– كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : أسفر الاجتماع الذي حصل في التاسع عشر من الشهر الجاري بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عن إعلان قرار إطلاق العمل بمنصة تداول بالدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، عائدة لمصرف لبنان. هذه المنصّة، من المفترض أنها جزء من الإجراءات التي كان قد أعلن عنها حاكم مصرف لبنان خلال لقائه رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري ووزير المال غازي وزني الأسبوع الماضي.
وبحسب البيان الذي تلاه المُستشار الإعلامي لرئاسة الجمهورية، أعلم حاكم مصرف لبنان رئيس الجمهورية قرار المصرف المركزي “إطلاق العمل بالمنصة الالكترونية العائدة له بحيث يتم تسجيل كل العمليات وتصبح هي المرجع الاساسي للسعر الحقيقي للسوق” مع “السماح للمصارف ابتداءً من الاسبوع المقبل، بالتداول في العملات مثل الصرّافين الشرعيين وتسجيل العمليات بالسعر الحقيقي على المنصة، على أن تتابع لجنة الرقابة على المصارف حسن سير العمل. وسوف يتدخل مصرف لبنان لامتصاص السيولة كلما دعت الحاجة حتى يتم ضبط سعر الصرف وفقاً للآليات المعروفة”. وأضاف البيان أن رئيس الجمهورية أبلغ حاكم مصرف لبنان “ضرورة التشدد للجم المضاربات وتنظيف القطاع المصرفي والتصميم على استعادة الثقة حتى يعود لبنان قاعدة مصرفية في المنطقة”.
لكن هل ستنجح هذه المنصّة في خفض سعر صرف الدولار مُقابل الليرة اللبنانية؟
عوامل النجاح
مُشكلة التطبيقات التي كانت تُعطي الأسعار فيما يُسمّى السوق السوداء، هي عدم وجود شفافية في تحديد سعر السوق. والمعروف في الأسواق المالية أن تحديد سعر صرف السوق يتبع آلية مُحددّة تنصّ على تحديد العرض (الكميّة والسعر) والطلب (الكميّة والسعر) وهو ما يُسمّى بالـ order book على أن يُصار إلى مُقارنة العرض والطلب واستخراج السعر الذي يُعظّم الكمّية المُتداولة (Price that maximizes the exchanged quantity).
التطبيقات الموجودة على الأجهزة الخليوية والمواقع الإلكترونية، لا تُظهر الـ order book، مما يعني أن السعر قد يكون عشوائيًا أو مُتلاعبًا به. من هنا تأتي المِنصّة التي سيُطبقها مصرف لبنان لتُعطي سعر السوق شرعية أكثر من خلال عنصر الشفافية الذي يُمكن الحصول عليه من خلال عرض الـ order book.
بحسب المعلومات، تهدف هذه المُنصّة إلى سحب الطلب المؤسساتي من السوق السوداء إلى سوق شبه رسمية. وبالتالي، فإن هذه المنصّة ستخدم بالدرجة الأولى، وبشكل حصري في المرحلة الأولى، النشاط الاقتصادي أي التجار والصناعيين والمزارعين. وسيكون اللاعبون على هذه المنصّة هم الصرافون الشرعيون، والمصارف التجارية، ومصرف لبنان الذي سيتدخّل لامتصاص السيولة (بحسب بيان الرئاسة). أمّا في ما يخصّ المواطنين، فمن الواضح أن لا قدرة لهذه السوق على تلبية مطالبهم نظرًا إلى حجم هذه الطلبات نسبة إلى حجم السوق السوداء المُقدّرة ببضعة ملايين من الدولارات يوميًا.
والسؤال الذي يُطرح على هذا الصعيد : من أين سيتمّ تأمين الدولارات لهذه المنصّة؟ في الواقع، يُمكنّ تخيّل العملية كعملية نقل للسوق السوداء إلى المنصّة الرسمية، وبالتالي فإن مصدر الدولارات سيبقى كالسابق، مع فارق واحد وهو وجود لاعبين إضافيين هما مصرف لبنان والمصارف التجارية. وبحسب المعلومات، فإن العمليات سيتمّ تسجيلها ومراقبتها من قبل لجنة الرقابة على المصارف لمعرفة ما إذا كانت هذه العمليات هي لخدّمة النشاط الاقتصادي أو لا. بالطبع لا يُمكن للمصارف أن تقوم بعمليات شراء للدولارات على هذه المنصّة (أو غيرها داخل لبنان) بهدف تعزيز وضعها من السيولة، بل ان وجودها في هذه المرحلة هو لتأدية دور تأمين السيولة وتلبية طلبات الزبائن (من مهام لجنة الرقابة على المصارف التأكد من ذلك).
