخرج من العزلة الخارجية التي وضع نفسه فيها، ويحاول بالتوازي ان يُثبت للمملكة العربية السعودية انه ذاهب إلى النهاية في ملف تهريب المخدرات من أجل إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الإجراء السعودي الأخير، كما انتزاع ثقة الرياض التي سجّلت في المرحلة الأخيرة عتباً على لبنان الرسمي في أكثر من محطة وعنوان.
وخلافاً لملف الترسيم الذي يسلك طريقه الطويلة والمتشعبة بسبب الخلافات التقنية، فإنّ الملف الحكومي لا يحتمل التأخير بفعل الأزمة المالية الخانقة والتدهور المتواصل على هذا المستوى والاقتراب من مفترق رفع الدعم وانعكاسه على الوضع الاجتماعي في البلد، ويبدو ان العقوبات الفرنسية جدية كون باريس لن تسمح بضرب صورتها وهيبتها ودورها الخارجي، وزيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان للبنان تدخل في إطار التحذير الأخير والفرصة الأخيرة في ظل توجه دولي يعطي الأولوية لتأليف الحكومة.
وتتحدّث المعلومات عن ان باريس لا تقيم وزناً للعقد التقنية الظاهرة حول من يسمّي فلاناً ولمن تؤول تلك الحقيبة الوزارية، إنما ترى ان العقدة الأساس تكمن في غياب الانسجام بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري. هذا الانسجام، وهو كناية عن الثقة الغائبة، متى تأمّن يُعالج الجوانب التقنية، وبالتالي المهم، بالنسبة إليها، إعادة ترميم الجسور بين الرئيسين، وفي حال كان هذا الأمر متعذرا، فإن البحث عن بدائل أصبح ملحاً، لأن لبنان من دون حكومة بدأ يقترب من الانزلاق نحو الفوضى، الأمر الذي يشكل خطا أحمر دولياً في لحظة يعاد فيها ترتيب ملفات المنطقة، والمطلوب من لبنان البقاء في غرفة الانتظار وليس الانهيار وتأثير هذا الانهيار على الهندسة التي يعمل عليها.
فهل يمكن توقُّع تطورات على المستوى الحكومي أم ان الفراغ سيتواصل؟ وهل تخبئ زيارة لودريان مفاجآت سارة؟ وهل صحيح ان الأيام القليلة المقبلة قد تكون حاسمة على هذا الصعيد؟
لودريان أمام احتمالين
في أي حال تتجه الانظار في الساعات المقبلة الى زيارة لودريان للبنان بعد غد، والتي سيتوقف عليها اتجاه الازمة الحكومية.
ورجّحت اوساط سياسية مواكبة للتحرك الفرنسي ان تكون مهمة لودريان في بيروت أمام احتمالين، فإمّا انه سيعطي فرصة اخيرة لخيار المعالجة الديبلوماسية والتوافق على تشكيل الحكومة بين رئيس الجمهورية والنائب جبران باسيل من جهة والرئيس المكلف سعد الحريري من جهة أخرى، وامّا ان تشكّل الزيارة توطئة لتصعيد فرنسي سواء عبر زيادة متدرجة في جرعات العقوبات على المتهمين بالعرقلة، او عبر تغيير معادلة التكليف من أساسها ورفع الغطاء عن الحريري والبحث في اسم آخر، بالترافق مع التسريبات حول موقف سعودي حازم في رفض التعاون مع الحريري.
وعليه، فإن إدراج الحريري ضمن جدول لقاءات لودريان او عدم ادراجه سيشكل مؤشراً إلى نمط التعاطي الفرنسي في المرحلة المقبلة.
وتلفت الاوساط الى ان لودريان قد يسعى الى جمع الحريري وباسيل في قصر الصنوبر على قاعدة تبرئة الذمة قبل اعتماد الخيارات التصعيدية.
