الانطباعات التي تولّدت لدى صندوق النقد، على مدى أسبوعين من المشاورات مع الأطراف المعنية في لبنان بشأن خطّة التعافي، يمكن اختصارها بالآتي: ليست هناك مقاربة موحّدة لتوزيع الخسائر، أما المقاربة المطروحة رسمياً فمرفوضة، بل يشعر الصندوق بأن هناك رغبة لدى «تيار» لبناني لإلقاء مسؤولية الخسائر على المجتمع، فضلاً عن غياب الإصلاحات المالية والنقدية وحتى الاجتماعية. يبدو واضحاً للصندوق أن المطلوب إبقاء النقاش معه مفتوحاً بمعزل عن النتائج… ربما لتمرير الانتخابات النيابية
على مدى أسبوعين من الاجتماعات المتواصلة مع المعنيّين في رئاسة الحكومة والوزارات ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، تكوّنت قناعة لدى ممثلي صندوق النقد الدولي بأن الخطّة التي عرضها لبنان عليهم، ونوقش الكثير من جوانبها مع المعنيين، غير صالحة كأساس لإقراض لبنان من خلال برنامج تمويلي، لا بل إنها، وفقاً لمعايير صندوق النقد الدولي، ليست ملائمة نهائياً لمعالجة الأزمة.
ضربة كهذه أتت في منتصف الجولة الأولى من مشاورات لبنان مع الصندوق. هذه الجولة ستنتهي في 10 شباط، لكن ليس واضحاً ما إذا كانت ستليها جولة مشاورات ثانية، سريعاً. إلا أن المؤكد أن النتائج والانطباعات التي تولّدت لدى فريق الصندوق، كان لها تأثير كبير على الرئيس نجيب ميقاتي إذ أعادته إلى الواقع، ودفعته إلى التنكّر لكل الخطوات التي أدرجها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ضمن الخطة، وإلى الاتصال بمستشار الحكومة المالي، «لازار»، طالباً إجراء تعديلات على بنية الخطّة تتوافق مع ما يطلبه الصندوق. وبحسب المعلومات، فإن فريق «لازار» بدأ بالفعل العمل على اقتراح تعديلات وتحضير السيناريوهات اللازمة، إلا أن الأمر يتطلّب بعض الوقت.
هذه الضربة تعني أن الحاكم سيستكمل المسار الذي بدأه من دون أي معارضة، لكنه لن يكون مساراً يوافق عليه صندوق النقد. وبالتالي، فإن التأخّر في التوافق مع الصندوق على الخطّة يفتح الباب أمام إرجاء عملية التفاوض إلى ما بعد الانتخابات النيابية.
على أي حال، لم تكن هذه الخطّة التي قيل إن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي سيعرضها على الصندوق. فالأخير، من موقعه كخبير سابق في صندوق النقد، يدرك بأن معايير الصندوق للإقراض لا تتوافق مع ما هو مقترح. لكن قبل أيام على بدء المشاورات مع الصندوق، سرت أقاويل عن أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تمكّن من إدراج خطوات محدّدة في الخطّة. يومها، حين سئل نائب رئيس الحكومة عن وجود مقاربات متنافرة لتوزيع الخسائر، قال إن الخطّة ستتضمن سيناريو أساسياً وآخر بديلاً وفُهم من كلام الشامي أن مقاربة سلامة هي السيناريو الأساسي، وأن مقاربات أخرى، سواء من الشامي نفسه أو من «لازار»، سيتم إهمالها أو ستُعرض على الصندوق بشكل غير رسمي. بهذا المعنى، بدا أن هناك صفقة كان عرّابها ثنائي ميقاتي – سلامة، تنصّ على إقرار الحاكم بحجم الخسائر البالغ 69 مليار دولار وفق حسابات الشامي، مقابل إجبار الشامي على الإقرار بصيغة توزيع الخسائر القائمة على تذويبها بضخّ النقد أو «الليلرة».
لكن، بالنسبة إلى فريق الصندوق، تبيّن سريعاً من الاجتماعات الأولى مع المعنيين في لبنان، سواء كان نائب رئيس الحكومة أو حاكم مصرف لبنان ومستشاروه ونوابه أو لجنة الرقابة على المصارف أو وزير المال وفريقه، أو غيرهم، أن هناك مقاربات متعدّدة لتوزيع الخسائر، من بينها سيناريو أساسي حدّدته الحكومة يقوم على تصفية نحو 60 مليار دولار من الودائع على مدى 15 سنة عبر أسعار متعدّدة للصرف، وخلق كتلة نقدية بقيمة 695 تريليون ليرة، فضلاً عن تصفية قسم آخر من الودائع عبر آليات من بينها تقديم أصول الدولة ضمانة مقابل تسديد عوائد سنوية (راجع «الأخبار» الإثنين 31 كانون الثاني 2022).
