هل «النموذج النقدي» المعتمد في لبنان لم يعد يمتلك قابلية الاستمرار إلا عبر «الهندسات المالية» التي ينفذها البنك المركزي؟ هذا، على الأقل، ما توحي به العمليات الجديدة الجارية بين مصرف لبنان والمصارف. فقد كشفت معلومات لـ«الأخبار» أن مصرف لبنان يعمد، منذ حزيران الماضي، إلى تنفيذ «هندسة مالية» جديدة، تهدف إلى جذب المزيد من ودائع المصارف إليه، عبر منحها نصف نقطة مئوية إضافية على الدولار ونقطة مئوية إضافية على الليرة، وقدّرت مصادر مصرفية حجم العمليات المنفذة، حتى الآن، بنحو 4 مليارات دولار، بكلفة بلغت نحو 250 مليون دولار سنوياً، منها نحو 30 مليون دولار نتجت من العلاوة الممنوحة فوق سعر الفائدة المعلن
بدأ مصرف لبنان، في الشهر الماضي، تنفيذ عمليات جديدة مع المصارف، تهدف إلى جذب المزيد من الودائع بالدولار وتعزيز موجوداته بالعملات الأجنبية وامتصاص السيولة المتراكمة بالليرة لدى المصارف ومنع تحويلها إلى المضاربة ودعم ربحيتها ورساميلها.
وعلى الرغم من تماثل هذه الأهداف «المعلنة» وأهداف العمليات التي نفّذها مصرف لبنان في النصف الثاني من العام الماضي تحت اسم «الهندسة المالية»، ورتبت أكلافاً باهظة قدّرت بنحو 15 مليار دولار على 10 سنوات، منها 5.6 مليارات دولار تقاضتها المصارف وكبار المودعين كأرباح استثنائية فورية (راجع تقرير «مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان: رياض سلامة خالف القانون»- العدد ٣١٨٢ الثلاثاء ٢٣ أيار ٢٠١٧)، إلا أن الآليات هذه المرة اختلفت، وكذلك الكلفة انخفضت!
آليات الهندسة الجديدة
بحسب المعلومات المسرّبة إلى «الأخبار»، يعمد مصرف لبنان حالياً إلى تشجيع المصارف على زيادة ودائعها بالدولار لديه، عبر منحها علاوة إضافية بقيمة نصف نقطة مئوية (0.50%) على سعر الفائدة المعلن، وهو ما رفع سعر الفائدة الفعلي على الدولار لدى مصرف لبنان من نحو 4% و4.5% إلى نحو 4.5% و5% تبعاً للآجال التي تراوح بين 10 و15 سنة. وتداركاً للجوء المصارف إلى تحويل الليرات لديها إلى دولارات بغية الاستفادة من هذا العرض المغري، ما يعطّل مفاعيل هذه العمليات لأن مصرف لبنان سيكون بائع الدولارات في السوق، يعمد مصرف لبنان إلى إغراء المصارف للتوظيف بالليرة لديه أيضاً، عبر منحها علاوة أكبر بمعدّل نقطة مئوية إضافية (1%) فوق سعر الفائدة المعلن، وبالتالي رفع السعر من 6.5% و7% إلى 7.5% و8% تبعاً للآجال التي تصل حتى 30 سنة.
لا توجد الآن معلومات دقيقة عن حجم العمليات المنفّذة، إلا أن مصادر مصرفية مطلعة قدّرت أن تكون قد بلغت أقل بقليل من 4 مليارات دولارات، ما يعني أن كلفة الفائدة السنوية التي سيسددها مصرف لبنان على هذه الإيداعات تقدّر بنحو 250 مليون دولار، منها نحو 30 مليون دولار كلفة العلاوة الإضافية المدفوعة على فوائد الليرة والدولار.
