كتب مدير عام وزارة الاعلام الدكتور حسان فلحه في صحيفة “النهار” بتاريخ اليوم الاربعاء 26-6-2024 وتحت عنوان “”المجتمعان” الوهميان ووعاء الحياة”:
عندما تصاب المجتمعات بداء التعود على اكتساب العادات الهجينة وتعيد انتاج التقاليد الاجتماعية والدينية والثقافية وفق انماط مختلفة عن المألوف ومغايرة عن المعهود ، متلازمة مع عِقَد استخدام عناصر التفوق الذهني و النفسي لاثبات الذات القلقة والحائرة لا لمجاراة التطور والتقدم ، فان الاسباب وراء ذلك قد لا تبدو مبررة البراهين او جاهزة الحجج للدفاع عن حالات العنف البشري و التشنج العصبي و العداء المقيم بين الذات والاخر او بين اركان المجتمع الواحد ذي التشكيلات المتنوعة ، واقله بين الدولة بمؤسساتها والجماعات الملحقة بها .
وتتسلل الى أدبيات الثقافة المحلية مفردات غير ظرفية الحسبان او عابرة الادراك ، ولكنها ذات وقع جذاب وآسر تستكين الجماعات للركون اليها هربا على الاحوط من ذات ضيق الحال لتجد متنفسًا واسعا و مآلا رحبا ذا امتدادات خارجية ، فضفاضة الحجة و واسعة الاسس في التحديث البنيوي لتستجير بها على كينونتها المعهودة الجمود ، العقيمة التطور ، المنكمشة على الفشل في ادراك الحلول لأزمات اجتماعية وثقافية وتربوية واقتصادية وسياسية ودينية تغرق في تفاصيلها المجتمعات المحلية .
فمن الطروحات الجذابة ذات الشعارات الصادحة والساطعة للمتغربين ، الق “المجتمع المدني ” وشهوته الذي يشكل عنوانا براقا لسد حاجة العوز الفكري ويؤخذ كمسّلمة لا يمكن المساس بها او التناوط في طرح الاسئلة حولها ، هذا التقديم ل “المجتمع المدني” يحمل في طياته عنصرية متزمتة ، مزمنة الحال و مستجدة الحضور ذات عقد نقص شديدة ، وتتضمن بذور عداوة عميقة الجذور سريعة النمو والانتشار. ولاسيما عندما تستعر مراجل “الحركات الشعبية “او تنشب ” الحالات الثورية ” في الازمات التى تستبيح كل شيء وتلوذ الى اصدار الاحكام المبرمة في العقاب الجماعي بحق الكل. ومن دون استئذان او استثناء فتوغل في افراط النقاء من الطروحات والافكار مقابل شيطنة الاخر.
البعض يرفع شعار “المجتمع المدني ” وكأن هناك مجتمعا عسكريا او امنيا او دينيًا طاغ في سيطرته مقابل مَدَنية او مَدِنية ، تتصف برابط الاجتماع ضمن حدود المكان وتحت ظرف الزمان . و تُسقط رؤية ابن خلدون للمجتمع ككيان اجتماعي يتفاعل بعوامل الدين والثقافة والاقتصاد والسياسة و التى حابه بها الفيلسوف الفرنسي شارل مونتسكيو بعد اربعة قرون بالاقرار بحتمية التاثيرات الاجتماعية على السياسة والتاريخ ، فاراد نظاما للفصل بين السلطات لا الفصل بين المجتمع واركانه ، وان لم يصل الى تصنيف نشوء تطور المراحل الزمنية للمجتمعات كما رآها ابن خلدون ، من المجتمعات البدائية الى المجتمعات المتقدمة . و ايا يكن ، فان مجتمعا حضريا ريفيا قد تتناوب على سيرورته خشونة العيش و شظفه ، او بساطته بين ابنائه لا يصلح اطارا وعائيا لحياة هؤلاء المتنمرين في فوقية تخيلاتهم الطوباوية في الحكم بين الناس والحكم عليهم .
