غبار الأزمة المفتعلة التي نشأت عقب قرار مجلس الشورى تجميد السحوبات على سعر 3900 ليرة للدولار، لم يحجب الأفق المسدود الذي وصلت إليه الأزمة الحكومية. الحريري أقفل ملف التشكيل بحلفاء أقل، لكنه اطمأن إلى أن حليفه رياض سلامة لا يزال يغذّي الأزمة، ظناً منه أنها ستؤدي إلى عودته مطلق اليدين إلى رئاسة الحكومة. في المقابل، فإن سلوك الأخير يشي بأنه مقتنع بخوض معركة سياسية مفتوحة مع العهد هدفها تعبئة جمهوره من أجل استعادة شرعية تمثيله، علّه يفرض نفسه على السعودية مجدداً
السقوف العالية في الخطاب السياسي الخلافي بين أبرز القوى الحاكمة تحيل إلى لحظة استعداد للانتخابات النيابية لا إلى استحقاق تشكيل حكومة جديدة. كل ما يقوم به أطراف الأزمة يكشف عن أن أزمة الثقة بالنظام انتقلت إلى التركيبة الحاكمة نفسها، التي تخشى صراحة تحمّل المسؤولية، ليس عن الأخطاء التي أدّت بالبلاد إلى ما هي عليه اليوم، بل في المشاركة ولو جزئياً في الحد من سرعة التدهور الذي يقود البلاد إلى الفوضى الشاملة.
سعد الحريري يصر على تشكيل الحكومة، لكنه يصر على تشكيلها وحده من دون شراكة مع أحد. وهو يفعل ذلك بطريقة لا تخفي أنه يحظى بدعم جهات خارجية أكثر من تلقّيه دعما داخلياً. لقد خسر الحريري كل حلفائه في الداخل، وعلى رأسهم البطريرك الماروني بشارة الراعي، ولم يبق لديه سوى “نصف حليف” في عين التينة، إذ يشعر الرئيس نبيه بري بأنه غير قادر على حماية هذا الخيار كما في السابق، وهو ما قاله صراحة النائب السابق وليد جنبلاط في معرض إشارته إلى ضرورة مبادرة الحريري نحو تسوية معقولة مع الرئيس ميشال عون.
لكن الحريري لم يخسر حليفه الأقوى في حزب المصرف، أي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي لا يزال يدير كل ما يتصل بالسياسات النقدية، ويتعدى على الاقتصاد والمالية العامة. وهو وإن يظهر في خلاف مع المصارف على كيفية التعامل مع جزء من ودائع الناس، إلا أنه لا يزال يرفض السير في خطوات تساعد على معالجة جانب من الأزمة. وما إسراعه، أول من أمس، إلى التقيّد الحرفي والمباشر والفوري بقرار مجلس شورى الدولة الخاص بوقف تنفيذ التعميم الرقم 151 الخاص بالسحب النقدي للدولار على سعر 3900 ليرة للدولار، سوى إشارة إضافية من جانبه إلى كونه لا يزال فاعلاً في الجبهة التي تدعم وصول الرئيس الحريري بطريقة تمنحه اليد المطلقة في بيع ما تبقّى من قطاعات الدولة بحجة الحصول على مساعدات وديون خارجية جديدة.
