شقَّ الوضع الكارثي والمأسوي الذي وصل إليه لبنان، طريقه إلى المراجع الدولية بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أعلن العمل مع شركاء دوليين بهدف «إنشاء آلية تضمن استمرار الخدمات العامّة اللبنانية الرئيسية»، بعد فشل السلطة في تأمين العيش الكريم بحدّه الأدنى لمواطنيها.
هذا الإعلان يُعد تصريحا تمهيديا للمجتمع الدولي بتحول لبنان إلى دولة فاشلة و»هيئة سياسية تفككت إلى درجة لم تعد فيها الشروط والمسؤوليات الأساسية لحكومة ذات سيادة تعمل بشكل صحيح» إذ عجز نظام الحكم القائم عن تأمين أبسط الحاجات الأساسية لمواطنيه.
يُحدّد صندوق الـ « Fund for Peace» الدولة الفاشلة بالخصائص الآتية:
أولا – فقدان السيطرة على أراضيها، أو فقدان احتكار الاستخدام المشروع للقوة– أي عدم قدرة الحكم على بسط سلطته على أراضي الدولة وتطبيق القوانين المرعية الإجراء؛
ثانيًا – تآكل السلطة الشرعية في اتخاذ القرارات الجماعية؛
ثالثًا – عدم القدرة على تقديم الخدمات العامة؛
رابعًا – عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
ويُضيف صندوق الـ Fund for Peace أن الخصائص المشتركة للدولة الفاشلة تشمل أيضًا «حكومة مركزية ضعيفة أو غير فعالة لدرجة أنها لا تستطيع جبي الضرائب أو تقديم أي دعم آخر، وليس لديها سيطرة عملية تذكر على الكثير من أراضيها، وبالتالي هناك عدم توفير للخدمات العامة». من هنا يؤسّس فشل الدولة لوجود أرضية خصبة «للفساد والإجرام على نطاق واسع، وتدخل الجهات الحكومية وغير الحكومية، وظهور اللاجئين والحركة غير الطوعية للسكان، والتدهور الاقتصادي الحاد، والتدخل العسكري من داخل وخارج الدولة المعنية».
ومع مرور الوقت وتطوّر الأبحاث الأكاديمية، ظهر إلى العلن مقاييس كمّية تسمح بوصف أكثر دقة للدول الفاشلة نتج منها مؤشر للدول الفاشلة (Failed States Index) المكون من المؤشرات الآتية:
إجتماعية: تصاعد الضغوط الديموغرافية والصراعات القبلية والعرقية و/أو الدينية؛ نزوح جماعي داخلي وخارجي للاجئين، وخلق حالات طوارئ إنسانية شديدة؛ انتشار المظالم الجماعية الساعية للانتقام؛ وهجرة بشرية مزمنة ومستمرة.
إقتصادية: تفشي الفساد؛ تفاوت إقتصادي مرتفع؛ التنمية الاقتصادية غير المتكافئة على طول خطوط المجموعة؛ وتدهور إقتصادي حاد.
سياسية: نزع الشرعية عن الدولة؛ تدهور الخدمات العامة، تعليق القانون أو التطبيق التعسفي؛ إنتشار إنتهاكات حقوق الإنسان، عمل قوات الأمن «كدولة داخل دولة» في كثير من الأحيان مع الإفلات من العقاب؛ صعود النخب المنقسمة؛ وتدخل الوكلاء السياسيين الخارجيين والدول الأجنبية.
ولعل المتأمل لهذه التوصيفات يرى أنها تكاد تطابق الواقع اللبناني إلى حد كبير ولكن تحت مسميات أخرى في بعض منها لا سيما في الشق الاجتماعي.
مؤشر هشاشة الدولة اللبنانية بحسب تصنيف الـ Failed State Index يُشير إلى أن لبنان مرّ بمرحلة خطرة في العام 2008 – خلال أحداث 7 أيار 2008 – حيث احتل المرتبة 18 على 179 دولة (المرتبة الأولى أي 1 تكون للدولة الأكثر فشلا)، ليُعاود المؤشر تراجعه ويحتل لبنان المرتبة 40-46 حتى العام 2020. وفي العام 2021، إحتل لبنان المرتبة 34 بناء على التقرير الصادر في أيار 2021، والجدير ذكره أنه يتوقع لمؤشر العام الحالي أن ينخفض بشدة عن العام الماضي والتقرير يتم نشره في أيار من كل عام.
هذا المؤشر يُعطي لمحة عن واقع الدولة ويتمّ وضعه في سلسلة زمنية تسمح بملاحقة تطوّر الأمور كما يظهر على الرسم.
