كتبت صحيفة “الجمهورية”: كلّ شيء مُباح في الواقع اللبناني، إلّا الحديث عن حلول جدية للأزمات التي تخنقه سياسيا ورئاسيا واقتاصاديا وماليا. وكلّ شيء معطّل، إلّا لغة التصعيد والمبارزات العقيمة بين مكوّنات عابثة فرضَت على لبنان الإقامة الجبريّة أمام الحيطان المسدودة على أيّة مخارج أو حلول.
وعلى ما تُجمِع القراءات لهذا الواقع المأزوم، فلا انفراجات تلوح لا في المدى المنظور ولا حتى في المدى البعيد، وهذا معناه انّ فترة الاقامة الجبرية ستطول في اعماق الانقسامات السياسية والطائفية، وبعض القراءات المتشائمة بدأت تتحدّث صراحة عن انّ ارادة التعطيل قد تبتلِع ما تبقّى من السنة الحالية، وربما السنة المقبلة بكاملها.
دولة متحللة
في موازاة هذا الانسداد المُحكم، دولة آخِذة في الانحدار نحو التحلل الكامل في كافة قطاعاتها، وفي هذا الواقع انتفى الحديث نهائياً عن مرحلة انتقالية من الازمات التي تعصف بها من كل جانب، الى شيء من الانفراج، يوقِف تدحرجها نزولاً، ويمدّها بشيء من الإنعاش، وبدأ الحديث فعلاً، وخصوصاً في مجالس كبار المسؤولين عن مرحلة انتقالية الى الأسوأ. وبالتالي، ما على اللبنانيين سوى ان يحضّروا انفسهم لتلقّي الصدمات ودفع الاثمان، ويحاولوا – هذا اذا استطاعوا – أن يتلمّسوا سبل التعايش معها وكيفية التقليل من وَقعها عليهم.
مهمة معقدة
فعلى المستوى الرئاسي، يبدو أنّ هذا الملف قد نَحّاه التطبيع الكامل مع الفراغ في رئاسة الجمهورية، جانباً، والداخل بكلّ مستوياته السياسية، يترقّب الزيارة الثانية للموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان التي يقال إنّ موعدها تحدّد الاثنين المقبل. واللافت في هذا السياق أنّ مقاربات المعنيين بالملف الرئاسي، لهذه الزيارة، تتقاطَع عند النّعي المُسبَق لمهمّة الموفد الفرنسي، إذا ما كان القصد منها فقط، هو محاولة اطلاق حوار بين مكونات التعطيل الرئاسي.
ثمة معلومات تحدثت عن “انّ باريس استبقت وصول الموفد الفرنسي إلى بيروت بإرسال اشارات إلى المستويات السياسيّة تؤكّد انّ الايليزيه يُولي أهميّة كبرى لمهمة لودريان، باعتبارها فرصة جديّة وثمينة في هذه المرحلة، لمساعدة اللبنانيين على التوافق على استيلاد حل رئاسي وحكومي في آن معاً، وأنّ ترجمة هذه الفرصة تستدعي ان يبقى الموفد الفرنسي اسبوعاً وربما اكثر في بيروت”. إلّا أنّ مصادر سياسية واسعة الاطلاع أكدت لـ”الجمهورية” جديّة الجانب الفرنسي في انجاز حلّ سريع للأزمة في لبنان، إلّا انّها لاحظت في الوقت نفسه انّ باريس تبدو وكأنها وحدها في هذه المهمّة، حيث ان ملف لبنان غائب كلّياً عن جدول اهتمامات واولويات سائر الدول المصنفة صديقة او شقيقة، حيث لا ذكر له لا من قريب او من بعيد”.
وتؤكد المصادر ان مهمّة لودريان، التي ترمي بالدرجة الاولى الى تسهيل عقد حوار لبناني حول الملف الرئاسي، شديدة التعقيد. امّا جوهر هذا التعقيد، فهو كامِن في أنّ لودريان آت في زيارة عنوانها تسهيل اطلاق حوار بين اللبنانيين، وهو بذلك أوكَلَ الى نفسه مهمة حفر جبل التعطيل بإبرة. ذلك انّ المكونات السياسية قدّمت على مدى ثمانية أشهر من تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، النموذج الأسوأ في مقاربة هذا الملف، وتَموضعَت في الخطّ النقيض لأي فرصة التقاء او حوار يُفضي الى توافق على الحسم الايجابي للملف الرئاسي. وضمن هذا السياق، أعدمت إرادة التعطيل مسلسلا طويلا من الدعوات المتتالية الى حوار نتيجته محسومة سلفاً ربطاً بالشروط المتصادمة على الحلبة الرئاسية، والرؤى المتناقضة جذرياً التي حسمت خياراتها مُسبقاً بنَسف إمكانية بلوغ اي قواسم مشتركة، ليس فقط حول الملف الرئاسي، بل حول سائر الملفات والقضايا والاخرى، وما يخشى منه في هذا السياق هو ان ينسحب هذا الإعدام على “حوار لودريان” قبل أن يبدأ”.
