كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: في سياق داخليّ خارجيّ متوقع، طويت صفحة صندوق النقد ضمن استراتيجية أميركية واضحة لإحلال «برامج دعم» تتصيد المواطنين بالمفرد وتقيدهم وتربط مستقبلهم بمزاج الداعمين، محل برامج الصندوق التي تقيد المواطنين والبلد بالجملة وتربط مستقبلهم بمزاج الأجندة الأميركية
في سياق داخليّ خارجيّ متوقع، طويت صفحة صندوق النقد ضمن استراتيجية أميركية واضحة لإحلال «برامج دعم» تتصيد المواطنين بالمفرد وتقيدهم وتربط مستقبلهم بمزاج الداعمين، محل برامج الصندوق التي تقيد المواطنين والبلد بالجملة وتربط مستقبلهم بمزاج الأجندة الأميركية
الواضح في هذا السياق أن كل ما يحصل منذ 17 تشرين الأول 2019 مرسوم بدقة: من قرار إقفال المصارف، إلى قرار التصدي للـ«كابيتال كونترول»، والدفع إلى عدم دفع الديون بدل إعادة جدولتها، إلى توفير الذرائع المتواصلة لعدم اتخاذ أي قرار إنقاذي مع رمي المسؤوليات تارة في ملعب المصارف، وأخرى على هذه الكتلة النيابية أو تلك، وثالثة على حاكمية مصرف لبنان، ومرات على مجلس الوزراء، وإضاعة كل هذا الوقت لاستجداء موافقة صندوق النقد. علماً أن كثيراً من القوانين الإصلاحية أُقرّت فعلاً في المجلس النيابي، لكنها لم تقدم أو تؤخر لأن السلطات التنفيذية والقضائية والمالية والأمنية المعنية بتنفيذها لا تجد نفسها ملزمة بذلك، ولا يوجد من يحاسبها… وهذا ما يقود إلى الاستنتاج بأن صفحة «إنقاذ صندوق النقد للبنان واللبنانيين» طويت حتى إشعار آخر، ما يبقي للبنانيين 3 خيارات:
الأول، وضع حد للخفة المستحكمة بكل مواقع المسؤولية، موالاة ومعارضة؛ ووضع رؤية اقتصادية تحدد إمكانيات الدولة وموجوداتها (من الذهب إلى النفط إلى الأملاك) ومداخيلها لمفاوضة صندوق النقد أو غيره من موقع قوة. مع قرار سياسيّ نهائيّ مشترك بتطبيق القوانين وإجراء الإصلاحات الطارئة اللازمة. وهذا ما يستلزم انتخاب رئيس جمهورية، وتشكيل حكومة من دون إضاعة عام أو عامين في مناكفات الأحجام ثم تعطيلها بذرائع مختلفة.
الثاني، فعل كل ما يلزم لاسترضاء الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، لتعود العقارب إلى زمن باريس 1 و2 و3 وتعويم الدولة اللبنانية بنظامها وشعبها، بغض النظر عن الفساد وسائر الموبقات. علماً أن استرضاء الخليج اليوم لا يقتصر على النأي بالنفس عن مشكلات المنطقة إنما يمر بضمان أمن إسرائيل أيضاً.
الثالث، تحويل حزب الله خطاباته عن الصين، مثلاً، من أقوال إلى أفعال، مستفيداً من عدم قدرة خصومه على التعطيل إذا ما قرر المضي قدماً في هذا الاتجاه. مع العلم أن تطوير البنية اللبنانية التحتية والمطار والمرافئ ووصل سكة الحديد اللبنانية بعيد تأهيلها بحمص أو الشام، بشراكة صينية، جميعها من صلاحية وزير الأشغال علي حمية. ولا شك أن خصوم الحزب سيلزمون الصمت كما حصل عند وصول النفط الإيراني إذا ما نجح في إقناع الصين بضخ بضعة مليارات من الدولارات في الاقتصاد اللبناني، مع وجوب شرح كيف وأين انتهى التداول في النفط الإيراني، ولماذا لم تقدم روسيا على استثمار رمزيّ أقله في قطاع صناعة الدواء على رغم قيام وزير الحزب السابق حمد حسن بكل ما يلزم لبناء مصنع للقاحات سبوتنيك؟
تنبغي الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والخليج تنفق نحو مليار دولار سنوياً للحفاظ على نفوذها في لبنان، فيما لا تبدي بكين وموسكو أي اهتمام ببناء أي نفوذ، لا بل سارع عملاق النفط الروسي إلى التخلي عن حصته ضمن ائتلاف التنقيب في لبنان لمصلحة الشركات القطرية، من دون أن يقدم على تطوير استثماره لخزانات الشمال بعدما تحدّت وزارة الطاقة الولايات المتحدة في منحه هذا الامتياز الاستراتيجي.
وإذا كان الخيار الأول صعباً جداً أو شبه مستحيل، والخيار الثاني غير وارد، والخيار الثالث تنقصه الإرادة الصينية والقدرة الروسية قبل الإرادة والقدرة اللبنانيتين، فإن الأكيد أن كل ما رسم اقتصادياً عبر الأدوات المتنوعة بدأ يؤتي ثماره لجهة الإفقار الممنهج المدقع قبل ربط العسكريين مباشرة بالحلم الأميركي بمئة دولار، والأسر الأكثر فقراً بثمانين أو مئة وعشرين دولاراً، في سلسلة برامج ستشمل قريباً الدواء والغذاء والمياه. وإذا كانت فرص العمل قد باتت محصورة منذ أكثر من خمس سنوات بجمعيات المجتمع المدني الممولة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بعد تدمير القطاعين العام والخاص، فإن فرص الصمود واستمرار الحياة للمواطن العادي تنحصر يوماً تلو الآخر أكثر فأكثر بما يوصف ببرامج الدعم الممولة هي الأخرى من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بعد أن حول الاقتصاد اللبناني من اقتصاد ريعي مفترض إلى اقتصاد يقوم على برامج الدعم للهيمنة بفتات الفتات. والأكيد في هذا السياق أن المقاربات التي تبشر بإعادة نظر أميركية – أوروبية – خليجية في هذه السياسات، بعد أن تيقن القيمون عليها بعدم جدواها، غير دقيقة أو واقعية أو منطقية، لا بل العكس تماماً، إذ تعتقد الولايات المتحدة وأوروبا والخليج أن فاتورتها في لبنان انخفضت، بعدما تخلص هؤلاء من السماسرة الذين كانوا يتقاضون عمولة هائلة لربط المواطنين بهم مباشرة – والمقصود هنا بعض الموظفين في المؤسسات الأمنية – في ظل انهيار مؤسساتي يسمح لهم بتحقيق اختراقات جوهرية على صعيد الإدارة و«الداتا» والبرامج التشغيلية للإدارات، وفي ظل معلومات تؤكد أن دافعي الضرائب في الولايات المتحدة لا يسمحون بانتفاع أي مواطن لبناني سواء كان عسكرياً أو غيره من برنامج المئة دولار ما لم يكن مؤمناً بـ«قيم الولايات المتحدة» في ما يخص الديموقراطية و«محاربة الإرهاب»، تماماً كما يحصل في الجمعيات على صعيد التوظيف والاستفادة من المشاريع. وإذا كان الحزب قد نجح في تحصين بيئته ضمن الطائفة الشيعية، فإن المقاربة الأميركية تقول إن البيئة الحاضنة للحزب كانت شيعية ومسيحية ودرزية، فيما هي شيعية فقط اليوم، وهو انتصار مهم في المرحلة الأولى من الحصار التي يفترض أن تتبعها ثانية وثالثة