بعد طول أخذ وردّ ومدّ وجزر ودوران في حلقات لا متناهية من اللجان والآراء الاستشارية، وجدت الحكومة ضالتها بورقة مالية وضعت لمساتها الأخيرة عليها أمس في السراي لتقرّها اليوم في بعبدا. وحتى منتصف الليلة الماضية لم يكن القيّمون على الخطة الحكومية يمتلكون جرأة المجاهرة بمضامين المسودة المزمع إقرارها وسط النفي لما يتم تسريبه من صيغ باعتبارها مسودات “خاضعة للتعديل”. وبانتظار ما سيتمخض عنه “العقل المدبّر” في دوائر الرئاستين الأولى والثالثة من خطة إصلاحية موعودة، تواصل كرة النار تدحرجها في الشارع لتتعالى معها هتافات التنديد بالطقم الحاكم الذي يدير عملية الإصلاح بينما هو نفسه من أوصل البلد إلى الحضيض اجتماعياً واقتصادياً ومالياً ومصرفياً، سيما وأنّ ما رشح عن المخطط الحكومي يشي، بحسب خبراء اقتصاديين، بأنّ الاتجاه هو نحو اعتماد “إجراءات موجعة” تتمحور حول تكبيد المواطنين كلفة الإصلاح المالي توصلاً إلى سدّ “الثقب الأسود” من جيوب الناس.
ووفق خبراء اقتصاديين اطلعوا على آخر مسودة، فإنّ المعتمد فيها يرتكز على نظرية “القفز من فوق الإصلاحات البنيوية المطلوبة في القطاعات الحيوية مثل الكهرباء والولوج بشكل رئيسي نحو القطاع المصرفي باعتباره “بيت المال” المتاح أمام الدولة لسد فجوة خسائرها الدفترية، وهو ما يتجلى بالاقتطاع من أموال كبار المودعين على وعد بإعطائهم أسهماً في المصارف وعائدات من الأموال المنهوبة إذا ما تم استرجاعها، فضلاً عن اعتماد سياسة ضرائبية تصاعدية ترفع من جهة الضرائب على الفوائد من 10% إلى 20%، ومن جهة ثانية تزيد الضريبة على الدخل بنسبة تصل إلى 50%”، وفي المقابل أشار الخبراء الاقتصاديون إلى كون خطة الحكومة تلحظ “تخصيص أصول الدولة والمؤسسات العامة لتقويم خسارات المصرف المركزي مقابل عدم تسجيل اتجاه حاسم نحو الاستعانة بصندوق النقد الدولي عبر اعتماد عبارة “في حال المفاوضة مع صندوق النقد” مع ما تختزنه هذه العبارة من ذهنية مستحكمة بأداء السلطة وتتهرب من خلالها من أي رقابة دولية على الإصلاحات المنوي اعتمادها بغية ضمان ديمومة سطوة نظام المحاصصة على مرافق الدولة رغم ما كبّده هذا النظام من خسائر للخزينة العامة، بالإضافة إلى فرض هيكلة ذاتية للنظام المصرفي تفرض إنشاء 5 مصارف جديدة فيما المطلوب إصلاح القطاع والدمج لتقليص حجمه”.
أما في ما خصّ الأرقام المدرجة في الخطة المالية، فتوقف الخبراء عند بناء الخطة على سعر صرف الدولار بقيمة 4297 ليرة في العام 2024 بينما هو اليوم تجاوز واقعياً هذه القيمة في سعر السوق، علماً أنّ هناك اعترافاً رسمياً في الورقة المالية بوجود تضخم بلغ مستوى 53% وبانكماش اقتصادي بقيمة 14%، مقابل التعويل بشكل رئيسي على مشاريع مؤتمر “سيدر” لإعادة استنهاض الاقتصاد الوطني.
وللدلالة أكثر على عقم الذهنية الحاكمة عن إنتاج حلول إصلاحية ناجحة وناجعة في عملية وقف مزاريب الهدر والمحسوبيات، كشفت مصادر قانونية في الحراك المدني لـ”نداء الوطن” عن اتجاه الحكومة إلى تجديد ولاية محافظ بيروت زياد شبيب رغم كل ما أحاط أداءه من شبهات وعلامات استفهام طيلة الفترة الماضية، لافتةً الانتباه إلى سلسلة من الإخبارات كانت قد قُدّمت بحق شبيب لا سيما منها الإخبار الذي قدمه المحامي واصف الحركة إلى النيابة العامة المالية ضد محافظ بيروت على خلفية قضية “بيع العقار 1296مدور المسلك القائم بين العقارين 247 و 1216 بالتراضي وليس بالمزايدة ما أدى إلى هدر في المال العام”. وفي السياق عينه عددت المصادر سلسلة مخالفات موثقة بالأرقام والوقائع تحوم فيها الشبهات حول شبيب ومن بينها “تصرفه ببنود بدلات الانتقال والتمثيل المدرجة في موازنة البلدية بحيث يستعمل المبالغ الواردة فيها بدون أية رقابة وتبلغ قيمتها مئات الملايين علماً أنّ بدلات التمثيل ملغاة بموجب القانون رقم 717 / 98″، إضافةً إلى كون “مصاريف المحروقات في البلدية تجاوزت الحدود المعقولة في عام 2019 حين بلغت حوالى 6000 ليتر شهرياً بموجب موافقات خاصة من المحافظ الأمر الذي أدى إلى اعتراض المراقب العام في البلدية عليها بموجب كتاب رقم 17947 تاريخ 2019 / 8 / 29″، مشددةً على كون كل هذه الأمور تشكل “هدراً موصوفاً للمال العام وتشكل مخالفة للقوانين والقرارات الإدارية، ومنها تعميم رئيس مجلس الوزراء وقرار وزير الداخلية والبلديات تحت رقم 383 / ص . م . تاريخ 2004 / 2 / 19 المسند الى توصية التفتيش المركزي البند رقم 4 من القرار 2003 / 493الى جميع المحافظين في ما يتعلق باستعمال السيارات والآليات الرسمية الذي أشار فيه إلى أنّ استعمال السيارات والآليات الرسمية في الإدارات العامة والبلديات لأغراض خاصة شخصية وعائلية يعتبر اساءة تصرف بالاموال العمومية بدون مبرر شرعي وتبديداً لها بدون وجه حق”.