من هنا يأتي إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون كإستباق لتردّي الوضع خلال هذا العام وبحسب توقّعاتنا، فإن لبنان سيكون في المراتب العشر الأولى في العام المُقبل من ناحية الفشل حيث سيكون هناك عجز شبه كامل للدولة على كل الأصعدة وعلى رأسها الشؤون المالية والضريبية والخدمات العامة. والأصعب في الأمر أن عجز الحكومة سيشمل الأجهزة العسكرية والأمنية التي تسعى بعض الدول مثل فرنسا وإيطاليا وغيرهما من الدولة إلى دعمها بمساعدات من خلال مؤتمر دولي لدعم الجيش اللبناني (بالدرجة الأولى).
على كل الأحوال، فشل الدولة سيُترجّم بانخفاض كبير في مستوى المعيشة (Social Dumping) وحتى الوصول إلى العجز عن تأمين المواد الغذائية والأدوية والخدمات الطبية والكهرباء والمحروقات وهنا لُبّ المبادرة الفرنسية.
بالطبع كل هذا يعود إلى الفساد الذي ومنذ اتفاقية الطائف عام 1989 والتي وضعت حدّا للحرب الأهلية، سُمح لأمراء الحرب بوضع «بيضهم» في القطاع العام وأصبحت الدّولة العميقة بين أيديهم تعمل بحسب أجنداتهم، وتُسيّر الدولة كما يشاؤون ولعل أقوى مثال على ذلك، الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية مدّة 12 عامًا مع اعتمادات من خارج الموازنة أو إقرار الموازنات من دون قطوعات حساب!
ولقد انطبق هذا الأمر على جميع المؤسسات العامة بلا استثناء، وما نشهده اليوم حصادا لزرع الأمس، ولعل أبرز ثمارها بروز دولة التجار الفاسدين في حصونهم ودولتهم المالية الاحتكارية التي حرّمتها الأخلاق والأديان! أولم يرد في الحديث الشريف، «الجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»؟
فرنسا.. الأم الحنون
فرنسا وبعلاقاتها التاريخية والثقافية مع لبنان، تنظر بقلق إلى انسداد الأفق السياسية التي تمنع تشكيل حكومة والقيام بإصلاحات مُموّلة من المُجتمع الدولي، وبالتالي يأتي تحرّك الرئيس الفرنسي من منطلق هذا الدور التاريخي. ويعتبر إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤشراً خطراً لما ستؤول إليه الأمور في المرحلة المُقبلة مع تحرير كامل لسعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي – وهو ما يُسمّى بـ «رفع الدعم» – حيث من المتوقّع أن ترتفع الكلفة على المواطن اللبناني بشكل مُطرد ومعها سترتفع نسبة الفقر إلى 90% ويتأكد بذلك القضاء على الطبقة التي تقبع في الفقر المُدّقع! أضف إلى ذلك، قد تشهد المرحلة المقبلة تزايدا في رفض بعض المصارف المراسلة فتح إعتمادات للمصارف اللبنانية لأسباب مالية (تراجع الكتلة النقدية بالدولار الأميركي) أو سياسية (ضغوطات خارجية).
في خضم هذه الصورة القاتمة، السؤال المطروح هو: ما هي الآلية المالية التي يعمل عليها الرئيس الفرنسي مع شركاء دوليين لضمان استمرار تأمين الخدمات العامّة؟
عمليًا فرنسا وشركاؤها الدوليون، سيقومن بعملية «دعم» بكل ما للكلمة من معنى، أي سيدفعون من موازنات دولهم لمساعدة المواطنين اللبنانيين في الحصول على الخدمات الأساسية وعلى رأسها المواد الغذائية، الأدوية، الكهرباء والمحروقات. لكن السؤال: ألن يقوم التجّار بتهريب المواد كما يفعلون الآن؟
بالطبع أثبت التجّار جشعهم المُفرط مع غياب المحاسبة (إهمالاً أو تواطؤاً) حيث أظهرت المداهمة التي قام بها وزير الصحّة أن تجار المُستلزمات الطبية يشترون مثلا قطعة مُعينة بسعر 27 دولارا أميركيا ويبيعونها بسعر 600 دولار أميركي وهو ما يُمثل أكثر من 2000% أرباحًاعن غير وجه حق! هذه النسبة هي قبل احتساب أرباح فروقات سعر الصرف على سعر السوق ناهيك بالتهرّب الضريبي المتمثّل بقبض الثمن نقدًا وهو ما لا يُمكن لوزارة المال كشفه! مثال أخر صارخ لغياب المحاسبة والرقابة على عمل التجار، الاتهام الذي وجّهه مصرف لبنان لأحد مستوردي المحروقات بقبضه 28 مليون دولار أميركي لاستيراد محروقات لم تصل حتى الساعة إلى لبنان.
