ساذج وبسيط من يعتقد أنّ قطوع تشكيل الحكومة الجديدة سيمرّ بسلاسة بلا عُقد وتعقيدات، أو بالأحرى ساسة هذا البلد لا يزالون رغم كل ما حصل ينظرون إلى شعبهم ويتعاملون معه على أنه ساذج وبسيط… فمن بعدُ يصدّق مثلاً رئيس الجمهورية ميشال عون حين يتعهّد بسهر الليل لتحصيل حقوقهم وهي لم تُهدر في تاريخ لبنان الحديث مثلما هُدرت في عهده، ومن بعدُ يُصدّق وعده بمحاسبة المسؤولين عن الإهمال والتقصير في قضية تخزين قنبلة “نيترات الأمونيوم” وهو أصبح علناً في قفص الاتهام داخلياً وخارجياً بوصفه المسؤول الأول عن هذا الإهمال بعدما ثبت بالأدلة والوثائق أنه تلقى تقريراً من جهاز أمن الدولة يحذره فيه من خطورة وجود هذه القنبلة في المرفأ لكنه لم يتصرّف ولم يسارع لإنقاذ بيروت وأهلها.
وكذلك في الملف الحكومي، ليس ثمة عاقل واحد على وجه المعمورة يؤمن حقاً بأنّ عون يمكن أن يولي أي مصلحة مهما كبرت أو صغرت أولويةً على إعلاء مصلحة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل. لطالما كان هذا دأبه، واليوم أكثر من أي وقت مضى لن يحيد عن هذا الدأب، خصوصاً وأنّ وجود باسيل على قيد الحياة السياسية أصبح مهدداً جدياً بعدما خابت كل رهاناته الرئاسية والسياسية والشعبوية وباتت سيرته الفاشلة على كل لسان وشفة سواءً في الشارع اللبناني أو على محطات التلفزة العالمية، بدءاً من “بهدلة” مذيعة قناة “CNBC” له على هامش مشاركته في منتدى دافوس، وصولاً إلى “بهدلة” مذيعة “CNN” له قبل أيام… لكن ولأنه البقية الباقية للنهج العوني المتداعي، لن يُعدم رئيس الجمهورية وسيلة في محاولة إعادة انتشال صهره من قعر المستنقع الذي بلغه عبر اجتراح مزيد من الأفكار والطروحات لإعادة تعويمه على سطح المشهد السياسي، وجديده في هذا الإطار الترويج لطرح تشكيل حكومة “أقطاب” ليكون باسيل بطبيعة الحال أحد أبرز “قطبها المخفية”.
إذ تنقل مصادر مواكبة للملف الحكومي لـ”نداء الوطن” أنّ هذا الطرح بدأ يتردد بقوة خلال الساعات الأخيرة في الكواليس العونية حيث يتم “التسويق بشكل مركّز لفكرة حكومة الأقطاب باعتبارها تحظى بدعم ورعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون”، مشيرةً إلى أنّ “عون في واقع الأمر إنما يريد من عملية جسّ نبض الأفرقاء إزاء تأليف تشكيلة أقطاب ضمان حجز مقعد لباسيل على طاولة مجلس الوزراء بوصفه واحداً من هؤلاء الأقطاب سواءً باعتماد معيار رؤساء الأحزاب أو رؤساء الكتل النيابية”، غير أنّ المصادر تؤكد في المقابل أنّ “معظم المعنيين يؤكدون أنّ المسعى الفرنسي لم يخض في أي تفصيل من هذا النوع ولم يحدد شكل الحكومة المنوي تأليفها بل ترك للبنانيين أنفسهم تدبّر أمر التوافق على صيغتها الوطنية”، لافتةً الانتباه في هذا المجال إلى أنّ “أوساطاً ديبلوماسية رفيعة تشدد على أنّ المهلة الزمنية الممنوحة لرئيس الجمهورية لتوجيه الدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة ليست مفتوحة نظراً لكون عملية تكليف رئيس جديد للحكومة هي محكومة بضرورة التزام السقف الذي رسمه الرئيس الفرنسي أمام المسؤولين اللبنانيين وهو تاريخ عودته إلى بيروت مطلع أيلول”.
وفي الغضون، لا يزال مجلس القضاء الأعلى يتصدى لمحاولات فرض الإرادة العونية عليه في مختلف الملفات والتشكيلات وصولاً إلى مسألة تعيين محقق عدلي في جريمة تفجير المرفأ التي سجلت أمس فصلاً جديداً من فصول “الأخذ والرد” بين وزيرة العدل المستقيلة ماري كلود نجم والمجلس بعدما رفض السير باقتراحها تسمية القاضي سامر يونس محققاً عدلياً في القضية. فإثر اجتماع استمر على مدى أكثر من 7 ساعات، أوضحت مصادر مطلعة لـ”نداء الوطن” أنّ مجلس القضاء الأعلى توصل إلى قراره هذا إثر تثبته من أنّ “القاضي يونس هو مقرّب من رئيس التيار الوطني الحر وبالتالي لا يمكن للمجلس أن يوافق على تكليف أي قاضٍ لديه ميول سياسية بمهمة التحقيق العدلي في قضية وطنية حساسة كقضية تفجير العنبر رقم 12 في المرفأ”، لافتةً إلى أنّ “رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود لن يسمح بأن يشوب التحقيق في هذه القضية أي شائبة، بدليل أنّ القاضي يونس هو صديق شخصي له وعلى الرغم من ذلك آثر رفض تعيينه منعاً لاختلاط الشخصي بالعام”.
بدورها، اكتفت مصادر قضائية بالتأكيد لـ”نداء الوطن” على أنه فور طلب وزيرة العدل المستقيلة تعليلاً من مجلس القضاء لرفض تعيين يونس “سارع المجلس إلى صياغة كتاب رده على وزيرة العدل مبرراً أسباب وموجبات هذا الرفض، وبالتالي لن يكون أمام وزيرة العدل سوى اقتراح إسم بديل ليحظى بموافقة مجلس القضاء الأعلى”، موضحةً رداً على سؤال أنّ “أي وزير عدل ليس بمقدوره أن يقرر وحده تعيين القاضي المراد تكليفه بالتحقيق العدلي في أي قضية، بل إنّ قبول المجلس هو قبول حتمي ولا بد بالتالي من أن يحظى بموافقته عليه لكي يصار إلى تعيينه محققاً عدلياً”.