كتبت صحيفة “الديار” تقول: لم يع أهل السلطة أهمية الإستقرار النقدي الذي يُعدّ حجر الزاوية في إستقرار الأسعار. هذا ما يُمكن إستنتاجه من كل ما حدث ويحدث من صراعات سياسية! النظرية الإقتصادية تُعطي الحكومات ثلاث مهام أساسية: المُهمّة الأولى هي مُهمّة المُحافظة على التوازن الداخلي والذي يشمل بدرجة رئيسية ثبات الأسعار والتوظيف الكامل. والمُهمّة الثانية هي مُهمّة المحافظة على التوازن الخارجي والذي يشمل الحفاظ على حساب جاري مُتوازن لا يُسجّل فائضًا كبيرًا أو عجزًا كبيرًا. والمُهمّة الثالثة هي إيجاد سعر صرف للعملة الوطنية بما يتلاءم والمُهمتين الأولى والثانية.
مراجعة قرارات الحكومات المُتعاقبة منذ إنتهاء الحرب الأهلية المشؤومة وحتى يومنا هذا، لم تعُطنا أي نتيجة إيجابية حول وجود قرارات أو إجراءات تذهب في إتجاه المهام الحكومية التي نصّت عليها النظرية الإقتصادية! وهذا الأمر يُحّمل كل الحكومات من دون إستثناء المسؤولية عن الوضع الذي وصلنا إليه اليوم.
العجز في الموازنة والعجز في الحساب الجاري مُستمر منذ عقود والأصعب أن عجز الحساب الجاري أخذ أبعادًا كارثية منذ بدء الأزمة السورية. إذًا، أين كانت الحكومات من هذا العجز؟ إذا كانت تعلم ولم تقم بأي إجراء فهذه مُصيبة، وإذا لم تكن تعلم فالمصيبة أكبر.
عمليًا الإقتصاد اللبناني إنفتح على العالم من بوابة التبادل التجاري الحر من دون أن يكون هناك حصانات للصناعات والزراعات الوطنية. حتى أن الرسوم الجمركية كانت أقلّ من المُعدّل العالمي بأقلّه 3 نقاط مئوية وهو ما يعني أن الحكومات المُتعاقبة لم تكن تعلم أن هذه الرسوم المُتدنيّة ساهمت بشكل أساسي في خروج الدولارات من لبنان من بوابة الإستيراد (17 مليار دولار أميركي سنويًا) أو أنها كانت تعلم وكانت تُغطّي فساد المافيات القائمة!
لم تقم الحكومات المُتعاقبة بمهامها المنصوص عليها في النظرية الإقتصادية وهي لم تُحافظ على إستقرار الأسعار، بل أن المصرف المركزي ومن باب الثبات النقدي هو من أمّن إستقرار الأسعار كما عاشه اللبنانيون منذ بدء التثبيت وحتى العام 2019.
في ظل إقتصادات دول لا تتمتّع بإستقرار سياسي و/أو أمنّي، لا يُمكن تحرير سعر صرف العملة تحت طائلة عيش ما نعيشه اليوم في لبنان. تحرير العملة لا يُمكن أن يُعتمد إلا في بلدان فيها إستقرار سياسي وأمني وفيها خطّط إقتصادية تذهب بإتجاه المهام الثلاث التي نصّت عليها النظرية الإقتصادية.
وبالتالي يُمكن الجزم أن تحرير العملة كان ليؤدّي لنفس النتائج التي نحن فيها اليوم أي فلتان في الأسعار وكان المواطن ليفقد أمنه الإجتماعي كما يحصل اليوم. لكن ما كان يتوجّب على الحكومات المُتعاقبة فعله هو تصحيح سعر الصرف مُقابل الدولار الأميركي مع التردّي الإقتصادي وتردّي المالية العامة التي فقدت ملاءتها بالعملة الصعبة في العام 2015. للتذكير فإن مستوى سعر الصرف هو عمل سياسي بإمتياز يدخل في مهام الحكومات.
