بدا المشهد الداخلي امس مجسداً افضل تجسيد لفوضى عارمة تتآكل البلاد في مسارها الشاق نحو استحقاقات تتزاحم في منسوب الخطورة سواء على الصعيد المالي والاقتصادي والاجتماعي او على الصعيد السياسي مع تسارع العد العكسي لاستحقاق الانتخابات النيابية. ففيما تثير المواقف الهادفة والبالغة الأهمية التي يعلنها امين سر الكرسي الرسولي للعلاقات بين الدول في الفاتيكان المونسنيور ريتشارد بول غالاغر في زيارته للبنان الكثير من الحذر والتنبه خصوصا مع دأبه على التذكير بمواقف البابا فرنسيس من الوضع في لبنان، يصح القول ان كل معالم الخوف من صحة الخشية الفاتيكانية على لبنان تنطبق على مجريات الأوضاع الحالية. وبالامس تحديدا، يمكن استخلاص المشهد بانه اقرب إلى عشوائية تامة و”كل مين ايدو الو” ان على مستوى السلطة وان على مستوى “شارع نقابي سلطوي”. اذ ان مجلس الوزراء امضى احدى أطول جلساته الماراثونية لاستكمال درس الموازنة ولم ينجزها بعد. وفي المقابل بدا رئيس الجمهورية ميشال عون كأنه يسابق جلسات الموازنة في تصعيد احدث حملاته على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على إيقاع “مذكرة الجلب” التي قطعتها في حق الحاكم القاضية غادة عون وكلفت جهاز امن الدولة بإرغامه على المثول امامها منتصف الشهر الحالي بما يكشف ما يهيأ للحاكم في وقت قصير جدا بدليل التناغم الواضح بين حملة عون الرئيس وإجراءات عون القاضية. واما الشارع فبدا رهينة الأساليب العقيمة لاتحاد النقل البري الذي دأب في كل مرة ان يوجه اعتصام السائقين ومطالبهم حتى ولو محقة في الاتجاه الخاطئ عبر تقطيع الطرق وشل الحياة الإنتاجية بلا طائل حتى اليوم.
وفي نهاية الاختبار الجديد للاضراب الذي شل البلد أمس دعا رئيس اتحادات قطاع النقل البري في لبنان بسام طليس إلى اجتماع ومؤتمر صحافي للقطاع يعقدان اليوم “لتحديد الخطوة المقبلة بشكل لا يرهق المواطنين” بما ينطوي على اعتراف بان أساليب الاتحاد تصيب المواطنين وحدهم. إذ أن اتحادات ونقابات قطاع النقل البري شلت الحركة في المناطق احتجاًجاً على عدم التزام الحكومة وعودها لجهة تحسين أوضاعهم المعيشية التي تزداد تردياً نتيجة الأزمة الاقتصادية.
في غضون ذلك لم ينجز مجلس الوزراء في الجلسة الماراتونية التي عقدها امس في السرايا درس مشروع موازنة 2022. وتم ارجاء البت في مسألة الدولار الجمركي لمزيد من الدرس والايضاحات التي سيحملها وزير المال يوسف الخليل، فيما تردد ان سيتم تحديده وفق سعر منصة صيرفة. واحتل ملف الاتصالات الصدارة في الجلسة اذ أكد وزير الاتصالات جوني القرم انه لا يريد أن يحصل في قطاع الاتصالات كما حصل في قطاع الكهرباء. واضاف ان “رفع التسعيرة 5 أضعاف ليست منزلة وأنا مستعدّ للنقاش”. وافيد ان القرم عرض أفكاراً لزيادة دخل قطاع الاتصالات ومنها تسعير فواتير الهواتف على سعر ٩٠٠٠ ل.ل، وانه ابلغ المجلس ان العقد مع ليبان بوست انتهى. من جهته، اعتبر وزير الاقتصاد أمين سلام أن لا يجوز رفع تسعيرة الاتصالات فهذا الأمر “يولّع البلد لأنّ المواطنين لا يحتملون هكذا زيادات”. وأعلن وزير التربية ووزير الإعلام بالوكالة عباس الحلبي أنّ مجلس الوزراء عرض لموضوع التحرّك الذي قام به اليوم قطاع النقل البري، وقرر تكليف وزراء الاشغال والنقل والمالية والداخلية متابعة أوضاع السائقين، والأخذ في الاعتبار موضوع مالية الدولة كما بحث في طلب السّلفة لكهرباء لبنان وبعد الاستماع إلى مُداخلة وزير الطاقة وليد فياض، تقرّر أن تلحظ الكلفة في الموازنة على أن يرتبط الانفاق باقرار الخطة أولاً. واكد وزير الطاقة بعد الجلسة: “نسعى لرفع تغذية الكهرباء وزيادة الانتاج واجراء اصلاحات تنظيمية وتشريعية الأمر الذي تلحظه خطة الكهرباء والتي سيكون لها انعكاس مالي بسبب الكلفة العالية في المرحلة الاولى نظراً لضعف الجباية”. وأشار إلى ان ما طرح امس “هو أن الحديث عن السلفة للكهرباء لا يمكن تناوله مجتزأً فنحن بحاجة إلى سلفة في السنة الاولى كي يكون هناك استدامة في السنوات اللاحقة”.
