صدق العلم عندما وضع معادلات حسابية لضبط المالية العامة. صدق العلم عندما قال ان لا استمرارية عندما تكون النفقات أعلى من الواردات وصدق العلم عندما قال ان الميزان الأوّلي يجب أن يُسجّل فائضًا أعلى من خدمة الدين العام! ما جرى في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا مُخالف لكل القوانين والمنطق من ناحية أنه لا توجد سنة واحدة تخطّت فيها الإيرادات قيمة الإنفاق العام. وتُظهر الأرقام الموجودة على الموقع الإلكتروني لوزارة المال أنه ومنذ العام 2012 وحتى العام 2020، بلغ مستوى العجز بأقلّ تقديرات الـ 62 تريليون ليرة لبنانية (عجز العام 2020 تمّ تقديره)!
وإذا كانت وتيرة الإنفاق استمرّت على نفس معدّلاتها في السنوات السابقة، إلا أن العجز في العام 2020 أخذ بالإرتفاع مع تسجيله 4000 مليار ليرة لبنانية (4 تريليون ليرة) في الأشهر الخمسة الأولى مع خفض النشاط الإقتصادي الذي فرضه وباء كورونا وبالتالي إنخفاض إيرادات الخزينة. والمُشكلة التي يطرحها إرتفاع العجز في الموازنة هي مُشكلة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي الذي من المُتوقّع أن ينخفض بنسبة 13.8% (النمو الحقيقي) بحسب خطّة الحكومة الإنقاذية. وبالتالي فإن العجز الذي سيتمّ تسجيله هذا العام (والذي سيتحوّل إلى دين عام تجاه مصرف لبنان) وإنخفاض الناتج المحلّي الإجمالي سيجعل من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ مستويات كبيرة. أللهم إلا إذا قامت الحكومة بعدم الإعتراف بالدين تجاه مصرف لبنان الذي سيقوم في هذه الحالة بطبع العملة لتمويل عجز الدولة مما سينعكس حكمًا بانخفاض بقيمة الليرة اللبنانية، وسيكون من شبه المُستحيل بعدها السيطرة على سعر صرف الليرة، أي تضخّم مُفرط أو ما يُعرف بالـ hyperinflation.
التضخمّ المفرط هو تضخم يفوق الـ 50% شهريًا حيث تُخبرنا التجارب العالمية أن بلدان عديدة لم تستطع الخروج من الحلقة المُفرغة للتضخّم المفرط. فأي مُحاولة للسيطرة على التضخمّ عبر رفع الفائدة سيجعل هذا التضخمّ يتحوّل إلى تضخمّ من نوع أخر يُسمّى «سحب الطلب» كما حصل في زيمبابوي بين العامين 2007 و2008 حيث وصل التضخمّ اليومي إلى 98% أي أن الأسعار تضاعفت في ظرف 24 ساعة. الجدير ذكره أن الحكومة الزيمبابوية بدأت سياسة إنفاق مُفرط مما أدّى إلى زيادة الدين العام ولم تعد الضرائب كافية لسدّ العجز مما دفع إلى مضاربات كبيرة على العملة أنهارت على أثرها وأرتفعت أسعار الإستيراد في إقتصاد يستورد معظم حاجاته. وزادت الطين بُلّة الخطة الإصلاحية الحكومية في ما يخصّ القطاع الزراعي مع فشل تطبيقها مما أدخل البلد في حلقة مُفرغة أدّت إلى رفع الأسعار أكثر وأكثر. وكانت الخطوة الكارثية التالية للحكومة عبر تنفيذ سياسة نقدية متشدّدة تسببت في خلل في العرض والطلب على السلع في البلاد، مما أدى إلى تضخم «سحب الطلب». ولا يجب نسيان مثل فنزويلا التي وصل فيها التضخم إلى أكثر من 53 ألف بالمئة في الفترة المُمتدّة من العام 2016 وحتى يومنا هذا. والمُلفت في الأمر أنه في كل هذه الدول، تمّ تفقير الشعوب بشكلٍ مُلفت مع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين ورهن الموارد الوطنية لبعض النافذين والقوى الخارجية.
لبنان على طريق التضخّم المفرط
المعُطيات النقدية تُشير إلى أن لبنان يسير على خطى هذه الدول مع خروج 1.5 إلى 2 تريليون ليرة لبنانية من مصرف لبنان شهريًا لسدّ عجز الدولة ولكن أيضًا لتلبية حاجات المواطنين والتجّار الذين يُسارعون إلى تبديلها بدولارات بهدف الإستيراد أو الحفاظ على قيمة مداخيلهم. وهذا الأمر ما هو إلا حلقة مُفرغة يُساهم الجميع فيها. فالحكومة التي تُنفق على نفس الوتيرة للحكومات السابقة ومع انخفاض المداخيل تُساهم في طبع العملة، وهذا الأمر سيُفشّل خطّتها بحكم أنه من شبه المُستحيل لها أن تلتزم بالأرقام الواردة في خطّتها وهذا أمر محسوم! أيضًا يُساهم مصرف لبنان في هذا الأمر من خلال قبوله تمويل عجز بهذا الحجم مع ميول الحكومة إلى التنصّل من كل الديون للمصرف المركزي، وبالتالي يتوجّب على حاكم المركزي مصارحة الرأي العام بحجم الدعم للحكومة! ولا تقلّ مسؤولية التجّار والمواطنين عن مسؤولية الحكومة ومصرف لبنان حيث يعمدون إلى سحب الليرات من المصارف وتحويلها إلى دولارات مما يرفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وبالتالي ينعكس هذا الإرتفاع إرتفاعًا في الأسعار في الأسواق. هل يُعقل أن كيلو زيت محرّك السيارة أصبح بـ 50 ألف ليرة!