إعلان بلا تفاصيل
من دون أن يكشف التفاصيل، أعلن حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في افتتاح منتدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أمس، أن «مصرف لبنان عزّز موجوداته بالعملات الأجنبية خلال حزيران 2017»، وأضاف أن ذلك «يؤكّد قدرة المصرف المركزي على تحقيق الاستقرار في العملة الوطنية، كما يعلن دائماً». وقال: «إنّ الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانية يعزّز الثقة بالاقتصاد، ويعزّز أيضاً القدرة الشرائية، كما يساهم في استقرار بنية الفوائد في لبنان… وكلّها عناصر أساسية لتحسين بيئة العمل»، مشيراً إلى أن مصرف لبنان «يتدخل للمحافظة على هذا الاستقرار، آخذاً بالاعتبار صون قدرة لبنان على جذب الأموال ومراعاة حركة الفوائد العالمية والإقليمية». ورأى أنّ «الإدارة التي قام بها مصرف لبنان سمحت لبلدنا بالمحافظة على فوائد مقبولة بين 6 و7%، بينما هي على سبيل المقارنة 12% في تركيا و20% في مصر، وهما دولتان ذات حجم وذات اقتصاد مكتمل»، لافتاً إلى أن «الفوائد المنخفضة نسبةً إلى تصنيف لبنان تؤمن أفضلية تنافسية للقطاعات المنتجة، فتعوّض نسبياً عن التكاليف الناجمة عن تردي البنية التحتية وعن تراجع الخدمات العامة وتعقيدات المعاملات الإدارية». مشدداً على «حرص مصرف لبنان على المساهمة في تقوية رسملة المصارف لكي تبقى قادرة على التسليف. فالأنظمة المصرفية الدولية ربطت ما بين رأسمال المصرف وما هو مسموح له بالتسليف»، مشيراً إلى أن «ملاءة المصارف، وتبعاً لمعايير بازل -3، ستبلغ 15%، وستطبق المصارف اللبنانية المعايير المحاسبية المطلوبة دولياً. ولديها، منذ الآن، القدرة المالية اللازمة».
أزمة عجز ميزان المدفوعات
هذا الإعلان الواضح عن الحاجة إلى التدخّل للمحافظة على «الاستقرار»، يعزز الاعتقاد السائد منذ مدّة بأن النموذج النقدي اللبناني لم يعد يمتلك القدرة على الاستمرار من دون تدخلات متواصلة من مصرف لبنان، مع ما يعنيه ذلك من أكلاف إضافية تترتب على المجتمع والاقتصاد، وهي أكلاف مرتفعة جداً بإقرار واسع النطاق، وكذلك تعاظم سيطرة مصرف لبنان على الاقتصاد وقنوات إعادة التوزيع ومصادر التمويل. فالهندسة المالية الجديدة تأتي في ظروف مماثلة للهندسة المالية في العام الماضي، وهي تُظهر أن مفاعيل مثل هذه الهندسات المكلفة محدودة وتنحصر بمدى زمني قصير نسبياً، إذ تشير مصادر مصرفية إلى أن ميزان المدفوعات (الذي يعبّر بمعنى ما عن رصيد الأموال الداخلة والخارجة) عاد ليسجل عجزاً تراكمياً على غرار ما كان قائماً خلال الفترة من سنة 2011 إلى حزيران 2016. وبحسب إحصاءات ميزان المدفوعات الصادرة عن مصرف لبنان سجّل شهر أيار الماضي عجزاً بقيمة 591.5 مليون دولار، بالإضافة إلى عجز بقيمة 320.9 مليون دولار في نيسان، وهو ما أدّى إلى عجز تراكمي في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام بقيمة 357.6 مليون دولار، أي إن الفوائض الشهرية المحققة في ميزان المدفوعات في ظل الهندسة المالية السابقة لم تصمد، على الرغم من انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة وإقرار قانون جديد للانتخابات وسوى ذلك من عوامل مؤثرة، بل على العكس، تقول المصادر المصرفية إن العجز في ميزان المدفوعات كان مرجحاً للارتفاع في ضوء استحقاق بعض الودائع التي اجتذبتها المصارف في العام الماضي لتوظيفها في الهندسة المالية.