بكركي ومعراب والانتخابات
في غضون ذلك وبعد لقاء عدد من البطاركة والمطارنة وعلى رأسهم البطريرك الماروني مار بشارة #بطرس الراعي في بكركي، المونسنيور غالاغر، عقد المطارنة الموارنة إجتماعهم الشهري مؤكدين “متابعتهم باهتمام النقاشات الدائرة على الصعد الرسمية والسياسية والإعلامية في موضوع الموازنة العامة”، ولفتوا إلى “الأولوية التي ينبغي أن تعطى في ظروف البلاد الصعبة للغاية، لتسهيل توافر الخدمات العامة ومتطلِّبات الصحة والغذاء تبعا للإمكانات المادية المحدودة لمعظم اللبنانيين وبرقابة صارمة تشمل عمليات الإستيراد والتوزيع والمبيع.” واملوا “بوصول الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق في مدى قريب، بما يفتح الباب واسعا أمام المباشرة بالإصلاحات المطلوبة لتحرير الدعم المالي المرتجى”. وعلى الصعيد السياسي شدد بيان المطارنة على اجراء الانتخابات النيابية والإنتخابات الرئاسية “ويعوِّلون بذلك على وطنية اللبنانيين المخلصين، وعلى حكمتهم وحرصهم على أن تلبي الإستحقاقات الدستورية توق اللبنانيين إلى صيانة الحرية، والفوز بالأمن الراسخ وبالاستقرار المثمر”. كما شددوا على “وجوب المعالجة الحازمة للخلل الطارئ على العلاقات اللبنانية – الخليجية، بحيث يوضع حد نهائي للتدخلات في شؤون الأشقاء والأصدقاء. ويرون في هذا الخلل مثلا ساطعا لحاجة لبنان الماسة إلى إعلان حياده، فلا يعود ساحة للتجاذبات الخارجية”.
وفي السياق الانتخابي بدا لافتا ان رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع بدأ ما يشبه الحملة الديبلوماسية المركزة للتحذير من محاولة جادة لإطاحة الانتخابات اذ انه وضع أمس سفيرة الولايات المتحدة الأميركيّة دورثي شيا، “في أجواء المحاولات الجارية لاطاحة هذا الإستحقاق وآخرها إعادة فتح موضوع إقتراع المغتربين”، وكان ابلغ الامر إلى المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا في لقاء سابق بينهما.
بعبدا والحاكم
اما في ملف النزاع بين بعبدا وحاكمية مصرف لبنان، فأكد الرئيس عون مجددا أمس “ان ما يحصل في الموضوع المالي يهدف إلى تحميل المودعين اعباء اخطاء الآخرين، وهذا امر مرفوض ونعمل بجهد لمنع حصوله، خصوصاً ان كل الوعود التي تعمم في هذا المجال هي غير صحيحة.” وشدد على أن “من المستحيل ان يتمكن من غَدَر البلد من اصلاح الاوضاع. فمن اوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم لا يمكن ان يكون هو المسؤول الصالح لتصحيح الامور وايجاد الحلول بعد الاخطاء التي ارتكبها “. وقال “عندما نطالب حاكمية مصرف لبنان بإعطاء المعلومات المطلوبة لإتمام التحقيق الجنائي، نتعرض للهجوم من جهات معروفة لا تريد للتحقيق ان يصل إلى نتائج واضحة وتحميل المسؤولية لمن اوصل الوضع المالي والمصرفي إلى الواقع المؤلم الذي يعيش فيه المواطنون والمعاناة اليومية من عدم الوصول إلى حقوقهم ولقمة عيشهم” مؤكداً “ان هذه اللعبة اصبحت في مرحلتها الاخيرة وسيكشف امر كل مسؤول عن هذه الكارثة الكبيرة.”
غالاغر من الكسليك
وسط هذه الأجواء الداخلية رصد المراقبون بدقة الكلمة التي القاها امس المونسنيور غالاغر خلال افتتاح جامعة الروح القدس في الكسليك مؤتمر ” البابا يوحنا الثاني ولبنان الرسالة “. ذلك ان غالاغر الذي كان أكد في اليوم الأول من زيارته خشية الفاتيكان على مستقبل لبنان ذكر في كلمته أمس بما ورد في الرسالة البابوية التي وجهها البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأساقفة الكاثوليك من “ان زوال لبنان من شأنه ان يكون موضع اسف شديد للعالم باسره في حين ان المحافظة على هذا البلد هي من أكثر المهام نبلا والحاحا التي ينبغي على العالم المعاصر ان يتولاها”. كما شدد غالاغر على ابراز أولوية “التجدد والإصلاحات الداخلية وتخطي المصالح الضيقة للافراد والجماعات ” داعيا إلى “الحوار والوحدة والتفاهم ووضع الخير العام في مصاف الأولويات”.