كتب الاستاذ حمزة عليان في صفحة رأي في صحيفة “النهار”:
لا تخطئ العين هذه الأيام بمشهد صالات التحرير في دور الصحف العربية خالية من المحررين باستثناء عدد محدود لزوم “التوضيب الفني” واستقبال المواد المرسلة من الخارج عبر البريد الإلكتروني.
فقد أخلى فيروس كورونا قاعات التحرير واجتماعاته وأجبر العاملين منهم على “التسمر” بغرف منازلهم لمزاولة أعمالهم اليومية ومن طريق التراسل الإلكتروني، هذا المشهد أعاد إحياء مقولة “موت الصحافة الورقية” وتسيد “صحافة الأون لاين”!
يبدو وكما تواترت “فتاوى” منظمة الصحة العالمية بأن العالم في طريقه لرفع الراية البيضاء على خلفية القول إن فيروس كورونا المستجد والمسبب لمرض “كوفيد – 19” قد يصبح متوطناً، وقد لا يختفي أبداً وبالتالي يمكن “التعايش” معه كما حصل مع “الإيدز” و “الملاريا” من قبل وهما من فئة الأمراض المتوطنة.
السؤال الذي يطرحه البعض ومن وحي تلك الصورة طالما أن هذا الوباء سيبقى ملازماً للجنس البشري ولن ينتهي، إذاً لا بأس من “التعايش معه”، فـ “الترند” العالمي ترجم على صعيد دول كالسويد وسلوفينيا وتايوان ومدن ألمانية أخرى، بعد أن حقق نتائج مرضية لأنه سيكون من الصعب تعطيل حياة مجتمعات ودول بأكملها ووضعها تحت الإغلاق الكامل بحجة أن “العزل” هو السلاح الوحيد المتاح!
الطبعة الجديدة قد تنسحب على مواقع الصحافة التي أخذت تستجيب لهذا “الترند” ومن الطرفين، المنتج صاحب المطبوعة والقارئ وهو المستهلك بحيث أصبح التعايش مع “الأونلاين” قائماً، وإن احتاجت المسألة إلى ترتيب دورة الإنتاج كي تتمكن الصحف المتعسرة من تغطية التكاليف ودفع الرواتب للعاملين فيها.
وباء “كورونا” دفع بالعديد من البلدان العربية لاتخاذ قرارات مؤلمة، أجبرت الصحف على الامتثال وبالتوقف عن الصدور ورقياً.
الآن، نحن في مرحلة مختلفة. مرحلة خلقت جيلاً من القراء على وقع “كورونا”، كذلك جيلاً من الصحافيين الممارسين لمهنتهم، أصبح القارئ لا هم له سوى تساقط أخبار هذا “العدو الخفي”. بالمقابل، تجتهد المواقع الإلكترونية بتطوير خدماتها بحيث تقدم وجبة غنية ومتنوعة تشبع فضوله وتضعه على مسافة قريبة جداً مما يحدث على الساحة.
المعادلة لم تحسم بعد، فالصحافة الإلكترونية قائمة أصلاً لكنها اليوم بصيغة جديدة بفعل الاحتجاب الورقي ولظروف قسرية، والتعايش قد يكون موقتاً، لأن المسألة لا ترتبط فقط بأسلوب التخاطب أو بالمضمون بل هناك فئات عمرية ترتاح وتستمتع بقراءة الصحيفة الورقية وأنا واحد من تلك الفئة.
فنحن جيل تربى وعاش ونشأ على رائحة الحبر والورق وما زلنا من رواده وإن كانت أدوات التواصل مع الآيفون وآي باد وخلافه لا تفارق الواحد منا في عمله وقراءاته وأسفاره.
لا شك في أن الصحافة الورقية بشكل عام دفعت الثمن وما زالت تدفعه، نتيجة توقف الطباعة وغياب مورد الإعلان والتوزيع سواء بتسريح أعداد كبيرة من أبناء المهنة أو بتقليص الرواتب والحبل على الجرار!
من غير المقبول أن تطلق رصاصة الرحمة ونقول ببساطة إن الصحافة إنتهت! فنكبة “كورونا” غيرت الأداة ولم تقضِ على الصحافة كوسيلة إعلامية، الوباء حجب الطبعة الورقية ولم يقضِ على الوظيفة المهنية.
صحيح أن هناك مهناً ستختفي من حياتنا اعتدناها مطولاً خلال العشر سنوات القادمة بفعل تطور التكنولوجيا، لكن تبقى الحاجة للعنصر البشري قائمة إنما بنوعية وبحجم مختلفين؟
قد يكون حال الصحافة الورقية كحال العملات الورقية والتي يمكن أن تكون وسيلة لنقل الفيروس بعدما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الفيروس يمكنه البقاء حياً لساعات على الأسطح وبما فيها الورق! وهذا الرأي لم يكن قاطعاً لكنه كان بمثابة تحذير جاء على سبيل الوقاية!
كورونا لم “يكتب السطر الأخير في تاريخ الصحافة الورقية، لكنه “حجره” كما البشر والمصابين، وإن كانت هناك أعداد لا بأس بها اتجهت إلى المنصات الإلكترونية بل الأمر أكبر من ذلك فالإحصاءات تقول إن إجمالي النسخ من جميع الصحف الورقية بالسعودية على سبيل المثال وفي دولة عدد سكانها أكثر من 20 مليون نسمة لم تتعدَّ الـ 30 الف نسخة، وفي فرنسا تراجعت مبيعات الصحف عندما دخلت مرحلة العزل بنسبة 24%.
لا تزال الصحافة الورقية موثوقاً بها من شرائح واسعة بالمجتمع، وربما أتت هذه الأزمة لتضع القائمين عليها أمام التحدي وتثبت أنها في خدمة الناس ورفدهم بالتحليل والرواية والتحقيق وبمعلومات جديرة بالثقة.
الكل يواجه “العدو نفسه” وان كان التلفزيون وجد فرصة ثمينة لاستعادة جمهور واسع كان قد هجره! لذلك فالأجدر أن يكون التوجه للقارئ وليس لأي شيء آخر، وهي فترة لالتقاط الأنفاس وتجميع القوى الذاتية للعودة من جديد وبقوالب مختلفة تتماشى مع عصر وصحافة ما بعد كورونا.
ما ستنتهي عليه جائحة العصر قد يولد نموذجاً جديداً من حيث المحتوى ونمطاً مختلفاً عما ألفناه أو تسقط تلك التنبؤات أمام صحافة ورقية لديها “مناعة مكتسبة” تؤهلها لأن تخرج من هذه المعركة سليمة وبثوب جديد تطور فيه أدواتها ومضمونها وتجعله محل ثقة لدى جمهور القراء، لا سيما أن تطور تاريخ وسائل الإعلام يثبت أن كل وسيلة جديدة أتت حملت وعاءً مختلفاً لكنه لم يلغ ما قبله.
المصدر: صحيفة “النهار” – حمزة عليان