متعِب إيمانويل ماكرون. متعب لأهل بيته قبل الآخرين. سعيه الدؤوب لتحقيق إنجازات قابلة للصرف في معركة تحسين صورته وشعبيّته داخل فرنسا، يجعله يستخدم كل ما هو متاح من أوراق قوة أو أوراق لعب لأجل تحقيق ذلك. لكن ماكرون، الذي يقول عارفوه إنه ذكي كفاية، يتصرف بفردية مفرطة. صحيح أنه يُكثر من المستشارين من حوله وفي مؤسسات الدولة التي تخضع له، لكنه نادراً ما يتصرّف مع هؤلاء على أنهم أكثر من مساعدين تنفيذيين. ويجزم العارفون بأموره أن خطوات كثيرة قام بها أدّت الى نتائج عكسية، لسبب وحيد وهو أنه كان مقتنعاً بأن طريقته في إدارة الأمر هي الأفضل.
ماكرون شخص مستعجل. يريد تحقيق أهدافه بسرعة. يتصرّف كأنه أمام جدول أعمال واسع يشمل العالم كله. يعرف أكثر من غيره قوة فرنسا الفعلية، في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجيا وخلافها، لكنه مثل كثيرين في القارة العجوز يعيش الإنكار حيال أن أوروبا تحوّلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي الى تابع للولايات المتحدة الأميركية. يعاقَبون بالإقصاء إن تمردوا، أو ينفذون مع قليل من التشاور. وإذا كان ماكرون قد عانى الأمرّين مع دونالد ترامب، إلا أنه لم يصل الى ما يصبو إليه مع جو بايدن. هو يتوهّم أو يتأمّل أنه بات شريكاً للولايات المتحدة في إدارة ملفات العالم.
الإجهاد الذي يميز العمل من حول الرجل ينعكس ارتباكاً في عمل المؤسسات الفرنسية. ليس في باريس اليوم من يدّعي أن لوزارة الخارجية دورها الخاص. أو للدقة، ليس لها القرار في أي مسألة يعتبرها ماكرون ذات أولوية. وخليّة العمل الموجودة في قصر الإليزيه عرضة لضغوط جبارة، حتى يتحوّل الضغط منه الى مساعديه وإلى العاملين في القصر. لقد هرب نحو أربعة من مساعدي مستشاره إيمانويل بون بسبب جنون الأخير وكثرة تطلّبه والفوضى التي ترافق طلباته ومتابعاته. حتى في الأجهزة التنفيذية الأخرى، لا يجد الوزراء والمسؤولون الكثير من الهوامش التي تتيح لهم مفاتحة رئيسهم بهذا الخطأ أو ذاك. ومن يحاول التمايز عن الوجهة الاستراتيجية يعاقَب بشكل أو بآخر.
عودة مع ماكرون وفريقه الى لبنان. رجلان أساسيان يتولّيان الملف الى جانبه: السفير بون الذي خدم في لبنان مرات ومرات، والسفير الأسبق برنار إيمييه الذي يتولّى الاستخبارات الخارجية لفرنسا. الرجلان لديهما في لبنان ما يخصهما مباشرة. علاقات وطموحات وتصورات. لكن المشترك بينهما أمر في غاية الخطورة: عداوة مطلقة لسوريا بقيادة بشار الأسد، وعداوة محسوبة مع المقاومة بقيادة حزب الله. أما المعضلة التي يعانونها، فهي فريق الحلفاء أو اللاعبون اللبنانيون والسوريون معهم. في كل مرة، يخيب ظنّهم بسبب ضعف هذه الأدوات، وقصر نظرها وقلّة حيلتها واستعجالها، كما فسادها الذي لا يمكن كتمه أو تغطيته لوقت طويل, ومع ذلك، فإذا حاول مسؤول فرنسي، مرّ على جهاز أمني أو سفارة، أن يلفت الانتباه منتقداً، يسري عليه “الحرم” فوراً… انظروا إلى برونو فوشيه. الرجل يبدو معزولاً بلا عمل بعد مغادرته بيروت. وفي باريس اقتناع بأنه يخضع لعقاب، لأنه قدّم تصوراً لمعالجة الملف اللبناني يخالف توجّهات الثنائي بون ــــ إيمييه. وعقابه صار درساً تعلّمته السفيرة التي حلّت محلّه. هي سيدة نشطة، مثابرة، تهتمّ شخصياً بالعمل المباشر. تتابع الملفات، حتى إنها عرفت كيف توائم بين بريد الخارجية وبريد الإليزيه. تعرف بالضبط حجم الدور والموقع الذي يحتلّه وزير الخارجية جان إيف لو دريان. لا تتجاهله عملاً بالأصول، لكن تركيزها على بريد الإليزيه وما يمكن أن يصل أو يرسل الى خليّة السفير بون، من دون إهمال دور رجال برنار إيمييه في بيروت والمنطقة. وهي في هذه الفترة، متحمسة أكثر من السابق لرفع الصوت، معلنة أن المعركة دخلت طوراً جديداً.
