كتب وزير الشباب والرياضة في حكومة تصريف الاعمال الدكتور جورج كلّاس في صحيفة النهار:
إعلام الكرسي الهزَّاز و مخاطر اللعب بالسلطة
لكل سلطة كرسي يتوافق و كيانيتها الدستورية ..!
اما السلطة الإعلامية ، فكراسيها متنوعة و ذات توصيفات تحوّلية ، تتماشى مع تبديل البوصلة السياسية ظَرفيّاً و غبّ الطلب و إستجابة المواقف.
و سؤال المرحلة في اعاصير الأزمات السياسية و إفرازاتها الأمنية و المجتمعية الكثيرة التي تضرب إستقرارنا النسبي هو ، هل للإعلام اللبناني ، بطبيعتَيْه الرسمي و الخاص ،عقيدة تربًَى عليها و يؤمن بها و يحملها و يدافع عنها ؟ و الى أي مدى يمكن لهذا الاعلام ان يواكب بمسؤولية الظروف الضاغطة في ازمنة الحروب و النزاعات و يتخذ موقفاً حراً و واضحا من القضايا الساخنة ، و يُسهِمَ بتقديم الأفكار و صياغة هندسات الرأي و صناعة مشاريع الحلول الممكنة للخروج من المآزق و إتقاء النوازل ؟
و يستتبع هذا السؤال المحوري تساؤل حاد عما اذا كان الإعلاميون اللبنانيون ، في خلال ممارستهم لمهامهم ، يجلسون في غرف التحرير على مقعد وثير يحرضهم على التنظير و اطلاق الاحكام عن بعد ، و كأنهم محللون نفسيون و خبراء إنتقاديون و اوصياء حصريون على المعرفة ، رغم تغربهم عن الواقع و بعدهم عن الميدان ؟ أم أنهم يرتاحون على كرسي هَزّاز ؟ أو يقبعون في الخنادق و يسهرون على الجبهات و يتأهبون لتغطية معارك المواجهات و حروبها بإعتبارهم رسل الحقيقة و صنَّاع رأي و شركاء فاعلين في الميدان ، لا ضيوف شرف و لا ابناء الصدفة ؟
إنها إضمامةٌ اسئلة جادة مأخوذة من طقوسيات مَراتِبِ معمودية النار التي يمر بها الإعلاميون في اختباريات الميدان و إحترافيات الاعلام الساخن ، التي تضغط كلها على المشتغلين بالمهنة و تجعل منهم في لحظات الذروة نجوماً بالنسبة لبعض المشاهدين ،او أبطالاً عند فئة من المحللين ، او تصنفهم ضحايا حرب بين المتقاتلين .
ثلاثُ وضعياتٍ لأنماطِ و أشكال و فاعلية كرسي السلطة الإعلامية هي الثابت و المتحرك و الهزّاز . و لكل وضعية من وضعيات هذه الكراسي خصوصياتها و تقنياتها و إستهدافاتها المركزة .
و يتحدد دور الكرسي الثابت ، كمنصة لها حضورها و ديمومتها و ذات اصول مؤسساتية ، و من حيث انها منبر إخباري تعريفي له طابع الاستمرارية ، بأن ثبات الكرسي نانج من رسوخية خطها و ينبع من كيانية المؤسسة الإعلامية و رصانة شاغل الكرسي و علميته و مسؤوليته عن حماية المستعلِم و تعليم الحقيقة و السعي الى صحة المعلومة و دقتها ، فضلاً عن ميزة الإلتزام المهني و صراحة الانتماء الى سياسة الوسيلة و توجهاتها . و هذا ما يفسر تصنيف الثبات و يزيد من نوعيته و يؤكد مرجعية المعلومة و موقع الاعلامي .