حوار صادق ومسؤول
واضحٌ انّ مهمّة لودريان تسقط على واقع منقسم ومتصادم على هوية المرشح العتيد لرئاسة الجمهورية، فرئيس المجلس النيابي نبيه بري، المُتمسّك بدعم ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ينتظر وصول الموفد الرئاسي الفرنسي ليبني على ما يحمله مقتضاه، ويؤكّد في الوقت نفسه تأييده الكامل وبلا ايّ تردّد “لأي مسعى يُفضي الى انهاء الازمة الرئاسية، عبر حوار صادِق ومسؤول مُنطلقه صفاء النيات”، ويشاركه في ذلك “حزب الله” وسائر الحلفاء الذين صَبّوا أصواتهم لمصلحة فرنجية في جلسة الفشل الثاني عشر في انتخاب رئيس الجمهورية، إلا انّ الضفة السياسية المقابلة عائمة بالإشتراطات، وهو ما تعكسه بوضوح ما سُمّيت “جبهة التقاطعات” في مواجهة ترشيح فرنجية.
وتبعاً لذلك، أبلغت مصادر سياسية الى “الجمهورية” انّ ما تخشى منه هو أن يَعلق لودريان فور وصوله في المتاهة اللبنانية، ويصعب عليه إقناع المكونات السياسية اللبنانية بالإستجابة لمسعى الحوار.
وتستدرك المصادر عينها وتقول انّ نجاح لودريان في إقناع مكونات الانقسام السياسي بالجلوس الى طاولة الحوار، لا يعني نجاحاً لمهمته، فالنجاح يكون ببلوغ النتائج التي يرجوها لودريان، اي الوصول الى توافق بين هذه المكونات يُنهي الازمة الرئاسية، اما ان يعقد الحوار وتكون نتيجته الفشل في التوافق، فعدم انعقاده افضل من عَقد حوار فاشل، لأن النتيجة المؤكدة لهذا الفشل هي اعادة الوضع في لبنان الى مربّع التوتير الاول، وفتح باب الاحتمالات على مصراعيه”.
تشاؤم
الى ذلك، علمت “الجمهورية” أنّ الملف الرئاسي كان محور تداول بين سفير دولة غربية كبرى وشخصية وسطية بارزة في لقاءٍ جَمعهما في دارة الاخير قبل ايام قليلة، قدّم خلاله السفير المذكور مقاربة تشاؤميّة حول انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان. واللافت في هذا اللقاء ان السفير الغربي قارَب الحراك الفرنسي كفرصة يتوجّب على اللبنانيين عدم تفويتها فقد ضاع وقت كثير على لبنان وعلى مكوناته السياسية إدراك ذلك، إلّا انه قال ما مفاده: “إنّ وضع لبنان بات دقيقا للغاية، وليس في أفق التوازنات السياسية القائمة ما يُشجّع حتى على الاعتقاد بأنّ ثمة حلاً مُمكناً في لبنان للمسألة الرئاسية في المدى المنظور، اخشى ان يستمر هذا التخبّط في لبنان لفترة طويلة جداً”.
وبحسب المعلومات، فإنّ الشخصية الوسطيّة البارزة عَقّبت على كلام السفير الغربي قائلة: اللبنانيون محترفون في تضييع الوقت. مضيفة: لكن يجب ان نعترف ان الواقع اللبناني منقسم بين جبهتين عريضتين: القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر من جهة، وحركة “امل” و”حزب الله” من جهة ثانية. وما يحكم هاتين الجبهتين حتى الآن هو توازن التعطيل، وهو ما شهدناه على مدى 12 جلسة فاشلة لانتخاب رئيس الجمهورية.
جبهتان متعادلتان
وتابعت قائلة: مع هاتين الجبهتين المتعادلتين يَستحيل الوصول الى قاسم مشترك بينهما، من دون ضغط خارجي كبير. صحيح انّ الفرنسيين يتحرّكون وسمعتُ انّ لودريان سيأتي في زيارة ثانية، ولكن هذا الحراك قد لا يوصل الى اي نتيجة، إذا كان احادي الجانب، وليس محصّناً بقوة دفع دولية كبرى. وقد سبق لنا ان عشنا تجربتين وربما اكثر مع زيارتين قام بهما الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى بيروت ما بعد انفجار المرفأ، وأجرى حوارا مباشرا مع كل الاطراف، وفي النتيجة لم يصل الى اي نتيجة. انا أسأل هنا عن الاميركيين، فحتى الآن انا لا اشعر بأنهم موجودون في اي تحرّك جدي ومباشر لحل ازمة الرئاسة في لبنان.
