كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : يستمرّ مُسلسل إنهيار الدولة والذلّ اليومي للمواطن على أبواب الصيدليات، والمُستشفيات، ومحطات الوقود وغيرها من الخدمات العامة. والسلطة المنشغلة بتغذية خلافاتها على توزيع المصالح والسلطة، ستصبح حتماً عاجزة عن القيام بأبسط الإجراءات التي تُخفّف من وطأة الأزمة على المواطن. كل هذه المؤشرات، تُشير إلى أن النظام القائم يتجه إلى الزوال نزولا عند رغبة ثوار 17 تشرين والذين هُوجِموا من قبل السلطة أنذاك على إستخدام شعار “الشعب يُريد إسقاط النظام”، فإذا بالقوى السياسية تقلب مطلب الثوار وتُسقط الشعب حفاظأً على ما يمكن من سلطة النظام.
تشكيل حكومة جديدة “قادرة على القيام بإصلاحات وعزل لبنان عن الصراعات الإقليمية” كما طالب الإتحاد الأوروبي، أصبح حلمًا لا يُمكن أن يتحقّق إلا بتغيير النظام الحالي، ولكن من سيغير هذا النظام؟ وما هي هذه الآلية؟ ومن يمكن أن ينفذ هذه الآلية؟ والظاهر من تسلسل الأحداث أن المحفز لهذا التغيير سيأتي من الباب الاقتصادي الذي يتردّى دراماتيكيًا كل يوم بفضل الضغوطات الخارجية، والعصابات الداخلية واللامبالاة الحكومية، بدءًا من وزارة الاقتصاد المعني الأول في هذه الأحوال الاستثنائية مروراً بكل ما من شأنه السهر على الحقوق المحمية في الدستور.
تهريب البنزين
أصبحت طوابير السيارات على محطات الوقود من المشاهد اليومية التي يواجهها اللبناني وكل ذلك بحجة عدم فتح الإعتمادات من قبل مصرف لبنان. إلا أن هذا السبب الذي تُعطيه الجهات النفطية في وسائل الإعلام هو أثر الحقيقة المرّة التي باتت مكشوفة للعامة ألا وهي تشريع “التهريب” السلطوي.
المعلومات المتوافرة على موقع الجمارك اللبنانية والتي تمتدّ من العام 2011 إلى العام 2020، تُشير إلى أن كمية إستيراد البنزين (بفرضية أن التبويب صحيح) تراوحت بين 1,615,220 طن في العام 2011 و2,102,817 طن في العام 2019. هذه الكمّية إنخفضت إلى 1,664,810 طن في العام 2020 نتيجة الإقفال الناتج عن جائحة كورونا.
هذه الأرقام قد لا تعني شيئًا للقارئ العادي، إلا أن تحــويلها إلى صفائح بنزين وقسمتها بعدد السيارات تُوصل إلى نتيـــجة صادمـــة وهي أن إستهلاك السيارة في لبنان من العام 2011 والعام 2019، فاقت الثلاث صفائح بنزين في الأســبوع الواحد! هذا الأمر غير المنطقي يقترح أن كل الكميات المُستوردة لم تكن للسوق اللبناني فقط بل كان التجّار يستفيدون من عمليات تهريب مُمنهجة.
وبإعتبار أن مُعدّل إستهلاك السيارة الأسبوعي يتراوح بين نصف وثلاثة أرباع الصفيحة في الأسبوع، فإن حجم البنزين المُهرّب (الفائض) خلال عشر سنوات بين العام 2011 والعام 2020 يتراوح بين 10 و11 مليار دولار أميركي وهي ممولة من الدولارات الموجودة في مصرف لبنان! بالطبع هذه الأرباح كانت تذهب لجيوب التجار والمهرّبين وأصحاب النفوذ الذين غطّوا عمليات التهريب هذه.
وبالتالي وبالسؤال عن الودائع بالدولار الموجودة في المصارف، يُمكن الإستنتاج أن 10 مليار دولار أميركي من هذه الودائع ذهبت إلى تمويل إستيراد بنزين الى أسواق غير الأسواق اللبنانية. هذا حال البنزين، فكيف هو الحال إذا ما إحتسبنا المازوت، والسيارات، وغيرها من السلع والبضائع!
