يكثر الحديث عن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وما تحمله هذه المفاوضات من إصلاحات مطلوبة لكي يموّل صندوق النقد الدولي خزينة الدولة. هذه المفاوضات تحوي على الكثير من الخطوات التي تعدّل سياسات القطاع العام وحتى الخاص من خلال قوانين وحوكمة رشيدة تؤثر إيجابًا على سلوك النخبة السياسية والمواطن.
من حيث الشكل، النظام اللبناني هو نظام ديموقراطي برلماني ليبيرالي، يتمتع فيه الفرد بحرية المبادرة التي تُعتبر أُسسّ النمو الإقتصادي والإنمائي. عمليًا يظهر النظام اللبناني بعيدًا كل البعد عن نصّ الدستور، إذ أن التوصيف الحقيقي للنظام اللبناني الحالي لا سيما في خضم هذه الأزمة مشابهته الى حد بعيد نظام الـ ”نيوباتريموناليًا” (Neopatrimonialism) وهو من الأنظمة التي كانت قائمة في الدول الأفريقية بين ستينات وتسعينات القرن الماضي.
قبل التعريف بنظام النيوباتريمونالي يجدر بنا التعريف بنظام الباتريمونالي أو ما يُعرف بالميراث التقليدي. فبحسب “ماكس ويبر” هذا النظام هو عبارة عن نظام حوكمة قائم على السيطرة التقليدية، القائمة بحدّ ذاتها على مفهوم عدم الفصل بين العام والخاص، وبالتالي تأتي كل السلطات من الزعيم. ويُمكن وصف هذا النظام بنظام مركب بين متغيرات عشوائية وتقاليد تعكس سيطرة الزعيم إلى حدود أبعد من القرابة، وتشمل عادة أنظمة أوتوقراطية أو أوليغارشية تستثني من الحكم الطبقات الإجتماعية الفقيرة والمتوسطة. وفي ظل هذه الأنظمة، يكون ولاء القوى العسكرية للزعيم وليس للأمة.
Ads by optAd360
يفرض مفهوم “عدم الفصل بين العام والخاص” في النظام الباتريمونالي تداعيات على عمل النظام نذكر منها: الفساد الإقتصادي، الفساد المرتبط بالتبادل الإجتماعي، الزبائنية، المحسوبية، الأبوية، الأحقية في مداخيل الدولة… كل هذه المفاهيم تدخل ضمن مفهوم الباتريمونالية.
النظام النيوباتريمونالي أو ما يُسمّى بالميراث الجديد هو نظام هجين يدمج البانريمونال مع المؤسسات القانونية والعقلانية المُستعارة من مفهوم الدولة الحديثة. بتعبير أبسط، هو نظام من تسلسلي هرمي إجتماعي يستخدم فيه المستفيدون موارد الدولة لتأمين ولاء الأفراد من عامة الشعب، وتعتبر هذه العلاقة علاقة غير رسمية بين الراعي (الأب) والمواطن (الإبن) ويمكن أن تمتد من مستوى عالٍ جدًا في هياكل الدولة إلى مستوى الأفراد في القرى.
ويرى الباحث كريستوفر كلافام في كتابه “طبيعة دولة العالم الثالث”، أن النظام النيوباتريمونالي هو ”شكل من أشكال التنظيم الذي تسود فيه العلاقات ذات النوع الباتريمونالي الواسع في نظام سياسي وإداري مبني رسميًا على خطوط عقلانية قانونية” وتُستخدم فيه السلطة من أجل المكاسب الشخصية بدلاً من الفصل القاطع بين المجال الخاص والمجال العام.
الاستقرار الديمقراطي والنيوباتريمونالي
مما لا شكّ فيه أن الزبائنية السياسية هي المحرك الأساسي للحكم في لبنان والعمود الفقري للثقافة السياسية اللبنانية. فترسيخ الدولة بشكل جيد فرض على السلطة السياسية توقيع عقد إستقرار إجتماعي مبني على تجارة الولاء السياسي من خلال تبادل الأشياء التي تعود بالفائدة على طرفي الإتفاق. وتتعدد مظاهر هذه الظاهرة بقدر ما هي معقدة.