لمواجهة هذا العجز، لجأ مصرف لبنان إلى إغراء المصارف مجدداً كي تودع لديه مبالغ بالليرة أو بالدولار في مقابل حصولها على فوائد أعلى من الفوائد السوقية الرائجة، ما يشجّع المصارف على جذب أموال مودعة لديها في الخارج، سواء من مودعين جدد أو مما بقي من أموالها الموظفة لدى مصارف المراسلة. وقد انعكست هذه التدفقات تحسناً في رصيد ميزان المدفوعات في شهر حزيران (لم تصدر الإحصاءات بعد).
تفيد المعلومات بأن سلامة عرض نتائج هذه الهندسات الجديدة على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، في اللقاء الأخير الذي جمعهما، وأبلغه أنه تمكّن من قلب عجز ميزان المدفوعات من عجز إلى فائض بقيمة مليار دولار.
السيطرة على الاقتصاد
تشرح مصادر مصرفية أن العمود الفقري للسياسة النقدية المعتمدة منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي يتوسل التحكّم بالسوق النقدية، فكلما كان لدى مصرف لبنان دولارات أكثر، كانت قدرته أكبر على ضمان ثبات سعر صرف الليرة، وبالتالي جذب المزيد من الودائع لتمويل عجز الميزان التجاري والإنفاق العام وتسديد الفوائد على المديونية. وهذه السياسة محكومة بآليات تتطلب عمليات مالية متواصله للسيطرة على السيولة وتوجيهها وضبط معدلات التضخّم وأسعار الفوائد، وهذه الأخيرة لا تتأثّر بالمخاطر المحلية فقط، بل تتأثّر أيضاً بعوامل خارجية آخرها يكمن في ارتفاع سعر الفائدة العالمية على الدولار، وبالتالي إن تدخّل مصرف لبنان للحفاظ على استقرار سعر الصرف يراعي استمرار التدفقات وتحركات أسعار الفائدة العالمية.
ماذا يحصل في ظل هذه السياسة؟ نظراً إلى أولوية الأهداف النقدية، بات مصرف لبنان هو الجهة التي تحل محل الحكومة ومجلس النواب في صياغة السياسة العامّة. إذ إن إلغاء الوظيفة الرئيسة للمصارف بتمويل النشاط الاقتصادي، نظراً إلى الربحية العالية من جراء التوظيف في الأدوات النقدية والدين العام، دفع مصرف لبنان إلى توجيه التمويل نحو الأنشطة التي تخدم النموذج النقدي المعتمد، وفي مقدّمها العقارات التي تجتذب تدفقات نقدية مهمّة إلى جانب الودائع، فقد أعلن سلامة، أمس أيضاً، أن مصرف لبنان «سيتابع دعمه للقطاعات الاقتصادية عبر المصارف»، وأشار إلى أنه خصص، خلال السنوات الخمس الماضية، رزمات تحفيزية استفادت منها القطاعات المنتجة بـ35% وقطاع السكن بـ65%، و«بلغت قيمة هذه التحفيزات 5 مليارات دولار أميركي، وإذا أضفنا إليها إعفاء المصارف من الاحتياطي الإلزامي ودعم القروض من الدولة اللبنانية، يرتفع مجموع الأموال التي تمّ ضخها لدعم النشاط الاقتصادي في لبنان إلى 14 مليار دولار». يزعم مصرف لبنان أن ذلك أسهم بنحو نصف النمو الاقتصادي المحقق في الفترة المذكورة من خلال تأثيرها في الطلب الداخلي، ما يعني أن مصرف لبنان هو الذي بات يحدد نوع النمو ومن ينتفع منه، في حين أن هذه مسؤولية الحكومة وواجبها، ويجب أن تخضع لحاجات المجتمع لا الأدوات النقدية.