القرار الإستثنائي الذي أخذه رئيس الحكومة حسان دياب ينصّ على إقتراض مبلغ من الدولارات من مصرف لبنان (عملا بالمادة 91 من قانون النقد والتسليف) وبالتحديد من أموال المودعين الموجودة في الإحتياط الإلزامي لكي يتمّ تمويل إستيراد البنزين على الأشهر الثلاث المقبلة. هذه العملية تُسمّى “دعم” بحكم أنها آتية من الخزينة العامة في حين أن ما كان يحصل سابقًا هو عبارة عن عمليات بين المصرف المركزي والمصارف لحساب الشركات التي تستورد البنزين.
إذا الدولة إقترضت المال من أموال المودعين وتتوقّع أن تُعيد هذه الأموال من عائدات الموسم السياحي الذي قدّرته ما بين 1 و2 مليار دولار أميركي وهو، بحسب الحكومة، كافٍ لتغطية كلفة الإستيراد التي قدّرناها بحدود الـ 600 مليون دولار أميركي على الأشهر الثلاث المقبلة. بالطبع إحتساب الدولار على الـ 3900 ليرة لبنانية بدل السعر الرسمي – أي 1515 ليرة لبنانية – تُخفّض الكلفة على الليرة اللبنانية من ناحية أنها ستسمح بتفادي طبع 1.3 تريليون ليرة لبنانية وهو ما يدّعم الليرة اللبنانية التي تنهار يومًا بعد يوم أمام جشع التجّار والحسابات السياسية.
هذا النموذج من التهريب كان يعمل بشكلٍ جيد قبل العام 2019، أي العام الذي فرضت فيه الولايات المُتحدة الأميركية ومعها العديد من الدول الأخرى تضييقًا شديدًا على قدوم الدولار إلى لبنان، لكنه لم يعد يستطيع الإستمرار اليوم نظرًا إلى أن إحتياطي مصرف لبنان أستنزف بالكامل.
في ظل هذا المشهد المؤسف، إصطفت طوابير السيارات أمام محطات المحروقات للتزود بالبنزين قبل إرتفاع سعر الصفيحة إبتداءً من اليوم الإثنين. هذه الطوابير الضخمة هي إثبات إضافي للذل الذي أصبح يواكب اللبناني في حياته اليومية.
الدولار والتجار
عملية رفع سعر صفيحة البنزين يعني رفع أسعار كل السلع والخدمات. هذا أقلّه ما يتوقعه التجار الذين بدأوا بإقفال محالهم التجارية بإنتظار التسعيرة الجديدة لصفيحة البنزين وهذا ما سيسمح لهم بتحقيق أرباح عن غير وجه حق (عملا بالمرسوم الإشتراعي 73/83) قدّرناها بأكثر من 100 مليون دولار أميركي نظرًا إلى حجم السوق ووجود سلع لدى التجار تمّ شراؤها أصلا على أسعار دولار أدنى. ولكي يتمّ تعظيم هذه الأرباح غير القانونية، تعمد العصابات من خلال التطبيقات إلى رفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء خلال عطلة نهاية الأسبوع لكي تزيد الأرباح.
وككل الإستراتيجيات المُستخدمة لضخّ الفوضى في بعض الدول، تلعب السياسة دورًا محوريًا في رفع سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء من خلال أدواتها التي تتواجد بين الصرافين والتجّار الوهميين وغيرهم.
بالطبع لا يُمكن تبرئة بعض المصرفيين من جريمة شراء الدولارات في السوق السوداء لإعطائها للمودعين عملا بدقائق التعميم 158. وهنا نُشدّد على عبارة “مصرفيين” نظرًا إلى أن قرار تدخل مصرف في السوق السوداء لا يُمكن أن يكون على صعيد الإدارة والذي يؤدّي إلى شطب المصرف عن لائحة المصرف.
وفي خِضمّ كل هذه الفوضى، يبرز إلى العلن طلب على الدولار الأميركي من قبل المواطنين الذين يخشون على أموالهم بالليرة اللبنانية، لذا نرى أن العديد من المواطنين قاموا بتحويل كميات من الليرة إلى الدولار في الأيام الماضية.
كل هذا يدفع إلى ترجيح إستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار خصوصًا أن السلطة التنفيذية ما زالت مصرّة على عدم الرقابة وملاحقة المُخالفين.
الإحتجاجات الشعبية
العديد من المناطق اللبنانية شهدت قطعاً للطرقات إحتجاجًا على الأوضاع المعيشية والذلّ الذي يتعرّض له المواطن. وبغض النظرعن حجم هذه الإحتجاجات، إلا أن الأكيد أن الرقابة التي يقوم بها فريقا حماية المُستهلك وأمن الدولة على محطات الوقود، لن تستطيع وقف جشع التجار وإحتكارهم الملعون أخلاقيًا ودينيًا وقانونيًا.