خطوة سلامة التي ألغيت أمس بقرار في قصر بعبدا، غير معروف الأصل القانوني، لم تكن لتتم لولا قرار رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس. هذا القاضي الذي لم يمر وقت طويل على تثبيته شرعية مزيفة للأرض المغتصبة في وسط بيروت من قبل شركة “سوليدير” ورعاتها، اتخذ قراراً ينمّ عن نقص في إدراك مخاطر قرارات نوعية في مثل هذه اللحظات. صحيح أن القرار كان يجب أن يصب في مصلحة المودع الذي يفترض به الحصول على وديعته بالعملة التي أودعها بها في المصرف، لكن القاضي المعني يعرف أن مصرف لبنان، كما بقية المصارف، لم تلتزم مطلقاً بأي حكم أو قانون أو قرار صدر خلال العامين الماضيين لضمان بعض حقوق المودعين. وبدلاً من أن يؤدي قراره إلى إلزام المصارف بإعادة الودائع بالعملة التي أودعت فيها، فإن هذه المصارف، بقيادة رياض سلامة نفسه، سعت إلى سرقة ما تبقّى من قدرة شرائية للمدّخرات. هذه التجربة تدلّ على أنه لم يعد جائزاً الاستمرار في الرهان على خطوات فردية من هذا القاضي أو ذاك، فيما الدولة غائبة تماماً عن القرار. فإذا كان بعض القضاة يخرجون بأحكام تسمي السارق باسمه وتسعى إلى حماية المودعين، فإن المنظومة القضائية بشكل عام، أولاً تتصرف بصفتها ليست صاحبة الصلاحية في مواجهة الجريمة المتمادية التي ينفّذها النظام المصرفي، وثانياً ليست قادرة على خوض حرب مع هذا النظام، إما لأنها شريكة له أو لأن الحماية السياسية أكبر من القضاء. ولذلك، لا بديل من سن قانون يعيد للمودعين بعضاً من حقوقهم فعلاً لا قولاً، حتى لو كانت النتيجة إعلان إفلاس بعض “المصارف الزومبي”.
عملياً، ما حصل أمس يدفع إلى الاعتقاد أن هناك لعبة متعددة الأهداف؛ من بينها:
أولاً: يشي سلوك الحريري بأنه مقتنع بوجهة نظر تقول له بخوض معركة مفتوحة هدفها تعبئة جمهوره والوصول إلى حكومة انتخابات من أجل استعادة شرعية تمثيله، بقصد فرض نفسه ليس على اللاعبين الداخليين، بقدر ما هو يهتم بأن يعيد فرض نفسه على اللاعب الإقليمي، وخصوصاً السعودية التي ترفض الحديث معه.
ثانياً: يعكس سلوك سلامة رغبته في قلب الطاولة، إن أمكن، على الجميع، ولا سيما أنه مطّلع على سير التحقيقات الجارية من قبل الجهات القضائية المعنية في لبنان وخارجه، والتي تظهر مؤشراتها صعوبة نجاته من اتهامات كبيرة تتعلق باستخدام موقعه لغايات ربحية مباشرة أو بواسطة مقرّبين منه.
ثالثاً: سعي المصارف إلى إدخال تعديلات جوهرية تسمح لها بالتفلت من مسؤوليتها عن الاستدانة الهائلة من جهة، وضياع ودائع الناس من جهة ثانية، وعدم رغبتها في إعادة قسم كبير من أموالها الخاصة أو حتى بيع بعض أصولها في لبنان من أجل إعادة الأموال إلى المودعين. وكان واضحاً أن المصارف، بعد ما حصل أول من أمس، لم تظهر خشية من فوضى أهلية بقدر ما كانت تظهر رغبة في استعادة الأسابيع الأولى بعد انتفاضة 17 تشرين بغية إقفال أبوابها بصورة تامة واستمرار عملها بالتعاون مع رجال أعمال وتجار سياسيين في تهريب الأموال إلى الخارج، في ظلّ حماية قانونية نتيجة عدم إصدار مجلس النواب تشريعاً يفرض قيوداً على تحويل العملات الأجنبية الى الخارج (الكابيتال كونترول).
رابعاً: تهديد اللبنانيين بفوضى أمنية كبيرة، تنتج من فوضى الشارع في ظل تراجع قدرة القوى الأمنية والعسكرية ورغبتها في القيام بدورها كاملاً في حماية المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وسط ميل ظاهر لدى بعض القيادات غير المدنية إلى عودة الغليان في الشارع، عسى أن يقود ذلك الناس إلى المطالبة بدور خاص للقوى العسكرية والأمنية في مسألة تولّي السلطة في البلاد، وخاصة في ظل استنفار دولي غير مسبوق لتوفير الدعم المادي المباشر للجيش وقوى الأمن الداخلي والحديث الدائم من جانب الأميركيين والأوروبيين عن دور إضافي للقوى العسكرية والأمنية في ضبط الوضع في لبنان.