الخطأ الكبير للحكومات المُتعاقبة أنها لم تع (؟!) أن العجز الكبير في الحساب الجاري وإستطرادًا في ميزان المدفوعات كان يتمّ تمويله من موجودات المصرف المركزي. وبالتالي لا يُعقل أنها لم تتخذ إجراءات لتصحيح الوضع القائم من جهة الإستيراد الذي فاق حاجات المُجتمع اللبناني بأشواط وإستفاد منه عصابات ومافيات راكمت الأموال على حساب اللبنانيين وجنى عمرهم. لماذا لم يتمّ رفع الرسوم الجمركية سابقًا؟ لم كان الإقتراح يسقط في مجلس الوزراء عند كل مُحاولة؟ الجواب بالطبع عند أصحاب القرار.
وقف دفع سندات اليوروبوندز كان له مفعول سلبي جوهري وهو عزل لبنان عن الأسواق المالية العالمية (لا إمكانية للاستدانة ولا إستثمارات خارجية). وتبع هذا القرار قرار خاطئ أخر نصّ على تمويل الإستيراد وهو ما يعني تغذية المافيات مباشرة من موجودات مصرف لبنان بالعملة الصعبة. حتى أن الحكومة ألزمت المصرف المركزي توزيع 200 دولار أميركي يوميًا من خلال الصرافين إلى كل لبناني.
هذا الاستنزاف في موجودات مصرف لبنان يجب أن يكون محلّ ملاحقة من قبل وزارة المال ووزارة الإقتصاد لمعرفة كيف تمّت الإستفادة من الأموال التي ضخّها المصرف المركزي. وبإعتقادنا أن ملاحقة هذه الأموال في الفترة التي كان فيها إستيراد السلع الغذائية يتمّ بدولارات مدعومة من مصرف لبنان على سعر 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد، هو أمر ضروري ويُمكنه تحديد المستفيدين بالأسماء والأرقام!
على كلِ، وصلنا إلى ما وصلنا إليه واليوم الواقع هو أنه تمّ إستنزاف موجودات مصرف لبنان من العملات الصعبة ولم يبق منها إلا ما صرّح عنه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أي 11 مليار دولار أميركي إحتياطي إلزامي و 1.1 مليار دولار أميركي حقوق السحب الخاصة.
إذًا كيف لمصرف لبنان أن يقوم بضخ دولارات في السوق؟ الأرقام الرسمية الصادرة عن مصرف لبنان في تقريره الشهري، تُشير إلى أن هناك 32 تريليون ليرة لبنانية في التداول و 19 تريليون ليرة لبنانية حسابات جارية. وبالتالي فإن سحب كل الكتلة النقدية بالتداول تُكلف مليار دولار على سعر السوق السوداء و 1.3 مليار دولار على سعر منصة صيرفة. وهو ما يعني أنه يُمكن لمصرف لبنان الذي يعتمد سحب السيولة من خلال التعميم 161، سحب السيولة بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق وبالتالي لجم إرتفاع سعر صرف الدولار. إلا أن هذا الإجراء ما دونه تداعيات عميقة على المواطن من ناحية أن شح الدولار في السوق، ووضع سقف بالسحوبات بالليرة اللبنانية، ورفض التجار قبول البطاقات المصرفية، يؤدّي إلى علمية تفقير للمواطن! الجدير ذكره أن خفض سعر الدولار مقابل الليرة الذي يقوم به المصرف المركزي هو تقني بحت، في حين أن المطلوب هو أن تقوم الحكومة بتحفيز الإقتصاد لكي يكون النمو الإقتصادي هو الداعم لسعر الصرف وليس المصرف المركزي الذي تنص مُهمّته على الحفاظ على سعر الصرف من خلال تدّخلات محدودة في الوقت والحجم. من هذا المُنطلق، نرى أنه وفي ظل الغموض الذي يلفّ تشكيل حكومة ما بعد الإنتخابات، وفي ظل عجز الأجهزة الرقابية عن ملاحقة المضاربين (من صيارفة وتجار) هناك ثلاثة خيارات أمام المصرف المركزي:
– الخيار الأول وينص على عدم التدخل في السوق (تلبية لطلب صندوق النقد) وهو ما سيدفع بسعر صرف الدولار في السوق السوداء إلى مستويات تاريخية جديدة ستدفع بدون أدنى شكّ التجار إلى رفع الأسعار بشكل كبير وغير قانوني في العديد من الحالات، وسيكون المواطن الضحية الأولى من ناحية تفقيره بشكلٍ عنيف. أضف إلى ذلك أن لا إمكانية بعد ذلك أمام الحكومة أو المجلس النيابي من وضع موازنة نظرًا إلى أن النفقات بالعملة الصعبة ستزيد حكمًا العجز بالموازنة.