للأسف السلطة التنفيذية التي من المفروض أنها مكوّنة من النخبة لحماية مصالح المواطنين وتحسين حياتهم، فشلت في مهمتها وستواجه غضب الناس خصوصًا عندما يتمّ رفع الدعم بالكامل عن سعر صفيحة البنزين. حينها لن يكون بمقدور المواطن الذهاب إلى عمله لأن كلفة التنقل من وإلى العمل ستكون أكثر من أجره الشهري. عندها سيكون المشهد اللبناني مُختلفاً عما نعرفه مع ظهور العصابات المُسلّحة والأمن الذاتي. ويبقى السؤال: هل يفرض الجيش عندها حالة الطوارئ؟
بالطبع الجيش، المؤسسة الوحيدة الصامدة في وجه العاصفة حتى الساعة، بدأت تتأثر بالوضع الاقتصادي والمالي والنقدي. وبالتالي وفي غياب ترجمة فعلية لمؤتمر الدعم الدولي الذي نظمته فرنسا منذ أسبوعين، ستكون السيطرة على الفوضى على الأرض أصعب. ويأتي وجود النازحين السوريين في لبنان ليُعقّد الأمور أكثر خصوصًا إذا ما إنخرط هؤلاء في عمليات شغب على الأرض.
الغاز على المشرحة
عدم القدرة على تشكيل الحكومة هو ترجمة للتخبّط السياسي بين القوى السياسية والذي شهدنا أخر فصوله حربًا بالمدفعية الثقيلة على مواقع التواصل الاجتماعي في اليومين الأخيرين مع إتهامات متبادلة بالفساد والسرقة دون أن يُحرّك القضاء ساكنًا.
لكن من السطحية الظنّ أن الخلافات الداخلية هي العائق الوحيد أمام تشكيل الحكومة، فغاز لبنان القابع في البحر والذي قدّرناه في العام 2011 (خلال مؤتمر الجيش الأول) بعدّة مئات المليارات من الدولارات مع إحتمال 95% وحتى أكثر من 1 تريليون دولار أميركي مع إحتمال 5%، هو عامل أساسي في الوضع الذي يعيش فيه لبنان. بالطبع الخلافات السياسية الداخلية والإرتهان الخارجي والفساد المُستشري وغياب الإصلاحات كلها عوامل سهّلت لا بل قدّمت على طبق من فضّة لبنان على مشرحة المفاوضات الدولية.
الإجتماعات الدولية بين الدول الكبرى والتي تهتم بالشأن اللبناني من الباب الإنساني والعلاقات الوطيدة، تمتد أيضًا لتأمين مصالح هذه الدول. وهذا الأمر ليس بخفي على أحدّ أن لا شيء يعلو فوق مصالح الدول وهو ما يُعرف في اللغة السياسية بعبارة “في السياسة لا يوجد عدو إلى الأبد”.
عمليًا الصراع القائم حاليًا هو صراع روسي – أميركي على تقاسم غاز الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بحكم أن الوجود العسكري في هذه المنطقة هو بالدرجة الأولى روسي وأميركي. المُشاركة الأوروبية – من الباب الفرنسي – ظاهرها العلاقات التاريخية، ولكن باطنها الاهتمام بالثروة الغازية وهي التي تعتمد على الغاز بشكل أساسي في التدفئة والإستهلاك المنزلي.
التصريحات الدولية تقول إن المُشكلة لبنانية – لبنانية وبالتالي على المسؤولين أن يتفقوا على تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات وعزل لبنان عن الصراعات الإقليمية. هذا الأمر تعرف الدول الكبرى أنه غير مُمكن في ظل الترابط العضوي بين القوى السياسية المحلية والخارجية وبالتالي هناك مثل غضّ نظر عن التردّي الحاصل في لبنان نظرًا إلى أن وضع إقتصادي ومالي ونقدي وإجتماعي سيىء، يجعل لبنان أكثر طوعًا في المفاوضات على الغاز. والأصعب في الأمر أن كلما مر الوقت، كانت الخسائر أعظم وبالتالي الفاتورة أكبر ولن يكون بمقدور لبنان على المدى المتوسط أو البعيد النهوض وحيدًا وهو ما سيُجبره على رهن غازه.