تقول المصادر إن صندوق النقد استفسر عن الخطوات التي ستقوم بها الحكومة اللبنانية لمعالجة الأزمة، سواء عبر الموازنة، أو عبر إعادة هيكلة الدين العام وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وسأل عن الخطة وأهدافها وحساباتها، وخلص إلى اعتبار أنها غير مقبولة. وبحسب المصادر، فإن الصندوق قال كلاماً واضحاً بهذا الخصوص، وكرّره في أكثر من اجتماع، لكنه كان أكثر وضوحاً في الاجتماع الذي عقده مع رئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميا دباغ. كذلك أعرب فريق الصندوق عن الاستياء من أداء لجنة الرقابة التي كانت تمارس تبعية للحاكم بدل أن تمارس استقلاليتها بأداء تقني يتعلق بالقواعد الأساسية لأعمال الرقابة على المصارف، ومن ضمنها الملاءة المالية واحتساب الخسائر والمؤونات وآليات شطبها وفق معايير المحاسبة الدولية… وفيما أظهرت دبّاغ تأييداً للحفاظ على رساميل المصارف بدلاً من قصّها أولاً، إلا أنها تراجعت لاحقاً لتعرب عن مخاوفها من خطّة سلامة التي لا تخلق عوامل جذب لاستعادة الثقة بالقطاع المالي، خصوصاً أن ضخّ النقد سيأتي بعد إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر الدمج أو التصفية أو غيرها. بمعنى أوضح، أشارت دبّاغ إلى أن الثقة لا تعود إلى السوق في ظل المخاطر المرتفعة لانعدام الاستقرار.في حالات الإفلاس يطبق صندوق النقد مبدأ «أفضلية التسديد» وفق معايير تبدأ بحملة الأسهم ثم تنتقل إلى المودعين ومصرف لبنان والخزينة
بالنسبة إلى الصندوق، هناك مبدأ أساسي واجب التطبيق في حالات الإفلاس: أفضلية التسديد. المعايير التي يتّبعها الصندوق منذ الأزمة المالية العالمية تفترض أن يبدأ توزيع الخسائر بمساهمي المصارف، ثم ينتقل بشكل هرمي إلى الآخرين سواء كانوا مودعين أو مصرف لبنان أو خزينة الدولة… والصندوق تشدّد في أسئلته حول ما إذا كان لبنان، بمختلف الأطراف المعنية (مصرف لبنان، الحكومة، وزارة المال….)، قد استنفد كلّ الوسائل المتاحة قبل الوصول إلى خيار تذويب الودائع بواسطة ضخّ النقد. في هذه الحالة فقط، أي لدى استنفاد كل الخيارات الأخرى، قد يوافق الصندوق على النقاش في الخيار الأخير. أما في الحالة الراهنة، والتي يظهر فيها بوضوح أن «الليلرة» هي الحلّ الأسرع والأسهل الذي يجري تبنيه من دون درس الخيارات الأخرى، فقد كان الصندوق واضحاً في موقفه الرافض.
ومن الدواعي الأساسية لرفض الصندوق للخطة هو أن توزيع الخسائر عبر ضخّ النقد أو «الليلرة» أو «تحويل الودائع من دولار إلى ليرة وفق أسعار صرف متعدّدة»، سيؤدي الى ضخّ هائل للنقد يمتدّ على 15 سنة. وبالتالي، فإنه في ظل العبء المتواصل الذي سيلقيه ضغط الضخّ النقدي على سعر الصرف، تصبح احتمالات اختلال التوازن أعلى، ما ينعكس سلباً على استدامة الدين العام. ففي حسابات سابقة للصندوق كان الوصول إلى الاستدامة يتطلب نحو 9 سنوات، إنما في ظل السيناريو الحالي قد يتطلب نحو 30 سنة. والاختلال سينعكس أيضاً على خزينة الدولة بشقَّي النفقات والإيرادات، ما ينعكس سلباً على العجز ويؤدي إلى انكماش الاقتصاد وتقلّص القدرات الشرائية للمستهلكين. باختصار ستُحدث هذه الخطة بالصيغة التي يقترحها سلامة لتوزيع الخسائر، دماراً هائلاً.
«البونزي» مجدّداً: من أين سيؤتى بـ25 مليار دولار؟
خطّة التعافي اقترحت تسديد 25 مليار دولار بالدولار النقدي، أي بنسبة 100% من قيمتها الفعلية، أي من دون أي «هيركات». يثير هذا الطرح السؤال الآتي: من أين سيؤتى بنحو 25 مليار دولار بمعدل 1.7 مليار دولار سنوياً؟ وفق شروحات حصلت عليها «الأخبار» من معنيين، فإن الخطّة تعوّل على استعادة الثقة بالقطاع العام، ما يعيد بدوره التدفقات المالية إلى وضعها السابق. وبالتالي سيتمكن القطاع المالي من تسديد الودائع القديمة بالودائع الجديدة، على أن تدار هذه العملية عبر الآليات التقليدية لإدارة السيولة. المقصود بذلك أن النظام المصرفي سيعيد ترميم النموذج الذي لا نهاية له سوى الانهيار والمعروف بـ«المخطط الاحتيالي» أو «بونزي». هنا الخطأ الذي وقعت فيه الخطّة لأنها خلطت بين السيولة وبين الملاءة. فالملاءة تعني أن يكون لدى المصرف تغطية مقابل الأموال غير النقدية التي يتوجّب عليه أن يدفعها. الملاءة هي السيولة المؤجّلة. ففي مقابل الودائع، كانت هناك أموال قرّرت المصارف أن توظّفها لدى مصرف لبنان. على ميزانياتها كانت هناك مطلوبات بقيمة معينة توازي الأصول الموظّفة لدى مصرف لبنان وبالعملة نفسها. اليوم لا تعاني المصارف من أزمة سيولة، بل من أزمة ملاءة لأن الأموال التي لدى مصرف لبنان لم تعد موجودة. ففي ميزانيته هو أيضاً يضع المطلوبات في مقابل أصول مستقبلية لأنه قادر على طباعة النقد.