كتبت صحيفة “الأخبار ” تقول : بالاستناد إلى “الحفاظ على المصلحة العامة في الظروف الاستثنائية الراهنة التي تمرّ بها البلاد”، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميماً ظاهره دعم المؤسسات المتعثّرة ورواتب العمّال، وباطنه يخفي فرصة لكبار المقترضين وشركائهم السياسيين بأن يستبدلوا قروضهم بقروض جديدة بفائدة صفر لمدّة خمس سنوات يمكن تسديدها بالليرة أو بالدولار بسعر اليوم
أصدر أمس مصرف لبنان التعميم الرقم 547 الذي يتيح للمصارف الاقتراض منه بالدولار حصراً وبفائدة صفر مقابل استعمال المبالغ المقترضة من أجل تأجيل قروض الزبائن وتمكين المؤسسات من تسديد الأكلاف التشغيلية ودفع أجور العاملين فيها بقروض فائدتها صفر لمدّة خمس سنوات مهما كان سقف القرض، وبسعر صرف ثابت. هذا التعميم يتيح لكبار المقترضين الذين يحصلون على تسهيلات تجارية غير محدّدة بأقساط، استبدال قروضهم الخاضعة للفوائد بقروض من دون فائدة يمكن تسديدها بعد خمس سنوات بسعر اليوم. هذا الأمر ليس سوى جزء من “القطبة المخفية” التي نصّ عليها التعميم، إذ لا مصلحة للمصارف في الاقتراض من مصرف لبنان بالدولار وزيادة الالتزامات عليها بهذه العملة إلا إذا كان الأمر يتعلق بدولارات وهمية غير موجودة أصلاً.
شروط واضحة للاستفادة
بحسب نصّ التعميم 547، فإن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبالاستناد إلى الظروف الاستثنائية، وصلاحياته المستمدة من استمرارية المرفق العام (في ظل غياب نواب الحاكم الذين يؤلّفون نصاب المجلس المركزي) يسمح للمصارف بالاقتراض منه بالدولار وبفائدة صفر لمدّة خمس سنوات بما يوازي قيمة القروض الاستثنائية التي تمنحها لزبائنها بالليرة أو بالدولار وفق الأهداف والشروط الآتية:
- تسديد أقساط القروض الممنوحة سابقاً والتي تستحق عن أشهر آذار ونيسان وأيار 2020.
- دفع رواتب الموظفين والعاملين لدى العملاء المعنيين أو تغطية حاجات إنتاجية أو تشغيلية خلال الفترة المشار إليها، وذلك في حال كل العميل مؤسسة أو شركة.
- أن تُمنح هذه القروض بغضّ النظر عن السقوف المحدّدة لكل عميل.
- أن لا يحتسب على هذه القروض أي عمولة أو فائدة (بفائدة صفر في المئة).
- أن يتم تسديد هذه القروض خلال مدّة خمس سنوات اعتباراً من 1/6/2020.
- أن تقوم المصارف والمؤسسات المالية المعنيّة بتسديد الرواتب مباشرة للموظفين وللعاملين لدى العملاء المعنيين وفقاً لجداول الرواتب التي يتم تزويدها بها من قبل العملاء.
- بغية احتساب قيمة التسليفات التي يمنحها مصرف لبنان، يتم اعتماد سعر وسطي لعملة القرض الممنوح للعميل بالليرة اللبنانية كما هو بتاريخ موافقة مصرف لبنان على طلب المصرف المعني أو المؤسسة المالية المعنية.
ظاهر الأهداف غير باطنها
هناك هدف ظاهري واضح يتعلق بدعم المؤسسات ورواتب الأجراء في الأشهر الثلاثة التي يتوقع أن تقفل فيها هذه المؤسسات بسبب جائحة “كورونا” واضحة، لكن التعميم انطوى على أهداف أخرى مفتاحها الأساسي ثلاث عبارات: إقراض المصارف بالدولار، فتح السقوف المحدّدة لكل عميل، تحديد سعر صرف الليرة مقابل قروض الدولار للعملاء.