هل لمصرف لبنان القدرة على تأمين النقص في الدولارات المطلوبة على هذه السوق؟ مصرف لبنان يدعم التجّار على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة) وعلى سعر المنصّة الإلكترونية (3900 ليرة) حيث تُقدّر نسبة هذا الدعم من إجمالي العمليات ما بين الـ 60 والـ 70%. هذا الدعم سيبقى في المبدأ مؤمّنًا، على أن تكون المنصّة الجديدة هي المكان لتمويل الباقي من كلفة استيراد الدعم (15%) بسعر المنصّة الجديدة. السوق السوداء التي تحوي هذه الـ 15%، حجمها لا يزيد عن بضعة ملايين من الدولارات في النهار، أي أن مصرف لبنان قادر مع المصارف والصيارفة على تأمين هذه المبالغ.
لكن نجاح هذه العملية مرهون بعوامل غير نقدية:
أولا – مُحاربة السوق السوداء غير القانونية، وهو ما يتطلّب مواكبة من الأجهزة الرقابية والأمنية، ولكن أيضًا من قبل القضاء؛
ثانيًا – مُحاربة التهريب بكل أشكاله لضمان كفاية السوق اللبناني وعدم السماح للتجّار بتهريب البضائع والسلع المدعومة (وحتى غير المدعومة!) إلى خارج الحدود، كما هو الأمر حتى الآن حيث نرى المواد الغذائية المدعومة في العديد من دول العالم (السويد، الكويت، غانا…) والمحروقات في سوريا.
وبالتالي ومن دون هذين العاملين، من المرجّح أن يستمر المهرّبون والتجار في عملياتهم التي يقومون بها بشكل مفضوح تحت أعين الأجهزة الرقابية والأمنية من دون أن تتمّ مُحاسبتهم أو توقيفهم عن أعمالهم الشنيعة هذه. يجب أن يكون لدى المسؤولين الشجاعة الكافية للاعتراف بوجود طلب خارجي لا يمكن تحديده ولا ضبطه إلا بقرار سياسي واتفاق على مصلحة لبنان العليا! فهل يكون هذا الأمر مُستحيلا في ظل الوضع القائم، فيؤدّي إلى فشل المنصة؟
الجدير ذكره أن كلفة استهلاك المواد الغذائية المُستوردة تبلغ ما بين 80 إلى 100 مليون دولار شهريًا في حين أن حاجة السوق اللبناني تقدّر بـ 30 مليون دولار أميركي شهريًا، أي أن الفارق يذهب تهريبًا وقسماً كبيراً منه مدعوم!
تشكيل الحكومة وأموال المودعين
نجاح عمل المنصة في الشق المؤسساتي في المرحلة الأولى سيفتح الباب أمام المواطنين والمودعين للحصول على دولارات ولو بقيمة بسيطة في المرحلة الثانية. هذا الأمر نابع من مبدأ أن الثقة قد تعود إلى النظام المصرفي والمالي بالإجمال، خصوصًا إذا ما تمّ تشكيل حكومة قادرة على التفاوض مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة وإعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية – المالية.
السيناريو المثالي ينصّ على أن الشركات التي تُسعّر سلعها وبضائعها بالدولار، ستكون قادرة من خلال المصارف أو الصرافين على الحصول على الدولارات عبر شرائها على المنصّة على سعر السوق. وبالتالي لن يكون على المواطن تأمين دولارات طازجة كما تفرض بعض الشركات. أمّا على صعيد المواطنين، فقد يكون من المُمكن للمصارف في حال تشكيل الحكومة والبدء بالإصلاحات، إعطاء المودعين دولارات نقدية من حساباتهم القديمة (حتى ولو 1% من قيمة الوديعة بالدولار شهريًا)، إلا أن هذه الصورة لن تتضحّ معالمها إلا بعد تشكيل الحكومة وطرح خطّتها للخروج من الأزمة. في الواقع، إعطاء المودعين دولارات، ولو بنسبة قليلة، كفيل بإعادة الثقة إلى قطاع انهارت الثقة به مع بدء الإحتجاجات الشعبية في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019.
