لم يكن غريباً ان يتميز يوم إحياء الذكرى المئوية الأولى لاعلان لبنان الكبير بطابع استثنائي خالص حتى ولو ألغي الاحتفال المركزي بالذكرى بسبب جائحة كورونا. فكيف وقد أمضى لبنان يوما ماراتونيا غير مسبوق من خلال المحطات المتعاقبة لزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في زيارته الثانية للبنان في اقل من شهر مع كل المواقف الحارة التي اطلقها في مختلف المحطات؟ وكيف وقد تزامن اليوم “المئوي” مع استنهاض قوي حاد للشارع المحتج الذي استعاد زخم التظاهرات والاعتصامات والمواجهات العنيفة في وسط بيروت؟ وكيف أيضا وأيضا وقد تزامنت الذكرى مع الاستعدادات الجارية لانطلاق استحقاق تأليف الحكومة الجديدة مع اجراء الرئيس المكلف مصطفى أديب اليوم استشارات التأليف في عين التينة مع امال متعاظمة بتأليف سريع؟
كل هذه التطورات اللاهثة تلاحقت امس مع الحضور الحيوي للرئيس الفرنسي الذي سجل رقما قياسيا برنامج تحركاته المتعاقبة منذ الصباح وحتى ساعات الليل المتقدمة بحيث امتزجت في اليوم الفرنسي الماراتوني في لبنان الدلالات الرمزية المتصلة باحياء الذكرى المئوية لاعلان لبنان الكبير مع المواقف العملية والسياسية ذات النبرة الضاغطة على نحو تصاعدي للرئيس ماكرون. ويمكن القول استنادا الى الإيحاءات المباشرة للرعاية الفرنسية الضاغطة بقوة غير مسبوقة نحو متابعة دؤوبة للمسارات اللبنانية كما استنادا الى المعلومات المتوافرة عن الأجواء التي تسبق الاستشارات النيابية التي سيجريها اليوم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة مصطفى أديب ان ثمة اتجاها قويا للغاية يحظى مبدئيا بتغطية سياسية ونيابية واسعة لاستعجال تأليف الحكومة وإعلانها في فترة قصيرة جدا تختلف تماما عن فترات التأليف السابقة ولا تتجاوز الأسابيع الثلاثة وربما اقل بعدما اعلن الرئيس الفرنسي عن التزام الافرقاء مهلة أسبوعين لتشكيل حكومة اختصاصيين ومهنيين. ويقترن هذا الاتجاه أيضا، وهنا الأهم، بتنامي مناخ يقال انه سيتبلور بوضوح في الأيام القليلة المقبلة لتكريس مبدأ تشكيل حكومة مصغرة لا يتجاوز عدد أعضائها الـ12 او الـ14 وان يكون الوزراء من الاختصاصيين غير الحزبيين او المرتبطين بقوى حزبية وسياسية. اما السمة الأخرى التي يتردد ان العمل جار على تظهيرها فهي اسقاط تقاسم الحقائب الوزارية الأساسية كما جرى اتباعه منذ مدة طويلة بحيث لا تبقى أي حقيبة مع أي فريق سياسي بعينه خصوصا اذا جرى التسليم بحكومة اختصاصيين لا وجود لممثلين حزبيين بينهم. ولا تنكر جهات عاملة على تعبيد طريق الرئيس المكلف وتسهيلها باختصار المماحكات التقليدية بان الدفع الكبير والاستثنائي الذي يتولاه الرئيس الفرنسي كقاطرة قوية ودافعاً نحو حل داخلي ترعاه فرنسا بقوة سيكون رافعة حقيقية لاستعجال تأليف الحكومة، والا فان أي عرقلة او تعطيل او تعثر سيثير تساؤلات وشكوكا مقلقة عن أدوار خارجية ربما لا يرضيها الدفع التصاعدي للدور الفرنسي في مساعدة لبنان على تجاوز ازماته وتتهيأ لارسال المؤشرات السلبية حيال عدم ترك هذا الدور يحقق أهدافه في دعم لبنان ومساعدته.