للوهلة الأولى يمكن القول إن هناك الكثير من المصارف ستجد في التعميم فرصة لتخفيف القروض المتعثّرة لدى زبائنها. ستقوم بإعادة جدولة ديونهم بفائدة صفر في المئة، سواء كانت الديون بالليرة أم بالدولار، وسواء كان التعثّر مرتبطاً بمكافحة انتشار فيروس كورونا وما سببته من إقفال للمؤسسات ووقف للأعمال، أم كان مرتبطاً بالركود الاقتصادي الناتج عن الأزمة المالية والنقدية وشروع لبنان في عملية إعادة هيكلة ديونه بعد التوقف عن دفعها، وخسارة الأجراء وظائفهم وعدم قدرتهم على التسديد… لكن تفاصيل العبارات الواردة في التعميم، أي “بغض النظر عن السقوف المحدّدة لكل عميل” (المصارف أوقفت بعد 17 تشرين الأول 2019 كل السقوف التي كانت ممنوحة للزبائن لأنه لم يعد لديها القدرة على الإقراض، ومن المستغرب أن مصرف لبنان سيجبرها على فتح السقوف بفائدة صفر في المئة)، تشير إلى القروض التجارية الممنوحة بتسهيلات والتي لا ترتبط عملياً بأي أقساط شهرية أو فصلية. هذا يعني أنه يمكن استبدال القرض بكامله مهما بلغت قيمته، وهذا الاستبدال سيكون بفائدة صفر في المئة على خمس سنوات، ويمكن تسديدها بالليرة، أو بالدولار، بالسعر الرسمي اليوم. من هو المستفيد؟ هل هم الأجراء؟ هل هذا الإجراء محصور بمسألة “كورونا”؟ هل اطلع رئيس الحكومة جسان دياب على هذا التعميم؟ هل اطلع وزير المال غازي وزني عليه؟ هل لا يزال مسموحاً لسلامة باتخاذ القرارات النقدية والمالية وحده في ظل أزمة مالية فوقها تداعيات ”كورونا” المعطّلة للنشاط الاقتصادي؟
على أي حال، إن تقديم القروض بالدولار حصراً هو أمر لافت جداً ومستغرب جداً. فلماذا سيكون على المصارف القبول حصراً بالاقتراض بالدولار بصفر في المئة؟ لماذا لم يعطِ مصرف لبنان القروض للمصارف بالليرة، ما دام القسم الأكبر منها سيمنح للزبائن بالليرة، ولا سيما ما يتعلق بالرواتب والأجور؟ “لا شكّ في أن كل الأمر يتم من خلال الدولار المحلّي” يقول أحد المصرفيين. كلامه يعني أن مصرف لبنان لن يمدّ يده على احتياطياته بالعملات الأجنبية القابلة للاستعمال والموضوعة لدى مصارف أجنبية في الخارج أو موظّفة في سندات أجنبية، بل سيخلق دولارات وهمية يعطيها للمصارف لتقوم هي بإقراضها أو إقراض معظمها للزبائن بالليرة اللبنانية. بهذه الحالة سيتمكن مصرف لبنان من تسوية ميزانيته على الشكل الآتي: شطب التزامات بالدولار يحملها في ميزانيته لحساب المصارف مقابل شطب موجودات بالدولار أقرضها للمصارف. من سيدفع ثمن هذه العملية؟ بالطبع سيكون الناتج من هذه العملية ضخ ّالكثير من الأموال بالليرة في السوق في أوقات الركود، ما يعني مزيداً من الركود التضخّمي، ومزيداً من تآكل سعر الليرة مقابل الدولار.
عملياً، ستجد المصارف في هذا التعميم فرصة لإعادة تقديم ولائها السياسي لزعماء ابتعدوا عنها، وستتيح لأزلامهم الذين حصلوا على تسهيلات كثيرة، سواء عقارية أم سياحية أم غيرها، الاستفادة من عملية استبدال القروض، وستتيح أيضاً استفادة ثلّة صغيرة من القروض المدعومة لمدّة ثلاثة أشهر فقط. على حساب من ستكون هذه العملية؟ ألم يكن الأجدى بسلامة أن يصدر تعميماً يحدّد سقف القروض المستفيدة من هذا الدعم؟ أليس هذا الدعم مموّلاً بالمال العام؟ ليس مهماً أن يستفيد كبار المقترضين من القروض، بل المهم أن يستفيد صغار المقترضين، أي الذين يشكّلون العدّد الأكبر وقروضهم ضمن شريحة أصغر. تركّز القروض مشابه لتركّز الودائع، أي إن هناك قلّة من المقترضين تستحوذ على القيمة الأكبر من القروض، والتي سيتاح لها اليوم الاستفادة الأكبر من الدعم.
من جهتها، ستقوم المصارف بتخفيف ثقل الديون المتعثّرة من ميزانياتها، إذ إن التعميم سيتيح لها إعادة تصنيف القروض المتعثّرة وتمويلها لتصبح غير متعثّرة، ما يخفّف من معدلات القروض المتعثّرة المقدرة بنحو 20% من مجمل محفظة القروض الإجمالية، أي ما يوازي 8.5 مليارات دولار كان متوقعاً أن تكون هذه النسبة. هذا الأمر سيخفف عن كاهل ميزانيات المصارف أن تأخذ مؤونات مقابل الخسائر المتوقعة من هذه القروض. قد تعطيها هذه الخطوة فرصة لمعالجة القروض المتعثّرة لغاية آخر السنة.