تعميم مصرف لبنان
الفارق في كل هذا الإطار هو التعميم الأخير الصادر عن مصرف لبنان والذي يسمح للمصارف بتمويل التجار بالدولارات لتغطية شراء سلّة السلع المدعومة على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد. هذا التعميم يحوي على عبارة تُساهم في الخروج من لعبة ضخّ الليرة في الأسواق بشكل كبير، إذ اشترط مصرف لبنان على المستفيدين من التجار دفع الكلفة نقدًا بالليرة اللبنانية مما سيسمح للمصرف المركزي بالسيطرة الجزئية على الكتلة النقدية، وهو أمر ضروري. وإذا ما تزامن هذا الإجراء مع خفض العجز في الموازنة أي الإنفاق العام، فإنه من المُمكن الخروج من الحلقة المفرغة للتضخّم المُفرط.
على هذا الصعيد نؤكّد أن عدم خفض الإنفاق في الأشهر الباقية من العام 2020، سيؤدّى إلى وتيرة إرتفاع في الأسعار قد تُشكّل ضربة ساحقة للإقتصاد الذي سيُصاب بهذا المرض السرطاني والذي لن يستطيع لبنان الخروج منه كما تُثبته التجارب الدولية.
ممارسات بعض التجّار
في حادثة مُدانة بكل المعايير قام أحد السوبرماركتات بسحب البضائع من صالة العرض للإيحاء للزبائن بأن لا بضائع في الأسواق في حين أن المُحاسِبة التي قامت بزيارة مستودع هذا السوبرماركت قالت انه لا يوجد مكان لوضع الرجل لكثرة البضائع في المستودع! هذا الأمر الذي نضعه بين أيدي السلطات الرقابية وخصوصًا مديرية حماية المُستهلك، هو مخالفة واضحة لقانون حماية المُستهلك والمرسوم الإشتراعي 73/83، وبالتالي نُطالب المديرية بالقيام بجولات رقابة على المستودعات لأن الإحتكار يُهدّد الأمن القومي.
وإذا كان العمل الرسمي برعاية رئيس الجمهورية يهدف إلى لجم الأسعار، إلا أن التراخي في قمع المخالفات يُقوّض كل العمل الذي يتمّ حاليًا بهدف لجم سعر صرف الدولار وأسعار المواد الغذائية، وهو ما يُهدّد الأمن الإجتماعي للمواطن!
أضف إلى ذلك أن الـ replacement cost هو أيضًا مخالفة للقوانين، ومطلوب من مديرية حماية المُستهلك قمع هذه المخالفات لأن الغضب الإجتماعي والجوع لن يرحما لا التجار ولا السلطات.
الجهاد الزراعي
مما لا شكّ فيه أن لبنان مقبل على مواجهة واضحة مع الخارج بحسب التصريحات الأخيرة للمسؤولين تفرض التوجّه إلى الزراعة والصناعة لسدّ قسم من الإستهلاك الغذائي اللبناني. على هذا الصعيد، يُعتبر تصريح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عبر طرحه التوجّه نحو الزراعة هو أمرا ضروريا وكان يتوجّب البدء فيه منذ زمن طويل. هذا الأمر يفرض على الحكومة أن تضع خطّة واضحة للمواطنين لمعرفة المواد الزراعية الواجب والممكن زرعها تحت طائلة الذهاب إلى زراعة عشوائية لن تكون على مستوى التحدّيات خصوصًا من ناحية سدّ حاجة السوق اللبناني بالدرجة الأولى قبل التفكير في التصدير.
هذه الخطّة تفرض على البلديات رفع لائحة بشكل سريع إلى الحكومة لإعلامها بالأراضي الصالحة للزراعة لكي تتمكّن من تحديد مكانها ونوع الزراعات المُمكنة، والأهم آلية تلزيم الأراضي للراغبين بالاستفادة منها.
وبإعتقادنا فإن عمل جدّي على هذا الصعيد سيسمح للبنان بسدّ قسم لا يُستهان به من حاجته في حلول العام القادم خصوصًا حاجته من القمح حيث أن هناك أكثر من 25 مليون متر مربّع حول مجرى نهر الليطاني يُمكن زرع القمح فيها، وبالتالي تأمين هذه المادّة الحيوية للمواطن اللبناني.
أيضًا لا يجب نسيان تربية الأبقار حيث يستورد لبنان أبقارًا حية ولحوم أبقار بعدّة ملايين من الدولارات سنويًا. هذا الأمر يفرض أيضًا زراعة العلف لهذه الأبقار حيث يُمكن للبنان ليس فقط سدّ حاجة السوق اللبناني بل أيضًا تصدير الأبقار. الجدير ذكره أن العالم يتوجّه إلى عجز في لحوم الأبقار في حلول العام 2050.