ومهما كان مصدر هذة التسمية المفرطة في المراوغة عن قصد او غير قصد في المعنى الحقيقي ، فإنها تولد نشوء محدب الحجم من المثالية ، او ارتقاء لافكار مستبدة في طروحاتها على حساب افكار سائدة . اذا هي نتيجة محنة الفكر الانساني المتشبث باطلاق الاحكام المبرمة في جلاء الطرح على حساب عدمية الاخر ونزع اي صفة حضرية او مدنية عنه لتداخل عناصر غير متوافرة عند اصحاب طرح “المجتمع المدني ” ، الذي يحاول بعضهم غالبا توسيع الهوة في مكانة الشرعية بين الحكومات وبين مجتمعاتها المختلفة وتعكس فعليا فكرة النزعة الانفصالية و التميز عن الدولة والحكومات ..
وليس غريبا في “بوهيمية ” هذه التسمية انها تتشارك العبارة “السيامية ” مع مصطلح “المجتمع الدولي ” الذي ينبىء عن وهمية مفرطة التجميل في ابراز دور الحاكم والسائد من خلال زرع المفهوم المتأرجح للعدالة التى تغدو احيانا تساويا في الفقر بين الجميع وتفاوتا في الغنى بينهم ، وغرسه (المفهوم ) ، كلازِمَةٍ حتمية ، فمن اجاز ان يختصر “المجتمع الدولي ” بتعاريف تحصرها الدول الكبرى السائدة ؟ وما حدود هذا المجتمع الذي لا تعريف له ؟ سوى تعريف افتراضي لاجتماع دول فارعة القوة ، فارهة السطوة والسيطرة ازاء كل قضية من القضايا الدولية ، فهو وهمي الشكل والمضمون ، فاقد الصفتين ، حمّال الاوجه والريبة عند اطلاق الدول المسيطرة ، معايير اخلاقية و قِيّمية غير متوازنة الاحكام والقواعد تخدم مصالحها وتنحاز لها ، هذا “المجتمع المدني ” يضمر حسن المعنى من دون التمكن من اسقاط سوء المقصد والفعل . مثل السعى لاعلاء شأن حقوق الانسان او فرض سيادة القانون ، عندها تضاف الى وهمية المنشأ والوجود المرتاب ، ازدوجية المعايير وتعددها الناتج عن الانفصام الاخلاقي لدى ارباب المجتمعين “المدني “و ” الدولي” ، و المنادين بلا هوادة حتى انقطاع النفس بهذه الشعارات الايديولوجية التى ما اكترث لها افلاطون بتاتا حتى في هوامش طروحاته الخالدة عن مدينته الفاضلة . ان الانسان متعدد الادوار على مسرح “المجتمعين الفاضلين ” يصنع اخلاقيات من وهم يبدأ في تقديسها وعبادتها حتى يلامس في طوباويته حدود الايمان و الإلحاد معا قبل ان يرتد عند خيبته الى التوبة في الحكم على القضايا الانسانية الكبرى كتلك التى تعيشها غزة بقطاعها الذي تمكن سكانه من الاستدارة من اتون القتل والابادة ليحاكم هذا “المجتمع المدني الدولي ” عن سوءاته المريضة الانفصام ، السقيمة الطروحات ،الخائبة الظن . ان الانسان في قتله المروع في غزة استفاق على كذب انصار حقوق الانسان البارعي التمثيل على المسرح الدولي والاجادة في التفنن باساليب الكذب و زيف الايمان و وهن المعتقد ولاسيما عند الذين يلوذون بصمتهم المطبق عند ارتكابهم جريمتين موصوفتين في ان معا عن سبق اصرار وتصميم ،جريمة العمد في الترويج لتخدير المجتمعات بشعارات فائقة التورية شديدة العهر .
والجريمة الاخرى ، ازدواجية الغياب والحضور في الزمان والمكان معا للمشاركة في ادوات الصمت عن ارتكاب جرائم الابادة والقتل عند عدم حضور الحاضرين .
هناك اجتماع اممي للاقوياء الذين يمثلهم مجتمع الاجيال الاتية في الغرب وجامعاته ، الذي يلعب دورا حيويا في نقل الافكار والتطلعات عن كشف تورية القتل الوحشي والتدمير الممنهج لمجتمع فلسطيني يعاني افراطا في الظلم والقهر والعدوان وسط “مجتمعين ” وهمين الاول دولي والاخر مدني …