بين أيار وحزيران الماضيين، اجتهدت السفيرة آن غريو في تقديم تقييم جديد لموقع بلادها في المعادلة الدولية العاملة على الملف اللبناني. هي تحسم لمن تلتقي بهم بأن الأمور تبدّلت بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. تتحدث عن رعونته واحتقاره لكل الآخرين، ورفضه التعامل مع أوروبا كشريك. وتقول صراحة إن ترامب وأعضاء إدارته كانوا يفترضون أن فرنسا يُسمح لها بأن تلعب في الوقت الضائع. حتى حصل الصدام. تشرح هي بالتفصيل، أمام من تعتبرهم “رجال المرحلة” من اللبنانيين، أن المشكلة التي كانت قائمة سابقاً سببها وجود خطتين وتصوّرين، كل واحدة تخص طرفاً. لكن بعد وصول بايدن الى البيت الأبيض، حصل توافق على رؤية موحدة، أساسها أن أميركا قررت التعامل مع أوروبا كشريكة. وبناءً على مداولات مكثفة، تقول السفيرة إن ملف لبنان اليوم يعمل وفق رؤية مشتركة جرى التوافق عليها بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا. صحيح أن الفرنسيين لديهم حساسية تاريخية تجاه الأفضلية البريطانية عند الأميركيين، لكنهم اليوم يعانون من حساسية مفرطة إزاء الدور الألماني. ربما يفكر الفرنسيون أنه في حال موافقة واشنطن على منحهم دوراً بارزاً في المجالين السياسي والأمني، فهي لن تسلّمهم رقبة لبنان، بل إنها ستجعل بريطانيا رقيباً دائماً على كل ما يتعلّق بعمل القوى العسكرية والأمنية، وربما يفضّل الأميركيون أن يكون الملف الاقتصادي بيد الألمان. وهذا ما يفسر جانباً من “الركض الفرنسي” تجاه مشاريع إعادة الإعمار في لبنان، من المرفأ الى غيره، والعودة الى برنامج تسليح القوة البحرية للجيش اللبناني، علماً بأن زيارة وفد رجال الأعمال الفرنسيين لبيروت، والزيارة المتوقّعة لوزير التجارة الخارجية، لا تشير الى وجود برامج واضحة أو مشاريع جاهزة.
أحد المشاركين في وفد رجال الأعمال، قال لصحافي فرنسي بوضوح: “نحن لسنا جمعية خيرية، ولا نملك المال الكافي لتمويل المشاريع. نحن نريد إقراراً من الحكومة اللبنانية بأفضليّة شركاتنا، وأن يسمح لنا بالتفاوض مع الجهات الدولية المموّلة لأجل الحصول على ما يكفي لإقامة هذه المشاريع”.