– الخيار الثاني سحب السيولة بالليرة اللبنانية من السوق اللبناني وهو ما سبق وذكرناه أعلاه وبالتالي فإن المواطن وفي ظل محدودية السحوبات المصرفية ورفض التجار قبول البطاقات المصرفية (أو قبولها مع عمولات أصبحت خيالية: 25%)، فإن المواطن سيجد نفسه بدون أموال كافية لشراء حاجاته الغذائية وهو ما يعني فلتان أمني على الأكيد.
– الخيار الثالث ينص على تدخلات محدودة من قبل المصرف المركزي للجم الدولار وتشديد الرقابة على الإستيراد من قبل الحكومة نظرًا إلى أن العديد من التجار لا يستوردون بنفس المبلغ الذي يُحوله إلى الخارج مع العلم أن هذه الدولارات مصدرها السوق اللبناني. هذا الأمر يُعطي فترة سماح علّ الحكومة تتشكّل بسرعة وتقوم بإجراء المُقتضى لتوقيع إتفاق مع صندوق النقد الدولي وبالتالي إدخال الدولارات إلى الإقتصاد اللبناني.
اليوم تفتح المصارف أبوابها حتى السادسة مساء كذلك سيكون الأمر حتى نهار الأربعاء للسماح لكل من يريد تبديل ليراته النقدية بالدولار أن يقوم بالعملية. هذا الأمر يعني بكل بساطة أن دولار السوق السوداء سيتجّه نزولًا نحو سعر منصة صيرفة. لكن هل من قدرة للمركزي على الإستمرار على هذا النحو؟ الجواب مقسوم إلى قسمين: الأول على المدى القصير والثاني على المدى البعيد.
على المدى القصير هناك قدرة لمصرف لبنان على ضخ السيولة نظرًا إلى أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية تدخل ضمن قدرات المركزي. أضف إلى ذلك أنه خلال هذا الصيف، من المتوقّع قدوم مليون ومئتي ألف مُغترب لبناني إلى لبنان كما تُشير إليه الأرقام، وهو ما يعني أنه من المتوقّع دخول عدد من الدولارات يتراوح بين مليارين وثلاثة مليارات دولار أميركي. هذه الدولارات ستُريح السوق وستُشكّل دعما قويا لليرة اللبنانية.
على المدى البعيد، هناك إستحالة الإستمرار بضخ الدولارات إلا إذا وقّعت الحكومة إتفاق مع صندوق النقد الدولي يسمح بإدخال الدولارات إلى لبنان بعد البدء بالإصلاحات. وبالتالي كل المسؤولية في هذا الأمر تقع على كاهل القوى السياسية المُمثلة في المجلس النيابي وتفهمها للوضع الحرج الذي يمرّ به لبنان، وبالتالي تسهيل تشكيل حكومة تقنية قادرة على القيام بالإصلاحات من منطلق تقني بحت.
في هذا الوقت، قمنا بدراسة إحصائية لمعرفة مستوى دولار السوق السوداء في المرحلة المُقبلة (حتى الإنتخابات الرئاسية) ومن دون الأخذ بعين الإعتبار أن هذا السوق لا يتمتّع بمواصفات الأسواق المالية (Efficiency, Replication, Absence of Arbitrage)، وإستخدمنا Holt-Winters Algorithm لتصحيح السلسلة. وتوصّلنا إلى أن الدولار سيبقى في الهامش 20 ألفا إلى 35 ألفا مع إحتمال 80% (Holt-Winters) (أنظر إلى الرسم). يبقى القول أن التنبؤ بسعر الصرف هو مهمة مستحيلة في علم الأسواق المالية خصوصًا في لبنان مع كل الصدمات (Informational Shocks) سواء كانت سياسية أو أمنية أو إقتصادية عملًا بمبدأ أن ديناميكية سعر الصرف تتبع ديناميكية ستوكاستيكية (Jump Process).