وتنظر المصادر بعين من الريبة إلى التجديد لولاية شبيب الذي يتقاضى أكثر من راتب، كمحافظ وكقاضٍ يتقاضى راتبه من موازنة مجلس شورى الدولة بالإضافة الى التعويضات الملحقة، بينما تبلغ التعويضات الشهرية التي يتقاضاها من موازنة بلدية بيروت عشرة ملايين ليرة مقسّمة إلى قسمين، القسم الأول تعويض انتقال بقيمة أربعة ملايين ليرة والقسم الثاني تعويض تمثيل بقيمة ستة ملايين ليرة لبنانية. وأمام ذلك سألت المصادر: “عن أي إصلاح تحدثنا الحكومة طالما أنها تتجه إلى التجديد لمحافظ يسمح بإشغال أملاك البلدية الخاصة من دون اتباع الأصول القانونية المنصوص عليها في المادة 60 من القرار رقم 275 التي توجب تأجير العقارات البلدية عن طريق المزايدة العلنية من قبل لجنة المناقصات في البلدية وعرض الموضوع على المجلس البلدي كونه المرجع الصالح لعقد النفقة، بينما شبيب يسمح لأشخاص معينين بإشغال الأملاك البلدية الخاصة بدون مقابل أو مقابل مبالغ زهيدة تحت ستار إشغال أملاك عامة خلافاً للقانون ومنها مواقف للسيارات موجودة في عدة عقارات في المزرعة ورأس بيروت والباشورة والحمرا، علماً أنّ ملف السماح بإشغال الأملاك البلدية من قبل الغير بناءً لقرار المحافط جارٍ التحقيق فيه حالياً من قبل النيابة العامة لديوان المحاسبة، وكذلك هناك مخالفات من قبل المحافظ تتعلق بملفات استملاك هي راهناً قيد النظر في التفتيش المركزي”.
بالإضافة إلى ذلك، تنقل المصادر سلسلة من المخالفات المالية المرتكبة ومن بينها “فتح حساب مصرفي باسم موظفين في البلدية في مصرف خاص وتنظيم شيكات بأسماء الموظفين خلافاً لأحكام المادة 243 من قانون المحاسبة العمومية التي توجب إيداع جميع الأموال العمومية في حساب مفتوح لدى مصرف لبنان، سيما وأنّ عدة شيكات قد أودعت في تلك الحسابات ووفق ما هو موثّق في كتب صادرة عن رئيس دائرة الخزينة بتاريخ 2017 / 6 / 2 الذي رفع مسؤوليته عن النتائج التي ستترتب عن تنفيذ موافقة المحافظ على فتح هكذا حساب مصرفي مخالف للقانون مع إشارته إلى حوالات مماثلة خلال سنة تقدر قيمتها بعدة مليارات”، هذا عدا ما كشفته المصادر عن هدر موصوف للمال العام في عدة قضايا ومن بينها منح شبيب “إعفاء من الغرامات المترتبة على المكلفين ومن بينها إحدى المؤسسات المرموقة في العاصمة بنسب تخفيض بلغت 90 % من الغرامات المتوجبة على متأخرات الرسوم البلدية مع تقسيط هذه المتأخرات على مدة 3 سنوات ما تسبب بطبيعة الحال هدراً بمليارات الليرات، بالإضافة إلى خفض القيم التأجيرية خلافاً لأحكام القانون لعدد من المكلفين ومن بينهم مثلاً شركة فنادق وسياحة كانت مكلفة بقيمة تأجيرية تفوق الـ700 مليون ليرة فعمد المحافظ إلى خفضها إلى حدود مئة مليون ليرة في العام 2017 لعقار واقع في رأس بيروت، وكل ذلك بقرارات أحادية اتخذها شبيب من دون عرض أي من هذه الملفات على لجنة الاعتراضات للنظر بشأنها”.