وهؤلاء لا يكتفون بذلك، بل ينتقلون فوراً الى العبارة المفتاح، وهي: “يجب أن تكون المرافق تحت إشرافنا الكامل. ليس بالضرورة أن نشتريها، ولكن أن نديرها وفق أحد أبواب الخصخصة الممكنة، ولفترة زمنية لا تقلّ عن ثلاثين عاماً، وتحت إشراف كامل من قبلنا لضمان إنتاجها من جهة، وضمان استعادة الأموال المفترض إعادتها إلى المقرضين”. وبطبيعة الحال، لا يتعب الفرنسيون، مثلهم مثل جميع رجال الأعمال، في شرح أنهم الأقدر والأكثر تفاعلاً، وأنهم يخطّطون ليس لإعمار جزء من المرفأ، بل لأجل إحياء مدينة بكاملها، أن تصوّراتهم للمرفأ الجديد تستهدف تنمية مستدامة وواسعة الاتجاهات… لكن هل من دراسة قابلة للنقاش؟ عندها ينظر الجميع الى بعضهم البعض، ويشيرون الى أنهم يريدون تمويلاً أولياً لوضع الدراسات قبل عرضها على لبنان بغية نيل موافقته، ثم للشروع في الأعمال. ولا ينسون مباغتة اللبنانيين بمفاجأة يعتقدون أنها مؤشر قوي: في الرابع من آب المقبل، ستعمد شركة الشحن البحري CGM الى إعادة افتتاح مكاتبها في بيروت التي تضرّرت في انفجار المرفأ قبل أكثر من أحد عشر شهراً. يريد هؤلاء أن يحتفل لبنان معهم بهذا الإنجاز العظيم!
الوصاية الآن… فوراً
على أن المسالة لا تقف عند هذا الحد، ذلك أن فرنسا التي تتولّى الآن دور المتحدّث الأول في الملف الداخلي اللبناني، تتصرّف كما لو أنها تملك من الأوراق ما يكفيها لكي تلاعب الجميع في لبنان. وهي تعتبر أنه بمجرد أن تكون على تواصل سياسي مع حزب الله، فهذا كاف لكي يقبل الحزب بتصوراتها. وثمة فوقية مقززة لدى الفرنسيين وهم يشيرون الى هذا الأمر على سبيل أنهم يمنحون المقاومة في لبنان بركة قبولهم التحدث معها، “بينما يرفض المجتمع الدولي ذلك”. المشكلة هنا أن فرنسا لم تتعلم شيئاً لا من ماضي الاستعمار القديم ولا من محاولة إعادة الاستعمار المباشر قبل نحو أربعين سنة، ولا من كل ما مرّ عليها ومعها وبسببها في منطقتنا. فرنسا لا تزال فرنسا، بل هي من سيئ الى أسوأ.. ترى، هل يفكر الفرنسيون لحظة بأن المقاومة في لبنان هي من يمنحهم فرصة التحدث إليها، بينما يقف العالم كله طالباً التواصل؟
هل ينسى الفرنسيون قبل شهور عدة ما حصل عندما طلب العدو من الأمم المتحدة نشر كاميرات مراقبة على الحدود الجنوبية؟ ألم تتعب فرنسا لأجل تمرير مشروع تعرف أنه يخدم العدوّ وحده؟ ألم تفهم لماذا لم تكن طرفاً في التواصل لا هي ولا إسبانيا المتورّطة أصلاً في لعبة التجسس من خلال قوات الطوارئ الدولية لمصلحة إسرائيل؟ ألم تفهم لماذا رفض حزب الله التحدث مع البريطانيين، بل رفض حتى تلقّي رسالة تطلب الاجتماع بهم؟ ألم تفهم لماذا اضطرت الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومعهما فرنسا وإسبانيا وبريطانيا الى الطلب من سويسرا لأن تقوم هي بالتواصل مع حزب الله بغية إقناعه بأن الكاميرات لا تستهدف الجنوبيين؟ وحسناً فعل السويسريون الذين سمعوا الرسالة وفهموها جيداً: أيّ كاميرا تنصب لمراقبة المقاومة سوف تكسر، وكل يد تحاول إصلاح ما كسر ستكسر أيضاً… ألم تعرف السفيرة الحالية، لماذا بادر الجيش اللبناني من خلال موفد شخصي للعماد جوزف عون الى إبلاغ فرنسا أن الحزب لن يوافق على المشروع وأن الجيش ينصح بتجاهل الأمر لأن أحداً لا يريد الصدام؟
يبدو أن فرنسا لم تفهم الرسالة بعد. بل هي تتصرف على أنها صاحبة الحق في الوصاية الكاملة. وأنها عندما تركت لبنان، كانت في إجازة، لكنها عادت لتجد شعبه وقياداته في حالة عجز، وهي من يقرر كيف تدار الأمور.