رافقت الزبائنية عملية ترسيخ الديمقراطية وساهمت في الاستقرار السياسي، وهو ما نراه في قدرة السلطة على إدارة الأحداث التي ترافق تبادل السلطة (تغيير حكومي أو رئاسي). لكن بالتوازي كان هناك عملية تحفيز لتكوين مجموعات وإثرائها بحيث تكون قادرة على المساومة وعلى مشاركتها في دوام إعادة إنتاج النظام الاجتماعي والسياسي القائم. هذه الممارسات النيوباتريمونالية القائمة على الاستخدام الخاص لموارد الدولة، والتعايش بين القواعد الرسمية وغير الرسمية لممارسة السلطة، والخطوط غير الواضحة بين المجالين العام والخاص وهياكل الهيمنة واحتكار الثروة، لا تفضي عمومًا إلى التنمية وتطور المجتمع!
التكيف الهيكلي والأزمات وفقدان شرعية الدولة
منذ الإستقلال والدولة اللبنانية تُعاني من آفة الفساد، آفة حاول معها الرئيس فؤاد شهاب وضع أطر قانونية للجمها. الصراع الذي نشب بين أركان الدولة أنذاك أوصل البلاد إلى الحرب التي فهم معها المتقاتلون أن الإستمرار بها غير مُمكن وبالتالي نشأ من بعدها عقد إجتماعي وسياسي جديد هدفه تعبئة كل الموارد لترسيخ الوحدة الوطنية وتعزيز التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلا أن الممارسة أفقدت الدولة جوهرها الاجتماعي، وبالتالي شهدت تراجعًا في أداء الحوكمة، وضعف الخدمات الإدارية بشكل كبير، وتدهور مرافق الخدامات العامة في مجالات الصحة والتعليم والنقل والصحة والسلامة.
هذا النظام الذي إستمر منذ التسعينات وحتى العام 2019، بإنهيار النظام الإقتصادي الذي تميّز بسيطرة الدولة عليه وعلى هياكله! وهنا يظهر أن التكيف الهيكلي والأزمات التي عصفت بالبلاد في هذه الفترة، لم ينجح لا بل أفقد الدولة شرعيتها الشعبية خصوصًا مع زبائنية سياسية أصبحت أكثر من قاتلة. واليوم يُطرح سؤال جوهري حول وظائف الدولة خصوصًا أن هناك إستحالة مادية لتوسيع رقعة المستفدين من هذه الزبائنية.
التناطح بين القوة السياسية والاقتصادية
تُشير التحاليل التاريخية أن التفاعل بين السياسة والاقتصاد في النظام النيوباتريمونالي اللبناني يوصل إلى نتيجة رئيسية وهي “الإنتشار الكبير للسلوك الريعي بين النخب (العامة والخاصة) المهيمنة منذ الطائف وحتى اليوم”. ويُمكن القول أن القوى السياسية عمومًا تميل إلى إتباع مسار يسعى إلى الجمع بين الإثراء الخاص على حساب الصالح العام من ناحية والبقاء السياسي من ناحية أخرى (ترابط كبير بين المنطقان).
ويقول سياسي سينيغالي (وقد سبق للسنغال أن عانى من نفس آفة لبنان): “هدف الفساد ليس فقط الإثراء والإستمرارية الإقتصادية. إنه منهج سياسي بعمق من حيث أنه يهدف إلى ضمان البقاء السياسي للقادة! فالقضايا السياسية والاقتصادية لا تنفصل لأنها تتطلب موارد اقتصادية للحصول على الموارد السياسية والعكس صحيح”.
وعلى صعيد أخر، يقول الباحث الفرنسي “بوي” في دراسة حول الآليات الاقتصادية في السنغال: ”تحالف المصالح الذي رسخ الدولة منذ الاستقلال يجب أن يُسمح له بالانهيار لأن كلفة تضخم الزبائنية لا تُحتمل مالياً”. ولعل هذا المقال هو أصدق وصف لحالنا اليوم لكل متدبر.
الجدير ذكره أنه وفي سياق تحليل الاقتصاد السياسي، مفهوم الريع يعني الدخل الناتج عن امتياز وصول النخب إلى الموارد وحالات إحتكار ذات منبع سياسي.
