المشهد اللبناني الداخلي الذي بدأ مع مطلع الأسبوع الحالي صاخبا وحارا مع الاستعدادات والمواقف المتداخلة التي استبقت انعقاد ما وصف باللقاء الوطني المالي في قصر بعبدا في منتصف الأسبوع تبددت أولوياته واتجاهاته مع عطلة نهاية الأسبوع بحيث قفزت الى الواجهة مسألة ملفات تتصل عضويا ببدء العد العكسي لانطلاق المفاوضات بين لبنان وصندوق النقد الدولي الأسبوع المقبل كما بالكثير من البنود المثيرة للجدل والانقسامات في الخطة المالية والاقتصادية للحكومة التي ستفاوض الحكومة صندوق النقد على أساسها. ذلك ان زحمة العناوين البراقة للملفات المتصلة بالفساد التي فتحت وتفتح تباعا وباتت في مراحل متقدمة امام القضاء، تشكل واقعيا تطورا إيجابيا لا يمكن انكاره حتى تحت وطأة التجاذبات والتوظيفات السياسية. ولكن المحاذير التي باتت تواكب الانشداد الى فتح بعض الملفات، تتمثل واقعيا في ان تكون الحكومة نفسها، ولا سيما منها بعض مكوناتها، هي من يتفوق على سائر القوى السياسية في توظيف “يقظة الملفات” التي ان لم تثبت السلطة الرسمية جدية كاملة من خلال النأي بنفسها عن التدخل في القضاء وتركه يضطلع بدوره باستقلالية وتجرد كاملين في انجاز عمله، فإن الخيبة وتعميق ازمة الثقة وفقدانها بالكامل بكل ما تدعيه الحكومة لن يكونا وحدهما الثمن والكلفة بل ثمة ما هو أخطر بكثير هذه المرة. يحتم هذا الاستنتاج التحذيري الذي يتردد على السنة المراقبين المستقلين مثلما يبدو لسان حال البعثات الديبلوماسية التي ترصد بدقة مجريات الاستعدادات الحكومية لانطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ان الأيام الأخيرة شهدت مزيجا غير متناسق بين العناوين والمجريات القضائية التي تتصل بملفات مهمة للغاية مثل ملاحقة ملف الفيول المغشوش، وكذلك ملف ملاحقة الصرافين المتلاعبين بسعر صرف الدولار الأميركي، فيما تكشفت من جديد فصول قديمة -جديدة شكلت ولا تزال تشكل واقعيا احد ابرز الأسباب للانهيار المالي والاهتزاز الاقتصادي في لبنان وهي فصول التهريب المقنع والسافر والمكشوف سواء بسواء عبر الحدود اللبنانية السورية. ولم يأت انكشاف هذا الملف الدائم عن عبث متزامنا مع فتح ملفات فساد أخرى امام القضاء اذ ان الضرب المسيس باطراد على توظيف ملفات من جهة وحجب الأنظار بل وتجاهل ملف التهريب الحدودي فيما تثار مسألة صرف المليارات النادرة المتبقية في خزينة مصرف لبنان والاستنزاف اللاحق بها جراء تمويل المواد الاستراتيجية الأساسية، كل هذا لا يشكل شهادة حسن سلوك اوشهادة صدقية حقيقية للحكومة حتى لو تلطت وراء شماعة دعائية في اتجاهها نحو التفاوض مع صندوق النقد الدولي. ولعلها مفارقة لافتة ان يلفت بعض المعنيين الحكومة الى ان الخطأ الأساسي الذي ترتكبه راهنا هو في تجاهل كل ما اثير عن التداعيات الخطيرة لتهريب مواد أساسية واستراتيجية يمول استيرادها مصرف لبنان بنسبة 85 في المئة بالدولار لتتسلل الى سوريا تهريبا عبر كارتيلات اين منها كارتيلات استيراد الفيول المغشوش او مافيات التلاعب والتحكم بأسعار السلع الأخرى والإفادة من أسوأ ظروف يعيشها اللبنانيون منذ الحرب.