ولأن فرنسا لم تغادر منطقها إياه، سعت السفيرة الجديدة ــــ التي تعلّمت الدرس بألّا تكرر ما كان يفعله سلفها فوشيه ــــ الى توسيع نطاق صلاتها المحلية. وخلال الشهرين الماضيين، عقدت لقاءات في مقر السفارة، جمعت عدداً من ممثلي منظمات وجمعيات مدنية، من مختلف المناطق والطوائف. وقالت لهم بداية إنها تعتقد أنهم الأكثر تمثيلاً في مناطقهم وفي بيئاتهم الاجتماعية. وهي خصّت الجمعية التي تديرها السيدة رباب الصدر بلفتة خاصة وخلوة خاصة، لأجل القول إنها تعكس تمثيلاً كبيراً في الطائفة الشيعية. لا بل لفتت انتباهها الى أنها تمثل التيار البديل من الإرهاب والتطرف والفساد… وتركت للسيدة رباب أن تفهم المقصود. وعمدت السفيرة الى القول صراحة للحاضرين، إن ما يهمّ فرنسا اليوم هو الإنسان اللبناني، وإن فرنسا تعتقد بأن هذه الجمعيات تعمل لمصلحة الإنسان في لبنان بخلاف الأحزاب والسلطة الذين يعملون لأجل مصالحهم الخاصة ومواقعهم وحماية مراكز نفوذهم وفسادهم داخل الدولة. وسارعت الى القول بأن المبادرة الفرنسية لمعالجة الأزمة اللبنانية مستمرة، وقد أخذت شكلاً جديداً. تحدثت بإسهاب عن التغييرات التي رافقت وصول إدارة جديدة الى البيت الأبيض، وأن فرنسا باتت شريكة وهي حصلت على تفويض أميركي للقيام بالعمل المباشر في لبنان… و”نحن اليوم نعمل مع الأميركيين والبريطانيين وآخرين وفق رؤية موحدة. ومبادرتنا تختلف تماماً عن مبادرة الرئيس نبيه بري. نحن نريد إنقاذ لبنان ونقله الى مستوى جديد من الإدارة، بينما تستهدف مبادرة بري إعادة التجديد للطبقة الحاكمة نفسها”.
ثم قالت بحسم:
“لدى اللبنانيين اليوم خياران:
الأول: تأليف حكومة جديدة، من مستقلين لا تختارهم الأحزاب، وتكون لديهم القدرة والمسؤولية والإرادة الحرة لخوض معركة الإنقاذ من خلال الشروع الفوري في معركة محاربة الفساد، والعمل بالتعاون المباشر والوثيق مع المجتمع الدولي على إطلاق عملية إقصاء تدريجي وطوعي للفاسدين عن كل مواقع السلطة.
الثاني: الدخول في مواجهة شاملة ومباشرة وقاسية مع المجتمع الدولي، ومع إرادة المجتمع الدولي، وبالتالي تحمّل النتائج من الحصار والعقوبات. وليكن معلوماً أن المواجهة المباشرة مع المجتمع الدولي ستضع لبنان أمام الانهيار الحتمي والنهائي”.
لكن السفيرة تستدرك لتشرح أن الخيار الثاني ليس في مصلحة أحد، ولا يوجد في لبنان من يقدر على مواجهة المجتمع الدولي سوى حزب الله. هنا، تقرّ السفيرة بأن حزب الله قوي جداً، ولديه خبرة كما إيران على مواجهة العقوبات والحصار، لكن عليه أن يفهم بأن خيار المواجهة يضرّ كل اللبنانيين، وهذا ما يوجب على اللبنانيين إظهار التمايز الفعلي عن حزب الله وتحميله مسؤولية مواجهة المجتمع الدولي ونتائج هذه المواجهة. وبالتالي ــــ تضيف السفيرة العبقرية ــــ إن على اللبنانيين إظهار تمايزهم الفعلي عن حزب الله، وألّا يتصرفوا كما تصرفت حكومة حسان دياب التي لم تتعاون أبداً مع المجتمع الدولي ولم تنفذ توصياته ولم تلتزم بالتعليمات التي تفتح المجال أمام الإنقاذ. (ما قالته السفيرة الفرنسية للرئيس حسان دياب أول من أمس هو نفسه ما قالته في اجتماعاتها مع المجموعات اللبنانية) لأنها تعتبر أن عدم الاستجابة الكاملة لبرنامج الإصلاحات كما يراه البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي هو السبب في تعميق الأزمة.