المصارف تنتصر
في خلاصة تداعيات قرار “الشورى”، وبالرغم من تجميد العمل به، فإنه حقق للمصارف أكثر مما كانت تتمناه. وإذا كان المطلب سابقاً الكف عن سرقة المودعين من خلال اقتطاع 70 في المئة من السحوبات التي تتم على سعر 3900، فيما الدولار وصل سعره في السوق السوداء إلى 13 ألفاً، فقد صار أقصى مراد المودعين الاستمرار في سرقة السبعين في المئة لأن البديل سيكون سرقة 90 في المئة إذا اعتمد السعر الرسمي في السحوبات.
هذه الزوبعة التي أثيرت عبر تمرد المصارف على القرار من خلال تفسيره بغير مقصده، استدعى تدخل رئيس الجمهورية، الذي ترأس اجتماعاً ضم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس، وتقرر على أثره “اعتبار التعميم الرقم 151 الصادر عن مصرف لبنان ساري المفعول”.
ومن قصر بعبدا، تلا سلامة بياناً أعلن فيه أن مصرف لبنان لم يتبلّغ صورة صالحة عن القرار المذكور للتنفيذ، وبما أن المصرف قد تقدم بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة تضمنت عناصر إضافية جديدة لم تكن واردة في الملف، فقد تقرر اعتبار التعميم الرقم 151 الصادر عن مصرف لبنان ساري المفعول، وستعمل المصارف بموجبه. ورداً على سؤال، قال إن “مصرف لبنان ليس مفلساً، وأموال اللبنانيين موجودة في المصارف، وليست لدى مصرف لبنان”. كما نفى أن تكون أموال المودعين قد تبخّرت، مؤكداً أنه “قريباً سنبدأ بإعادتها”.
بعد الاجتماع وما أسفر عنه، خرجت أصوات عديدة تُندّد بنتائجه وما رتّبه من مخالفات قانونية. وهو ما ردّت عليه مصادر القصر الجمهوري، معتبرة أن “رئيس الجمهورية عمل بقسَمه الدستوري، آخذاً في الاعتبار سلامة المواطنين ولا سيما في ظل التطورات التي حصلت بالأمس في الشارع ومنعاً لأيّ استغلال”. وقالت المصادر إن الاجتماع “حقق الهدف منه وهو تعطيل أيّ محاولة لإحداث توتر أو مضاعفات سلبية، وبالتالي ما فعله رئيس الجمهورية لا تجاوز فيه بل هو من صلب مسؤولياته في المحافظة على الاستقرار وعلى مصالح المواطنين وسلامة الأوضاع المالية والاقتصادية، ولا سيما في ظل عدم انتظام عمل المؤسسات الرسمية”.
إلى ذلك، ترأس الرئيس عون اجتماعاً مالياً بحضور حاكم مصرف لبنان، جرى في خلاله التداول في “تأمين تمويل المواد الأساسية المدعومة بالعملة الأجنبية”. وتمت “مقاربة الحلول المتوافرة وفقاً لقانون النقد والتسليف، على أن يجري التواصل بين وزير المالية غازي وزني والحاكم رياض سلامة لهذه الغاية”.
يذكر أن عون كان قد أشار في مقابلة مع مجلّة الأمن العام إلى أن “جريمة الانهيار المالي متشابكة الأطراف، ومرتكبوها كثر، بعضهم ما زالوا في السلطة والزعامة إلى اليوم”. أضاف: هم يستميتون للإفلات من العقاب، وأنا لن أتوانى عن ملاحقة موضوع التدقيق الجنائي إلى النهاية. فخلاص لبنان لن يتم إذا لم يُكشَف عمّن أوصلوا البلاد الى هذا الدرك من الانهيار الاقتصادي.