غموض فرنسي
وعشية زيارة لودريان أحاطت السفارة الفرنسية برنامجها بسرية تامة، ولم يثبت فيه حتى ساعة متأخرة من ليل أمس سوى اللقاءين مع كل من عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ولم يعلن عن اي لقاء آخر ولا عن مدة بقاء رئيس الديبلوماسية الفرنسية في بيروت.
وفي ظل هذه السرية لم تحصل “الجمهورية” من مصادر بعبدا على اي موعد محدد لزيارة لودريان لعون سوى انه سيكون قبل ظهر الجمعة، وذلك في انتظار تأكيدات ستحملها الاتصالات بين بعبدا والسفارة الفرنسية اليوم.
في بيت الوسط
وفي ضوء كل ما هو شائع من معلومات وتسريبات حافظت مصادر “بيت الوسط “على صمتها المدوّي تجاه ما يذكر عن احتمال ان يشمل برنامج لودريان لقاء مع الرئيس المكلف سعد الحريري، والحديث المتنامي عن احتمال اعتذاره عن تأليف الحكومة.
وسألت المصادر عن مصدر “هذه الروايات واسترسال البعض بسيناريوهات لم يناقشها الرئيس المكلف حتى الآن مع احد”. كذلك سألت: كيف يمكن ان يشكلوا حكومة معه وكيف يمكنهم تشكيل حكومة من دونه؟
وعن زيارة لودريان لـ”بيت الوسط” اكتفت المصادر نفسها بالقول لـ “الجمهورية”: “إنّ على من يمتلك مواعيد لودريان ان يتحدث عنها، ولماذا يسترسل من لا يمتلك اي معلومة في هذه الصدد؟”.
إحتمال كبير
على انه في ظل انسداد الأفق الحكومي بَدا ان كل الإحتمالات واردة لدى الحريري. وقالت مصادر قيادية في تيار “المستقبل” لـ”الجمهورية”: “طالما الأمور متوقفة وجامدة ولا يمكن فتح ثغرة فيها، بات احتمال الإعتذار لدى الحريري كبيراً، وفتح المجال للحكم ولرئيس الجمهورية للعب الدور المفترض على مستوى الحكومة المقبلة، في ظلّ تمسُّك عون وباسيل بحكومة يسيطران عليها”.
من جهتها، قالت مصادر نيابية في “المستقبل”: “إنّ الحريري منذ تكليفه قال ما لديه. وإنّ أي موقف يتخذه أو أي تسوية يجريها تحكمه المصلحة الوطنية. وبالتالي، فإنّ إصراره حتى الآن على عدم الإعتذار منطلق من هذه المصلحة، ومن طريقة العمل للاستفادة من المبادرة الفرنسية، التي تعبّر عن المجتمع الدولي والعربي، وهي فرصة الإنقاذ أخيرة للبلد. وبالتالي، إنّ التشبث بعدم الإعتذار ليس تمسّكاً بموقع بل لإفادة البلد من هذه الفرصة. وحين لا يعود هناك من إفادة أو فرصة للبلد ويستمرّ الوضع على ما هو عليه، سيكون للحريري موقف آخر، قد يكون اعتذار أو غيره”.
وكان الحريري قد استقبل غروب أمس مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان الى مائدة إفطار، تخللها أحاديث عن مجمل التطورات والاوضاع العامة.
“لبنان القوي” يناشد
في غضون ذلك، ناشد تكتل “لبنان القوي”، خلال اجتماعه الدوري إلكترونياً برئاسة النائب جبران باسيل، الرئيس المكلف ان يبادر فورا الى تقديم تشكيلة حكومية كاملة تتضمن بوضوح توزيع الحقائب على المذاهب وتحدد المرجعيات التي تسمّي الوزراء من الاختصاصيين غير الحزبيين، ويعتبر التكتل انها جريمة وطنية ان تكون قد مرت فترة 7 أشهر من دون إنجاز هذا الأمر البديهي”. ورأى ان “مساعدة الدول للبنان أمر مهم خصوصاً في ما يتعلق ببرامج الدعم المالي والاصلاحات، إلا ان ولادة الحكومة يجب ان تكون نتاج حوار حقيقي وصادق بين اللبنانيين في هذه المرحلة المصيرية، ونتاج التفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف وموافقة اكثرية الكتل النيابية”. واكد انه “من الظلم انتظار الخارج وتطوراته ومتغيراته لإنضاج الطبخة الحكومية، فيما يُفترض ان تكون الظروف الساخنة في لبنان قد أنضجتها منذ اليوم الأول لتكليف رئيس الحكومة”.
