بمعزل عن السجال الذي طفا على سطح الأحداث خلال الأيام الأخيرة بين وزراء الطاقة السابقين وآخرهم ندى البستاني وسيزار أبي خليل، وبين قوى المعارضة على خلفية اتهام وزراء “التيار الوطني الحر” بالتغطية والتعمية على فضيحة الفيول المغشوش، فضلاً عن تسببهم منذ أيام تولي رئيس التيار جبران باسيل وزارة الطاقة بخسائر ناهزت الـ50 مليار دولار من حساب خزينة الدولة، يبقى أنّ ما تحاول وزارة الطاقة تمريره منذ العام 2011 من إجراءات يسوق لها على إنها اصلاحية في الكهرباء، تبنتها الحكومة الحالية في خطتها الاصلاحية وتعاملت معها بكل ثقة بالنفس على أساس أنها وليدة إنجازاتها التاريخية. إلا ان ما مرّ على اللبنانيين بشق الأنفس على مدى عقد من الزمن، يبدو انه اصطدم بشروط صندوق النقد الدولي الداعية إلى الاصلاح الحقيقي وليس إلى بيع الأوهام. الاعتقاد بأن غرس “لغم” الكهرباء عميقاً في الخطة سيمكن من السير عليه موقتاً من دون انفجاره ريثما تأتي دفعة على الحساب، إنما هو سيعرّض في واقع الأمر الخطة برمتها إلى الانفجار بشكل سيتشظى معه البلد المترنّح أساساً على حافة الهاوية.
فخطة “الطوارئ الصيفية” في الكهرباء المعتمدة في البرنامج الانقاذي ليست اصلاحية، بل هي بحسب الخبراء مدخل واسع لاستمرار الهدر والفساد والمحاصصة بطرق ملتوية، هذا من الناحية السياسية، أما تقنياً فإنّ إجراءات إصلاح القطاع تقتضي الذهاب إلى الشراكة مع القطاع الخاص، من أجل تمويل انشاء المعامل وتحديداً في الزهراني ودير عمار، وهو ما أصبح يجافي منطق اجتذاب المستثمرين مع تخلف لبنان عن دفع ديونه، وسط عبق الاجواء الداخلية والخارجية بروائح الفساد والسرقة في هذا القطاع.
الإجراءات “المكهربة” في الخطة تنص على بدء خفض تمويل الكهرباء من الموازنة تدريجياً، ليصبح صفراً في العام 2024، وذلك بالاتكال على عملية إنشاء المعامل ورفع التعرفة وتأمين الكهرباء 24/24. لكن في الواقع فإن طريق بناء المعامل ليست معبدة بل ان التقاسمات ودخول السياسة على خط هذا الملف ملأت طريقه بالحفر والألغام.
فعقد تلزيم معمل دير عمار لشركة J&P AVAX على طريقة BOT لمدة 25 عاماً بدلاً من طريقة EPC (البناء لصالح الدولة) المتفق عليها اساساً بعد تكبير أزمة الـ TVA الشهيرة، كان يخفي وراءه المستثمرين الحقيقيين تيدي رحمة وعلاء الخواجة. إلا انه منذ أيار 2018 ولغاية اليوم لم تبدأ الاعمال بالمعمل، وعدم القدرة على التمويل للثنائي تحولت اليوم الى خلاف مستحكم في السياسة مع الجهات التي تقف خلفهما. أما الحل الجديد الذي يُعمل عليه فهو إعطاء الصفقة لشركة “البساتنة” من أجل انشاء المعمل على طريقة BOT لمدة عشرة أعوام. التسوية التي رَكّبت “البساتنة” غير المعنيين أساساً في عقد التلزيم، هي نفسها التي طيّرت رحمة وأقصته بعدما علّقته في شباك الصيد السياسية عبر القضاء.
الخلاف على تمويل إنشاء معامل انتاج الطاقة ومحطات التغويز الثلاث هو بيت الداء من الأساس. وكل التعقيدات في الملفات وتعمّد تخطي ادارة المناقصات وفبركة الشركات الوهمية… التي “هشّلت” الصناديق العربية، وعرقلت “سيدر”، وطيّرت عقل البنك الدولي، وستطيح بتمويل “الصندوق” المأمول، إنما هي لهدف واحد لا شيء سواه: الهروب من الرقابة والعودة إلى التمويل من الموازنة من دون حسيب أو رقيب… وحبل الفساد والهدر على الجرّار!