وحتى لا يبقى السؤال ماثلاً حول موقف فرنسا والمجتمع الدولي من حزب الله، سارعت السفيرة الى القول بأن الحزب هو أيضاً أمام خيارين: “إما أن يقبل التفاوض مع المجتمع الدولي، وله الخيار في أن يختار الجهة أو الدولة التي يريد التحاور معها. الجميع يريد التحدث إليه، وإذا كان يرفض الأميركيين أو البريطانيين أو الفرنسيين فيمكنه التحدث مع الأمم المتحدة أو مع ألمانيا” (قال دبلوماسي غربي إن ألمانيا في لبنان يراد لها أن تؤدّي دور سلطنة عُمان في ملفات إيران واليمن). لكن السفيرة أظهرت بعض “الحزم” عندما أوضحت: “نحن من جانبنا سنستمر بالتواصل والتحدث مع الحزب، لكن على الحزب أن يعلم أننا نتحدث معه من الآن وصاعداً تحت سقف هذا التوجه. ونحن نقول للحزب بأنه في حال قرر رفض التفاوض وقرر الدخول في مواجهة معنا، فعليه تحمل النتائج. وعندها سيتم عزله بصورة كلية من قبل كل العالم، ولن يبقى أحد، بمن فيهم نحن، يقبل التحدث معه. وسيواجه وضع كل المنظمات الإرهابية المعزولة في العالم. ونحن نثق بأنه ليس حزباً مغامراً، وبأنه لن ينجرّ الى مغامرات”. لتختم: “لبنان اليوم في وضع يشبه ما كان عليه بين عامَي 1982 و1983، وهناك الكثير من الخيارات على الطاولة”.
عصف فكري في باريس: مؤتمر لدراسة الحكم البديل في لبنان
لقاءات السفيرة الفرنسية في بيروت لم تكن معزولة عن نشاط آخر بادرت السلطات الفرنسية الى القيام به في باريس. تعاونت وزارة الخارجية مع وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ومراكز أبحاث على ترتيب مؤتمر لمناقشة الوضع في لبنان والمنطقة. ودعي إلى الاجتماع موظفون فرنسيون وشخصيات لبنانية حضرت إما بوصفها تحمل جنسية أخرى، أو أنها تمثّل مراكز أبحاث ومؤسسات غير لبنانية. لكن باريس اختارت شخصية لبنانية واحدة حضرت من بيروت. وتبيّن أن الشخصية الحاضرة هي المدير العام السابق لوزارة الإعلام محمد عبيد، ويبدو أن حضوره تمّ بتوصية من قائد الجيش العماد جوزف عون. واستمر المؤتمر لأيام عدة، واختتم نهاية الشهر الماضي، وكان مناسبة لنقاش نظريّ حول الأزمة اللبنانية كجزء من مشكلة المنطقة. وليس غريباً على الحاضرين أن ينجحوا في تقديم تشخيص وفهم دقيق للأزمة من جوانبها كافة. لكن الحيرة تعود الى الطروحات البديلة وإلى الأفكار العلاجية الممكن اعتمادها في مقاربة الأزمة اللبنانية. على أن الخلاصات التي يمكن الخروج منها بعد هذا اللقاء تفيد بالآتي:
أولاً: إن فرنسا باتت كما بقية “المجتمع الدولي” على اقتناع تامّ بأن الطبقة السياسية الموجودة لم تعد مؤهّلة للاستمرار في الحكم، بمن فيهم الرئيس سعد الحريري، وأنه حان وقت التغيير الشامل. و”نحن ندعم تغييراً شاملاً، لكننا لا ندعم أن يحصل ذلك بالقوة لأنه لا يدوم، وقد يتسبّب بمشكلات كبيرة، بل نسعى إلى أن يتحقق من خلال تعزيز حضور ونشاط المجتمع المدني والجمعيات والشخصيات التي يمكن أن تشكل بديلاً حقيقياً من الموجودين حالياً. وفرنسا تتحدث باسم المجتمع الدولي عن الاستعداد للمساعدة على عقد تسويات تسمح بخروج هذه الطبقة السياسية من دون مواجهة. وهذه التسويات لا يمكن أن تكون بطريقة تُبقي الأمور على ما هي عليه اليوم”.