واعتبر التكتل ان “قرار المجلس الدستوري بوَقف العمل بقانون سلفة الكهرباء بناء على الطعن الذي تقدم به نواب “الجمهورية القوية”، سيوقِع لبنان في العتمة الشاملة من دون تقديم بديل لكيفية تمويل فيول الكهرباء.
وكان المجلس الدستوري قد قرر أمس وقف مفعول القانون الرقم 215 / 2021 (قانون منح مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة) المنشور في الجريدة الرسمية في العدد الرقم تاريخ 15/4/2021 موضوع المراجعة الواردة في 26/4/2021″، وذلك في ضوء الطعن الذي قدمه تكتل “الجمهورية القوية”.
مفاوضات الترسيم
في ظل كل هذه الاجواء استؤنفت عند العاشرة قبل ظهر امس في رأس الناقورة المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل في جلستها الخامسة برعاية الأمم المتحدة، وبوساطة أميركية. وقد انعقدت هذه الجلسة على مرحلتين الاولى قبل الظهر والثانية بعده، وامتدت متقطعة حتى الثالثة والنصف عصراً ورفعها الجانب الاميركي بعدما أصرّ الجانب اللبناني على ضرورة مراجعة رئيس الجمهورية في ضوء ما طرح في الجلسة، وخصوصاً في مرحلة بعد الظهر بعدما أصرّ الجانب اللبناني على طرحه متمسّكاً بالنقطة 29 والمطالعة القانونية المتوافقة مع قانون البحار التي تحفظ حقه في حدوده البحرية وفي كل نقطة مياه، وفقاً لما هو متعارف عليه دولياً.
المعلومات الرسمية
وعاد اعضاء الوفد مساء الى قصر بعبدا للقاء رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مساء، حيث أطلعوه على المداولات التي تمت خلال الجلسة بمرحلتيها بمشاركة الوفد الأميركي. وقالت معلومات رسمية لمكتب الإعلام في قصر بعبدا انّ الوفد ابلغ الى رئيس الجمهورية جديد موقف الوفد الاميركي الذي طلب رئيسه ان يكون التفاوض محصوراً فقط بين الخط الإسرائيلي والخط اللبناني المودعَين لدى الأمم المتحدة، أي ضمن المساحة البالغة 860 كيلومتراً مربعاً، وذلك خلافاً للطرح اللبناني من جهة ولمبدأ التفاوض من دون شروط مسبقة من جهة ثانية.
واضافت المعلومات انّ عون أعطى توجيهاته الى الوفد بأن لا تكون متابعة التفاوض مرتبطة بشروط مسبقة، بل اعتماد القانون الدولي الذي يبقى الأساس لضمان استمرار المفاوضات للوصول الى حل عادل ومنصف يريده لبنان حفاظاً على المصلحة الوطنية العليا والاستقرار، وعلى حقوق اللبنانيين في استثمار ثرواتهم.