القبول الاجتماعي لممارسات الحكم السيئة
إذا كانت محطة 17 تشرين قد أظهرت حجم عدم الرضى الشعبي عن الأداء العام، إلا أن المفاجأة هي من الغضب المحدود نسبيًا للرأي العام حاليًا خصوصًا مع الواقع المعيشي الصعب. وبحسب باحثين في علم الإجتماع، قد يكون السبب خلف هذا السكون نوع من “الاستقالة”. في الواقع النموذج الثقافي السائد في لبنان يستجيب بشكل ضعيف لقيم وفضائل المواطنة.
ويُشير تحليل الوقائع إلى أنه على الرغم من وجود سلطات رقابية، إلا أن هذه السلطات مُغيبة بشكل أو بآخر من خلال الزبائنية السياسية. ويُشير التحليل إلى أن ضعف هيكلية الضوابط والتوازنات الإجتماعية (تكتل مواطنين) لا يرتبط ببساطة بنقص الوسائل والقدرات، بل أيضًا بالإستراتيجية التي تعتمدها النخب الحاكمة لإضعاف هذه الضوابط والتوازنات.
التأثيرات على السياسات العامة ونوعية الإنفاق
نظام الزبائنية هذا يعتمد إلى حد كبير على الوصول إلى الريع وتوزيعه على أساس الزبائنية الساحقة. ويُمكن الجزم أن تأثيره ضار على تنفيذ السياسات العامة في المجال الإقتصادي والتنمية. فمثلا يُصبح بناء جسر أو سد هو خدمة تُظهر كرم الطبقة الحاكمة تجاه المواطن يكون مقابلها تبادل الخدمات السياسية. أيضًا يُمكن إعطاء مثال الموازنة التي لا تبنى بهدف الإنماء الإقتصادي إضافة الى غياب الخيارات العقلانية فيها وصلابة هيكليتها والرقابة على تنفيذها.
ما هي احتمالات التغيير في نظام الحوكمة؟
يُمكن للنظام النيوباتريمونالي أن يكمن وراء( أو يحل محل) الهيكلية البيروقراطية للدولة بحيث أن الذين لديهم علاقات هم من لديهم القوة الحقيقية وليس أولئك الذين يشغلون مناصب عالية في الدولة (كمثل حالة إلغاء ضبط سيارة في أيامنا هذه). وبالتالي نجزم أن هذا النظام يُقوض المؤسسات السياسية وسيادة القانون ويُشكل ممارسة فاسدة وحتى ولو كانت قانونية في بعض الأحيان.
المفاوضات مع صندوق النقد الدولي المنوي القيام بها في الأيام والأسابيع القادمة، ستركّز على نظام الحوكمة من بابه الإقتصادي والمالي. وبالتالي تُطرح الأسئلة عن قدرة القوى السياسية على الموافقة على التغيير والعبور من نظام نيوباتريمونالي إلى نظام ديموقراطي فعلي؟ فالإصلاحات التي سيطلبها صندوق النقد الدولي ستطال آليات عمل الدولة بالكامل وهو ما يفرض إلغاء الزبائنية السياسية على كل مستوياتها. فهل يُمكن للقوى السياسية الحاكمة أن تقبل بالقيام بإصلاحات تُطيح بأحاديتها في الدولة؟ سؤال مشروع في ظل غياب بوادر إيجابية على المستوى السياسي. على كل الأحوال هناك إستحقاق جوهري قادم وهو ملف التعيينات، فهل سيكون بمقدور الحكومة القيام بهذه التعيينات على أسس عملية أم أن الزبائنية السياسية ستُكمل طريقها إلى ما لا نهاية؟
وحدها الأيام المقبلة قادرة على الإيجابة على هذا السؤال!
الرئيسية / صحف ومقالات / الديار : أبعاد الإصلاحات المطلوبة دولياً ستُطيح بنظام “النيوباتريمونالية” القائم… هل من استجابة رسمية؟ الزبائنية السياسية تُعطّل السياسات الإقتصادية والإنمائية… والتخلّي عنها خشبة الخلاص المواطن اللبناني في حال “إستقالة”… والقوى السياسية تُقوضّ المعارضة والرقابة الشعبية