كتبت صحيفة “الأخبار”: صدمة كبيرة أصابت مسؤولاً أميركياً كان في عداد فريق وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي وصل على عجل إلى إسرائيل. وعندما سأله زملاء عن الوضع، قال «صاحب الدار جُنّ».
كل عبارات التضامن لا تحجب استنتاج الوصيّ الأميركي بأن عليه ممارسة دور مختلف في هذه اللحظة. صار على أميركا التصرّف كـ«أبٍ» وليس كـ«أخٍ أكبر». المؤرّخون والمعلّقون وقدامى المحاربين في كيان الاحتلال تحدثوا عن لحظة خاصة لا تشبه ما مرّ معهم منذ 75 سنة. تهدئة المجنون تطلّبت تركه يصرخ ويضرب في المكان. لم يكن أحد في العالم يفكر في مناقشة إسرائيل حول ردة فعلها الأولى على ما حصل. كان الجميع يشاهد قادة العدو يسيرون على غير هدى في الأروقة والردهات، ويسمعون المسؤولين العسكريين يطلبون الفتك بأيّ عربي. أما العقلاء، على قلّتهم، فكانوا ينقلون تحذيرات الى الأميركيين، وإلى المؤسّسين في أوروبا، يطلبون منهم العون، والقدوم سريعاً للتدخل، ليس فقط لحماية إسرائيل من أعدائها، بل لمساعدتها في اتخاذ القرارات الصائبة.
على المقلب الآخر، كان الفلسطينيون يعيشون لحظة تحلّل من كل التزام. عكسوا في ساعات قليلة حال «الرجل الذي ذُلّ حتى نفد صبره». لكن عائلته الكبيرة سارعت الى مساعدته على الهدوء قليلاً، وهضم صيده الكبير، والاستعداد لليوم التالي. وبخلاف الهذيان الغربي الذي فاق جنون أبناء الكيان أنفسهم، تصرّف قادة محور المقاومة بعقل بارد. لم يُخفِ أحد منهم دموع فرحه بإنجاز ما لم يكن متخيّلاً، لكن أحداً من هؤلاء لم تأخذه النشوة، وجلّهم بدأوا يفكرون في كيفية حماية هذا الإنجاز، وفي جعل ثمنه أقل قساوة على أهل فلسطين.
خلال 18 يوماً، يمكن القول إن الارتجال كان القاسم المشترك في كل ردود الفعل من جانب العدوّ وحلفائه: برامج وأهداف وتصوّرات يجري تبديلها كحال البورصة. رهانات فوضوية لا تستند الى وقائع صلبة. وفي هذه الأثناء، لم يجد الغرب إلا أن يترك «صاحب الدار» يواصل انتقامه العشوائي، والضرب بجنون دموي لا سقف له.
لكن المشكلة أن العدوّ نفسه، ومعه حلفاؤه، لا يجدون سبيلاً لحصاد ممكن لهذا الجنون. وليس هناك ما يمكن صرفه على شكل انتصار لردّ الاعتبار أو استعادة الردع. سادت الفوضى مكاتب الديبلوماسية الغربية. ونُقل عن مسؤول تركي أن مصر والسعودية والأردن لمست حجم الارتباك الأميركي، ما سمح لها برفع سقف اعتراضها على السير بمقترحات مجنونة لإرضاء إسرائيل. لم يقصد المسؤول التركي أن الغرب انهار كما حال إسرائيل. وهو لن يمنح قادة السعودية ومصر والأردن قلادة الشجاعة.،بل ما قصده أن الكلّ لمس حجم الارتباك في المواكبة الغربية الداعمة لإسرائيل.
خلال أسبوعين، طرحت أفكار يمكن استعادتها الآن لفهم حركة القوس السياسي والعسكري للعدوّ وحلفائه: بدأ الأميركيون بترك إسرائيل تنتقم من دون سؤال. ومن سألهم التعاون، طلبوا منه التفكير في خطوة تمنح العدو نصراً واضحاً. عندها، سُحبت من الأدراج فكرة تهجير أهل غزة الى سيناء قبل أن يتمّ التراجع عنها، ليُطرح التهجير الداخلي بقوة النار والحصار، مع تشديد على عدم فتح أيّ نقاش حول وقف إطلاق النار أو إدخال مساعدات إنسانية، مع تزويد إسرائيل بكل أشكال الدعم الأميركي، المالي والأمني وكميات كبيرة من الذخائر وحشود عسكرية في البحر. وصار الجميع يتحدث عن حق إسرائيل في الهجوم على غزة وتدمير حماس دون هوادة. لكن الأميركيين، كبقية الحلفاء، يعرفون أن الانتقام لن يعيد الأمور الى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر. ولم يعد بيد الجميع سوى البحث في الغزو البري، علّه يمنح العدو انتصاراً ينزله عن الشجرة.
لكن حال جيش الاحتلال من حال مؤسساته الأخرى. اهتراء أوجب تدخل أميركا بطريقة مختلفة. تجاهلت إدارة الرئيس بايدن كل نظرتها السيئة الى بنيامين نتنياهو وحكومته، وقرر «الأب» أن يحضر بنفسه. جمع كل الأولاد من حوله، نظر إليهم بعطف وغضب. لكنه قال لهم، بوضوح، إنهم ليسوا في وضع يسمح لهم باتخاذ القرار بمفردهم. طلب منهم إعادة تشكيل مجلس القرارات الكبرى، وأدخل من يثق به الى قلب مجلس الحرب، وأمعن في تقريع القادة العسكريين. ولم يكن بوسع أحد معاندته، وهم يعرفون أن في جيبه إحاطة استخبارية وعسكرية، أعدّها فريق مشترك من وزارة الدفاع والاستخبارات المركزية، وبين من كتبوها بعض من شاركوا في مناورات عسكرية مع العدو. وهي إحاطة أوصت رئيس الولايات المتحدة بضرورة الانتباه الى أن جيش إسرائيل غير جاهز لحرب كبيرة، ولا لتحقيق انتصارات مدوّية. كل ذلك دفع بايدن الى مخاطبة قادة إسرائيل، محدداً السقوف بوضوح: ستأخذون فرصة إضافية لتنفّسوا أكثر عن غضبكم بالمدنيّين في غزة من دون تدخل من أحد. لكن تصرّفوا بطريقة ذكية. وفي الوقت نفسه، أعطوني لائحة أهداف قابلة للتحقّق، وخططاً قابلة للتنفيذ، واستعدّوا للإجابة عن سؤال اليوم التالي، وتذكّروا أن الخراب الذي حصل لا يمكن تجاوزه في أيّ مقاربة سياسية للأزمة لاحقاً، من دون تنازل ما!