هادئة ومرنة
وفي معلومات “الجمهورية” انه كانت هناك فوارق كبيرة بين محطتي المفاوضات في جلستي قبل الظهر وبعده. ففي جلسة قبل الظهر، كانت اجواء المفاوضات سلسلة وهادئة فقدّم الجانبان اللبناني والاسرائيلي عرضاً مفصلاً عن موقفيهما بأدقّ التفاصيل. وبعدما كرر الموقف اللبناني عرضه التقني والعلمي للخط 29 والإحداثيات التي اعتمدت على ما يقول به قانون البحار، ردّ الجانب الإسرائيلي بعرض قراءته القديمة للموقف. وباستثناء اي اشارة الى الخط 310 الوهمي الاسرائيلي، أعاد الجانب الإسرائيلي اتهاماته بتغيير لبنان للخطوط والنقاط البحرية المعتلمة أكثر من مرة، واعاد التذكير والتأكيد على اعتراضه على الخط 29 مصرّاً على النقاش حول مساحة الـ 860 كيلومترا مربعا المختلف عليها في الجلسات السابقة وما بينهما خط هوف الذي لم يأت أحد على ذكره إلّا بنحو عابر من ضمن الإشارة الى وقائع المفاوضات السابقة. وبعدها رفعت الجلسة لاستراحة الغداء، فتناول كل وفد غداءه منفردا كما جرت العادة في الجلسات الاربع السابقة.
إنقلاب الوفدين
وفيما اعتقد الجانب اللبناني انّ المفاوضات انطلقت بحرية تامة ومن دون اي شروط مسبقة، وبعدما سجل للوفدين الاميركي والاسرائيلي إصغاء له وكأنهما يستمعان الى العرض للمرة الأولى انقلبت الصورة رأساً على عقب في جولة بعد الظهر، وأصرّ الجانبان الاميركي والإسرائيلي معاً على حصر المفاوضات ما بين النقطة 1 والخط 23 المسجلين لدى الأمم المتحدة بالوسائل المعتمدة وأصرّا على التنكر لما طرحه الوفد اللبناني عن النقطة 29 وكأنه لم يكن.
وبعد فترة من المناقشات التي اصطدمت بما يمكن تسميته انقلابا مشتركا اميركيا ـ اسرائيليا على كل ما شهدته جولة قبل الظهر، طلب الوفد اللبناني رفع الجلسة ليعود الى القيادة السياسية، فكان له كما اراد وعاد الوفد الى بعبدا.
جلسة الغد رهن الاتصالات
وعلمت “الجمهورية” انه وفي الوقت الذي كان مقرراً ان تستمر المفاوضات ليومين انتهت الجلسة الخامسة امس ولن تعقد السادسة اليوم، إذ كان الوفد الأميركي ينوي ان تستمر ليومين لو وافق الجانب اللبناني على الطرح الذي واجهه به.
وعلمت “الجمهورية” ان عون أنهى الاجتماع بالوفد اللبناني المفاوض بتأكيد على أنه سيجري الاتصالات اللازمة بالجانب الاميركي من اجل التفاهم على المرحلة المقبلة. وإذا نجحت الإتصالات التي سيجريها الرئيس عون بالمسؤولين الأميركيين وسقطت الشروط الاميركية والاسرائيلية يعود الوفد الى المفاوضات.
الوفدان اللبناني والاميركي
وكان الوفدان اللبناني والأميركي قد وصلا من مطار رفيق الحريري الدولي – بيروت إلى الناقورة في طوافتين عسكريتين. وشهدت الناقورة والساحل الجنوبي دوريات مكثفة للجيش وقوات “اليونيفيل”، إضافة إلى دوريات بحرية وجوية لمروحيات “اليونيفيل”، وتزامنَ ذلك مع تحليق مكثف للطيران الاسرائيلي فوق الناقورة والبحر، أثناء انعقاد جلسة التفاوض.
وبالتزامن، نظمت “المجموعات السيادية في حراك 17 تشرين” تظاهرة في ساحة الشهداء أمس، مطالبة عون بـ”توقيع المرسوم 6433 تحت شعار “التفريط بحقوقنا النفطية خيانة”، معتبرة “أن صفقة ملف النفط وترسيم الحدود هدية للعدو الاسرائيلي”.
كورونا
صحياً، أعلنت وزارة الصحة العامّة في تقريرها اليومي حول مستجدات فيروس كورونا امس تسجيل 748 إصابة جديدة (728 محلية و20 وافدة) ليصبح العدد الإجمالي للإصابات 529205. وكذلك تسجيل 23 حالة وفاة جديدة ليصبح العدد الإجمالي للوفيات 7368.