بالطبع، فرنسا والشركاء الدوليون يعرفون كل هذه الألاعيب، وبالتالي لن تُعطى الأموال للتجّار بحكم أنهم فشلوا فشلا كاملا وخانوا ثقة الشعب والمُجتمع الدولي. من هذا المُنطلق تعمل فرنسا على آلية تسمح بإيصال الخدمات للشعب اللبناني من دون المرور بالطريق التقليدي. وباعتقادنا، إن هذه الآلية قد تكون من الأمور التي تمّ طرحها مع قائد الجيش العماد جوزف عون خلال زيارته الأخيرة لفرنسا، نظرًا إلى الثقة الدولية بالجيش حيث سيكون له دور محوري في المرحلة المُقبلة.
إقتراح لألية دعم خارجية
أظهرت التجربة الماضية أن التهريب شمل 50 إلى 70% من الدعم الذي قدّمه مصرف لبنان للتجّار! أضف إلى ذلك أن هؤلاء قاموا ببيع السلع والبضائع الباقية على سعر دولار السوق السوداء وأحيانًا أعلى من سعر السوق السوداء (حالة السوبرماركات التي كانت تبيع على سعر 14500 في حين أن السعر في السوق كان 12000 ليرة للدولار الواحد والمواد المدعومة كانت على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد!). هذا الأمر شمل بالتحديد المواد الغذائية والمُستلزمات الطبّية. أما في ما يخص المحروقات والأدوية في الصيدليات، وبسبب فرض سعر رسمي، فقد قام التجّار بتهريب قسم كبير منها أو احتكارها لحين إرتفاع الأسعار من جديد.
إذًا هناك قيود يتوجّب فرضها على الآلية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا – تخصيص المواطنين اللبنانيين بهذا الدعم من خلال منصّة يتمّ تسجيل العمليات عليها وتسمح بمُعدّل استهلاكي لكل عائلة من المواد الغذائية الأساسية والمحروقات، والأدوية، والكهرباء. هذا الأمر ليس بعنصرية ضد أي نازح أو لاجئ لكون النازحين واللاجئين على الأرض اللبنانية يستفيدون من برامج دعم دولية، سيما أن إحصاء هذه الأعداد ورصد المعونات إليهم من صلب عمل هذه الجمعيات من جهة، ومن جهة أخرى لتجنب ازدواجية الاستفادة لدى هؤلاء بحيث يصير النزوح عملية ربحية لا حاجة إنسانية؛
ثانيًا – يتمّ الدفع للتجّار على أساس حجم السلع والبضائع المدعومة التي تمّ شراؤها وطرحها في الأسواق خلال الشهر؛
ثالثًا – توقّع المتاجر المُهتمّة ببيع المواد المدعومة عقدًا مع الجيش يتمّ على أساسه الإشتراك بالمنصّة وتسمح بتسجيل العملية عند حصولها؛
رابعًا –تجري مواكبة السلع والبضائع المدعومة من قبل غرفة مُشتركة بين الجيش والأجهزة الأمنية على أن يتمّ التأكّد من عدم وجود احتكار وتهريب؛
خامسًا – يتمّ تحويل الأموال إلى التاجر من خلال مصرف لبنان ومصرف التاجر؛
سادسًا – تُنشأ وحدة خاصة مُشتركة بين الجيش ومصرف لبنان تكون مُهمّتها مراقبة عمل المنصة وإجراء المُقتضى في حال المُخالفة؛
هذه الإجراءات الأولية تسمح بإيصال المواد الغذائية، والأدوية، والمُستلزمات الطبّية، والمحروقات، والكهرباء إلى اللبنانيين بحدّها الأدنى دون السماح للتجّار بالإحتكار أو التهريب تحت رقابة وطيدة من قبل الجيش اللبناني.
ويبقى السؤال الأهم في هذه العُسرة: ماذا ستكون ردة فعل أهل السلطة إذا ما تم تطبيق هذه الإجراءات؟ وهل سيبقى توظيفهم في الدولة اللبنانية نافذا، وعلى أي أساس؟ وما حكم رواتبهم ومخصصاتهم العالية غير المنتِجة؟