والواقع ان تحرك ماكرون امس راكم مزيدا من الحقائق المتصلة بالدور الذي يتولاه شخصيا ومباشرة في التدقيق في كل ما يتعلق بوجوه الدعم الذي تقدمه فرنسا للبنان سواء على المستوى الإنساني الإغاثي بعد انفجار مرفأ بيروت او على صعيد الدفع نحو الإصلاحات الكفيلة باستقطاب الدعم الدولي للبنان في ازمته المالية والاقتصادية او أخيرا في الجانب السياسي الواسع المتعلق باستعجال الحكومة الجديدة حاليا ومن ثم تكريس اطار الحل الذي يمتد حتى آفاق التغيير السياسي الواسع من خلال انتخابات نيابية مبكرة وكذلك احياء النقاش حول عقد سياسي جديد. هذه الوقائع والاقتراحات بمجملها كانت محور اللقاء السياسي الموسع الذي عقده ماكرون مساء امس في قصر الصنوبر مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وأبدى امامه تأييده بلا تحفظ لطرح الحياد خصوصا في مناسبة مئوية لبنان الكبير. ثم طرحت بين ماكرون وممثلي الأحزاب والقوى السياسية الأساسية في لقاءات ثنائية مع كل من الزعماء والأقطاب والمشاركين في اللقاء الذين قدم قسم منهم مذكرات الى ماكرون حول رؤيتهم الى الأوضاع والحلول وسبقت هذه اللقاءات اجتماع ماكرون مع المشاركين جميعا الى طاولة مستديرة. وكان ماكرون استبق هذه اللقاءات بإعلان مواقف متقدمة جديدة من الوضع اللبناني اقترنت بإعلان قصر الاليزيه ان ماكرون سيقوم بزيارة ثالثة للبنان في كانون الأول المقبل. واتخذ هذا التطور دلالات بارزة في ظل اعلان ماكرون نفسه في احاديث ادلى بها من بيروت الى وسائل إعلام فرنسية بانه حدد مهلة ثلاثة اشهر “للتغيير الحقيقي في لبنان واذا لم يحدث تغيير فقد يترتب على ذلك فرض إجراءات عقابية يمكن ان تراوح بين تعليق مساعدات انقاذ مالي وعقوبات على الطبقة الحاكمة “. وقال في مكان آخر انه لا يعرف الرجل الذي تم تكليفه اثر الاستشارات النيابية )الرئيس المكلف مصطفى أديب) وامل ان يتحلى بالكفاءة المطلوبة. وإذ شدد على تشكيل الحكومة الجديدة بسرعة قال انه اقترح آلية متابعة للأشهر القليلة المقبلة “لأننا لن نحرر أموال مؤتمر سيدر طالما لم تنفذ الإصلاحات ولن أتساهل مع هذه الطبقة السياسية ..” كما اعلن استعداده لتنظيم مؤتمر دولي جديد للبنان الشهر المقبل بالتعاون مع الأمم المتحدة . كما انه في كلمة القاها خلال الغداء الرسمي الذي أقامه على شرفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في قصر بعبدا اكد “الاستعداد للمساعدة في تحقيق النهوض المطلوب ضمن خطة واضحة تقوم على الإصلاحات” وأبدى ارتياحه الى ما اعلنه عون عن أهمية قيام الدولة المدنية في لبنان مؤكدا ان فرنسا تدعم كل الخيارات التي يلتقي عليها اللبنانيون .
في قصر الصنوبر
وبدا لافتا ان اللقاء الموسع مع القيادات السياسية في قصر الصنوبر استمر اكثر من ثلاث ساعات وتأخر معه المؤتمر الصحافي لماكرون الى ما بعد العاشرة ليلا والذي اعلن خلاله انه ليس هنا ليأخذ موقفا بين القوى السياسية بل انه متطوع للمساعدة. وابرز أهمية تشكيل حكومة جديدة وقال ان اسم رئيس الحكومة والحكومة هما من مسؤولية السلطات اللبنانية وامل في تشكيل حكومة جديدة في الأيام القليلة المقبلة مع أشخاص كفوئين ومدعومين من كل القوى الأخرى. واعلن انه حصل على التزام الشخصيات التي اجتمع اليها على استجابة طلبه بإلحاح الا يستلزم تشكيل الحكومة اكثر من 15 يوما. وشدد على ان ما هو مهم خريطة الطريق التي أكدها كل الافرقاء والتي وضعها الرئيسان عون وبري ووافق عليها الأطراف. وكشف انه وجه دعوات الى الرؤساء الثلاثة الى مؤتمر الدعم الدولي الذي سينظم في تشرين الأول. وكشف ماكرون ان ثمة اربع أولويات تعتمد الان هي المساعدة الصحية واعلن عن مساعدة لمستشفى الحريري بـ7 ملايين أورو والأولوية الغذائية والتربية والتعليم لتأمين عودة التلامذة الى المدارس والجامعات وتعزيز قدرات مرفأ بيروت وإعادة اعمار المباني المتضررة بانفجار مرفأ بيروت. وقال انه يمنح الثقة الان لكن في نهاية تشرين الأول اذا لم يحققوا ما التزموا به فسيسمي من عرقل. وكشف ان الانتخابات النيابية المبكرة لم تحصل على اتفاق من القوى السياسية. وقال انه “لن يتحدث عن حزب الله بتشكيلته الإرهابية بل بتشكيلته السياسية والبرلمانية وهو قوة موجودة في مجلس النواب”.
موفد فاتيكاني
الى ذلك أفادت معلومات امس ان امين سر الدولة في الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين سيزور يوم الجمعة المقبل بيروت وهو ارفع مسؤول في الكرسي الرسولي بعد البابا ومن المتوقع ان يلتقي عددا من كبار المسؤولين الرسميين والروحيين.