حال الحدود
في أي حال فان ملف تهريب مواد اساسية عبر الحدود الى سوريا سلط الأضواء أولا على خطورة انكشاف استمرار هذه الحدود عرضة للتهريب فيما يفترض انها مقفلة اسوة بكل الحدود البرية والجوية بقرار فرض الإجراءات المتصلة بحال التعبئة، كما اضاء بقوة على احد الجوانب الأساسية التي لم يعد في امكان الحكومة المضي في تجاهل إعطائها الأولوية وهي مكافحة التهريب وضبط المعابر الحدودية مع سوريا ضبطا حازما ومواجهة الامر الواقع الذي زج بلبنان في اخطر مواجهاته الخارجية مع الدول المانحة وغير المانحة بسبب هذه المعضلة. وأفادت مصادر متابعة لهذا الملف “النهار” ان تكشف تقارير وشكاوى عن فصول التهريب لكميات من الطحين والمازوت الى سوريا سيثير مزيدا من متابعات لهيئات نقابية واقتصادية ومالية تنسق مع الكتل والنواب الذين سبق لهم ان أثاروا الملف مرات عدة، وكان آخرها في جلستي لجنة المال والموازنة الأخيرتين اللتين خصصتا لمناقشة الخطة الحكومية وتاليا فان التعديلات الجوهرية المتوقعة على هذه الخطة ستطاول أيضا ملف التهريب عبر الحدود كأولوية. وكان رئيس حزب “القوات اللبنانية “سمير جعجع طالب امس باعتبار التقرير الإخباري التلفزيوني الذي وثق عمليات تهريب للطحين بمثابة اخبار الى المراجع القضائية. كما ان تهريب مادة المازوت الى سوريا اثير من خلال ما اعلنه عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات جورج البراكس الذي تحدث عن “تهريب ملايين الليترات من المازوت يوميا الى سوريا في حين لم نعد نجد كميات لشرائها من السوق المحلية” وقال ان قيمة التهريب تفوق 400 مليون دولار سنويا وربما يشكل هذا الرقم نصف الحقيقة .
تحقيقات الفيول
وسط هذه الأجواء تتفاعل قضية التحقيقات والتوقيفات الجارية في ملف الفيول المغشوش والذي أوقفت فيه المديرة العامة لوزارة النفط أورو فغالي ورئيسة المختبرات المركزية في المنشآت النفطية خديجة نور الدين وطلبت القاضية غادة عون امس من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان عبر مدعي عام التمييز رفع السرية المصرفية والحركة المصرفية عن الشركات المستوردة للفيول وعدد من كبار المتورطين في قضية استيراد الفيول المغشوش . وذهب الوزير السابق للطاقة سيزار أبو خليل امس الى طلب محاسبة قوى سياسية تبعة ما وصفه بعرقلة اتجاهات وزراء “التيار الوطني الحر” المتعاقبين على الوزارة في ما فسر محاولات جديدة لغسل ايدي هؤلاء الوزراء من مسؤولياتهم المباشرة عن هذا الملف. كما ان ثمة من توقع ان يتناول رئيس تيار المردة سليمان فرنجية في مؤتمر صحافي يرجح ان يعقده اليوم جانبا من هذا الملف علما ان فرنجية سيتناول القضايا السياسية والمالية وسيشرح موقفه المقاطع للقاء قصر بعبدا الأخير .
أخيرا وفيما كانت الامال تتسع على انحسار منحنى كورونا في لبنان، عادت المخاوف تتصاعد في ظل ارتفاعات متعاقبة في الأيام الأخيرة في عدد الإصابات في ظل المرحلة الثانية من عملية اجلاء مغتربين ولبنانيين عائدين من الخارج . وارتفع عدد الإصابات امس الى 796 بزيادة 12 إصابة فيما سجلت حالة وفاة رفعت مجموع المتوفين الى 26، وقدرت حصيلة الإصابات الوافدة في نهاية المرحلة الثانية بـ60 إصابة . وستبدأ المرحلة الثالثة في 14 أيار وتنتهي في 24 منه وتشمل إعادة نحو 12 الف لبناني .