ثانياً: يعتقد الفرنسيون أن المشكلة في لبنان تتطلّب تغييراً شاملاً، وتحتاج الى حوار يقود الى عقد اجتماعي وسياسي جديد. ويجب أن يكون الأمر أساسياً لا أن يتمّ ربط التغيير بالانتخابات. وهم يُظهرون خشية كبيرة من كون الانتخابات في حال حصولها بصورة مبكرة أو في موعدها قد تعيد إنتاج الطبقة الحاكمة نفسها، وسيكون المجتمع الدولي ملزماً بالتعامل مع المجموعة نفسها لسنوات أربع جديدة. لذلك يجب البحث في آلية مختلفة لإدارة الانتقال السلمي الى سلطة جديدة.
ثالثاً: يبدو أن الفرنسيين، بعدما عجزوا عن تأمين إجماع أوروبي على فرض عقوبات على أركان الطبقة السياسية في لبنان، يفكرون في عقد اتفاقات مع بريطانيا وألمانيا، أو مع دول أخرى، لأجل فرض عقوبات ثنائية أو ثلاثية على شخصيات لبنانية من البارزين، تؤدي الى منعهم من دخول أوروبا أو بعض الدول، ومنعهم من مزاولة أي أعمال اقتصادية أو تجارية مباشرة، أو من خلال أزلامهم، وتعقيد كل معاملاتهم في هذه الدول. مع الرغبة الواضحة بعدم اللجوء الى عقوبات تعطّل أي مسعى لإقناع هذه القيادات بالابتعاد السلمي عن مواقعها. وهدف الفرنسيين هنا، هو استخدام هذه الضغوط لأجل إقناع هذه الفئة بعدم خوض الانتخابات النيابية الجديدة وترك المجال أمام آخرين.
رابعاً: بانتظار حسم وجهة الحل في لبنان، على الجميع التصرّف على أساس أنه لن تكون هناك أي برامج دعم مالي للبنان، لا من المجتمع الدولي ولا حتى من الدول العربية. ولن يصرف قرش واحد في لبنان قبل إقرار الإصلاحات التي يطلبها “المجتمع الدولي” وبإشرافه، وبوجود فريق لا يمثل الطبقة السياسية الحالية. أما حاجات لبنان الغذائية، فسيتلقّاها، في ظل وجود تصور لتعزيز وضع القوى العسكرية والأمنية لمنع حصول الانهيار الأمني وقيام الفوضى الشاملة.
خامساً: يتصرّف الفرنسيون بالعقلية نفسها التي دفعت جهات بارزة في بريطانيا، كما في الولايات المتحدة أيضاً، الى الحديث من جديد عن الحاجة الى وصاية دولية مباشرة على إدارة المرحلة الانتقالية في لبنان. ويصل الأمر ببعضهم الى الحديث عن ضرورة البحث في خيار فرض وصاية دولية ولو توجّب وجود فريق دولي يتولّى على الأرض ممارسة الإجراءات الكفيلة بالتزام تطبيق الإصلاحات كاملة.
لا تضخّموا الأمور
وسط كل هذه الأجواء، يخرج من بين الفرنسيين من يدعو الى عدم المبالغة في قراءة ما تقوم به الحكومة الفرنسية في هذه الفترة. بعض المتابعين من باريس يعتقدون أن الرئيس إيمانويل ماكرون في حالة إحباط شديد إزاء الأزمة اللبنانية، وهو سعى إلى استثمارها في معركته الداخلية، وأن خلية الإليزيه لم تعد تظهر حماسة كبيرة للقيام بأمور استثنائية ربطاً بعجزها عن إقناع اللبنانيين بتقديم حلول مختلفة… والأهم من كل ذلك، أن فرنسا بلد يواجه صعوبات كبيرة تمنعه من عرض عضلات تكلّفه إنفاقاً غير ممكن في لبنان ولا في غيره… ويصل الأمر بأحد الفرنسيين المتابعين لملف لبنان وعمل سلطات بلاده الى القول: إنهم كمن يجذّف في الهواء!