التجّار والتهريب والتهرّب الضريبي
لا يخفى على أحد، ولان نقول شيئاً جديداً بقولنا ان هناك تُجّاراً متواطئين مع عصابات تهريب عبر إعطائهم السلع والبضائع المدعومة بهدف تهريبها إلى الخارج. المخازن المحشوة ببضائع مدعومة في بعض السوبرماركات والرفوف الفارغة هي أكبر دليل على النيات السيئة التي يخفيها هؤلاء. وبالتالي فإن استخدام المنصّة الجديدة، التي ستُسجّل العمليات بشكل علني، ستسمح للأجهزة الرقابية من وزارة الاقتصاد والتجارة ووزارة المال والجمارك بملاحقة التجار المُخالفين، والأهمّ ملاحقة التهرّب الضريبي الذي يقوم به هؤلاء عبر رفضهم القبول بوسائل الدفع بالشيكات أو البطاقات المصرفية واعتماد النقد حصريًا. هذا الأمر يسمح لهم بتحقيق أرباح على ثلاثة أصعدة: فارق الدولار، التهريب، والتهرّب الضريبي. من هذا المُنطلق سيكون لوزارة المال الوسائل اللازمة لملاحقة هؤلاء وإرغامهم على دفع مُستحقات الدولة. والتقديرات لحجم الأرباح التي حقّقها هؤلاء في المرحلة الماضية، تُشير إلى نسبٍ هائلة تتراوح بين الـ 200% والـ 500%! وقد يقول بعض التجّار ان مصرف لبنان يُلزمهم تأمين المبلغ نقدًا بالليرة اللبنانية للحصول على الدولارات وهذا حقّ، إلا أن ما لا يقوله التجّار ان هناك أكثر من 40 تريليون ليرة في السوق، وهذه الأموال ليست كلها مع المواطنين!!
لذا، إذا فشلت عملية ضبط التهريب، فإن هذه المنصّة ستكون أداة لتمويل التجّار لتصدير البضائع والسلع إلى الخارج، وهو ما سيؤدّي إلى تداعيات كارثية على الصعيدين النقدي والسياسي.
سعر الدولار في المرحلة المُقبلة
هل يُمكن التنبؤ بسعر صرف الدولار في المرحلة المُقبلة؟ الجواب كلا. لكن وبتحليل للواقع يُمكن القول إن نجاح عمل المنصّة التي سيطلقها مصرف لبنان، سيجعل الدولار ينخفض حكمًا على المدى القصير. وإذا ما تشكّلت حكومة قادرة على القيام بإصلاحات إقتصادية ومالية، فإن الدولار سيعود أدراجه إلى مستويات مقبولة للمواطن اللبناني.
أمّا فشل المنصة، فيعني أننا فقدنا السيطرة على سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية! من هنا ضرورة مواكبة الأجهزة الرقابية والأمنية والقضاء لإطلاق هذه المنصة، على أن تكون هناك خلية أمنية – مالية للتنسيق بين مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف من جهة وبين الأجهزة الأمنية والقضاء من جهة أخرى.
وقف التهريب أصبح أمرًا كيانيًا ووجوديًا للشعب اللبناني، كذلك الأمر بالنسبة لمصارحة المودعين من قبل المصارف وعدم تجاهل مطالبهم المُتكرّرة! فالودائع خصوصًا بالدولار الأميركي هي حقّ للمودعين، ويتوجّب على المصارف وضع خارطة طريق لإعادة الأموال لأصحابها، على أن تعرض هذه الخارطة على الرأي العام وتلتزم بها.
الانتقادات الموجّهة للمنصّة
في جوّلة سريعة على الآراء المُتداولة، نرى أن المصارف ليست مُتحمّسة للمنصة، نظرًا إلى الدور المنوط بها، والذي سيتمّ وضع معالمه في تعميم يُصدره مصرف لبنان. لكن أيضًا يدخل ضمن الفئات غير المُتحمّسة، الصرافون والتُجّار والمُهربون الذين ستخفّ أرباحهم، نظرًا لعملية تنظيم ومراقبة السوق.
أيضًا المُعارضون لسياسات المصرف المركزي، يقولون إن إطلاق المنصّة ليس بحلّ، بل يجب أن يكون هناك حلّ جذري للأزمة من خلال حلّ مُشكلة الدولارات العالقة في المصارف والتابعة للمودعين، ويعزون هذا الطرح إلى اقتراح فرنسي تمّ طرحه على حاكم المركزي خلال زيارته الأخيرة.
بغض النظر عن الطريقة التي سيتمّ حل الأزمة بها، ما يهمّ المواطن هو استعادة ودائعه ولكن أيضًا عودة الدولار إلى مستويات مقبولة (بالتأكيد ليس 10000 ليرة!) تسمح له بالعيش بكرامة، خصوصًا أن بقاء الوضع على ما هو عليه، حتى لو استعاد المودع ودائعه، سيؤدّي إلى خسارة هذه الودائع عبر دفعها ثمن السلع والبضائع!