أما مقاربة وضعية و قُدرة الاعلامي المُقعَد تجوّزاً على { الكرسي المتحرِّك } من ملاحقة المعلومة و التحقق من دقائقها ، فتكون مقيَّدة بحالات التعوُّق التي تشل قدرته و تفقده تحقيق السبق الذي يريد الوصول اليه و تحول دون تسجيل براءة اختراع به ، مع الإقرار بنسبية إنجازاته الميدانية التي تعوزها حرية الحركة و الذهاب بعيدا الى المدى الذي يريد . و يتظهر هذا النمط في اشكال الاعلام المقيّد الذي تعوزه الجرأة و تنقصه حرية المبادرة و يفتقد الى مسؤولية القيادة . و أشبه ما يكون ذلك في انواع الاعلام الموجه و الممسوك و اشكال الاعلام الرسمي و العام ، خصوصا عندما تمسك المؤسسة بهامش الحرية المعطى و تحدد المعيار المسموح للاعلامي العمل في نطاقه ، مع تركيز على توافر حرية التفكير في و أسبقيتها على حرية التعبير ؛
أمًا النمط الأكثر شيوعا و خطورة ، في زمن الازمات و ملاحقة إرتداداتها و الذي يزيد الإكثار من تشظياتها ، فهو إعلام { الكرسي الهزَّاز } الذي يستقله ضيوفٌ من ذوي التخصص الضعيف و المعرفة الناقصة و الثقافة الهشَّةِ ، او يحتله محللون إستراتيجييون و خبراء الصُدْفَة ،المدفوعة اجورهم سلفاً و الذين يتقنون مهارة التحدث بما يعرفون بعضه و بما لا يعرفون منه شيئا ، فيستحيلُ مَنْ يسمعهم لاول مرة ، قبل اكتشاف ضعفهم ، ضحية لجهلهم و إدعائيتهم و تكراريتهم المحورية ، بحيث انهم يجلسون على كرسي هزاز نمطي الحركة ، فيهزًون الى الامام و يهزون الى الخلف ، و يبقون مطرحهم ينظِّرون و يتحدثون و يجترون و يدعون و يتشاوفون من دون ان يقدموا أي معلومة او يتقدموا خطوة أو يعطوا موقفاً فيه منسوب من صوابية الرأي و القدرة التحليلية الواقعية. تلك هي وضعية الهز ، الذي يتحرك و يبقى مكانه ، و يقول و لا يقول .
و تتركز أبرز التساؤلات التي ترافق حالات اللإستقرار السياسي حول وظيفة و موقف الاعلام الرسمي و الخاص و دورهما في تمكين الموقف الوطني العام من حماية القضية و صناعة الرأي الداعم للحالة الاجتماعية و الأمنية التي تترافق مع الظروف النزاعية المؤثرة على البلد . و ينسل من ذلك تضافر مفاهيم تشكل مداخل ضرورية لمقاربة أي وضع و تحليله وفق قواعد الموضوعية الملتزمة بالسعي الى تقصي الحقائق و إعلانها بأسلوب إقناعي بعيد عن إنفعالية اللحظة و الإسقاطات الساخنة و التنبؤات القاتلة . و هذه من ابرز خصوصيات الإعلام الحرّ ، بأن يكوِّن رأيا عاما واعيا لمسؤولياته ، من حيث هو شريك في التوعية المجتمعية و التشجيع على أخذ المبادرات الجريئة و الحكيمة و حمايتها من اخطار الإدعائية و الارتجالية و عدم التخطيط .
ان الوقاية من اخطار اعلام الكرسي الهزّاز هي مسؤولية مشتركة بين المؤسسات الاعلامية و النقابات القانونية الناظمة لعمل المهنة ، و الاعلاميين الواجب ان يتحصنوا بعلمية تخصصية عميقة و ثقافة احترافية واسعة ، تمكنهم من تفكيك الخبر و تحليل جزئياته على وقع الحدث و ترقب تداعياته بعيدا عن إدعائية التوقع و اخطار التنبؤ القاتلة للحقيقة و للصدقية..!
المصدر: صحيفة ” النهار ” – الخميس 3/11/2023