وبحسب المعلومات فإنّ السفير الغربي اكد ما مَفاده بأنّ فَرض حل من الخارج على اللبنانيين امر صعب وغير واقعي، فهذه مسألة تعني اللبنانيين وحدهم، وأقصى ما يمكن ان تقدمه الدول الصديقة للبنان في هذا السياق هو تشجيع القادة في لبنان على انجاز استحقاقاتهم الدستورية، وفي هذا السياق يندرج الحراك الفرنسي، وما اكدت عليه الدول الخمس (دول اجتماع باريس: الولايات المتحدة الاميركية، فرنسا، السعودية، مصر وقطر).
مثلّث القرار
الا ان الشخصية الوسطية كانت لها مقاربة مغايرة لذلك، حيث قالت: أنتم تعلمون انّ شَكل الاستحقاق الرئاسي في لبنان داخلي ومكانه داخلي، انما حسمه خارجي وكذلك جوهره. قد يبدو الفرنسيون في صدارة المشهد الرئاسي، ولكن يغمرني شعور جدّي بأنّ الملف الرئاسي في لبنان مُجمّد على مثلث القرار؛ واشنطن – الرياض – طهران، وحَسمه مؤجّل إلى حين يَتبَدّى حول نقطة تقاطع اميركية – سعودية – ايرانية لم تتبلور حتى الآن، وقد تحتاج الى وقت”.
بري
الى ذلك، اكد الرئيس بري امام وفد نقابة المحررين، امس، أن “لا مناص إلّا بالتوافق والحوار”، لافتاً الى “انّ التدويل، مع كل الاحترام لغبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، يحتاج الى توافق داخلي، فالحوار الداخلي خيار يجب أن يجب الّا يسقط من حسابات كافة الاطراف”. وقال انه “ينتظر عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جون إيف لودريان كي يبني على الشيء مقتضاه في الملف الرئاسي لجهة الحوار ومكانه وشكله وزمانه أو لجهة تحديد موعد لجلسة جديدة لإنتخاب رئيس للجمهورية”.
واذ شدد بري على ان “صحة البلد للأسف ليست بخير”. اكّد، رداً على سؤال، رَفضه المطلق لأي مَسّ باتفاق الطائف. وقال: “لقد عشنا ومتنا حتى أنجزنا هذا الإتفاق وأقول لمن يريد تغييره “فليقعد عاقل أحسن له”.
وأضاف الرئيس بري: “ان دعوات البعض الى تغيير النظام يضع لبنان في مهب مخاطر لا تحمد عقباها. وسأل: هل طَبّقنا الطائف كي ندعو إلى تغييره؟ فلنطبق هذا الإتفاق بكل بنوده وخاصة الاصلاحية منها، لا سيما اللامركزية الإدارية وقانون للانتخابات خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس للشيوخ”.
وحول أزمة حاكمية مصرف لبنان، قال: “هناك مبدأ في كل دول العالم بأن الضرورات تبيح المحظورات، وهناك نص دستوري يتحدّث عن المعنى الضيق لتصريف الاعمال. فتصريفها لا يعني بأي شكل من الأشكال الإنحدار نحو الفراغ”. واشار الى ان “رئيس الحكومة قد اختار موقفاً آخر، ورغم أنني على موقفي بتطبيق الدستور بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال لكنني سوف أحترم ما أعلنه رئيس الحكومة في هذا المجال لجهة ان لا تعيين ولا تمديد”.
وحول التطورات الأخيرة في الجنوب على الخيمتين وضَم اسرائيل للشطر الشمالي لقرية الغجر، قال: “الخيَم موجودة على أرض لبنانية، والمطلوب من المجتمع الدولي إلزام إسرائيل بتطبيق القرار 1701 والإنسحاب من الشطر الشمالي لقرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا نقطة الـB1”.
أزمة المركزي
من جهة ثانية، يبدو ان الازمة الناشئة حول مصرف لبنان قد سلكت طريقها نحو تَولّي النائب الاول لحاكم مصرف لبنان الدكتور وسيم منصوري الحاكمية، بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة آخر الشهر الجاري. وبالتالي ما حُكي عن صِيَغ حلول اخرى كالتمديد لسلامة، قد أُخرِج من التداول.
واللافت في هذا السياق ما اعلنه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في بيان، انه “لن يُمدد لحاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة في منصبه”، عندما تنتهي فترة عمله نهاية الشهر الجاري. واضاف: إنّ “للمنصب قانوناً ينصّ على أن النائب الأول للحاكم سيتولى مهام الحاكم حتى تعيين حاكم جديد. والقانون لا ينص على الفراغ، والمؤسسات تستكمل أعمالها من خلال نائب الحاكم الأول والنواب الباقين”. واكد ان “أهم شيء عدم حصول شغور في المصرف المركزي لأنه العَصَب المالي في البلد”.
عون عند المفتي
من جهة ثانية، زار قائد الجيش العماد جوزف عون، أمس، مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، الذي استقبل ايضاً مدير عام قوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان.
وقال دريان انّ “الجيش، الحامي للوطن ولحدوده في مواجهة العدو الإسرائيلي، ينبغي دعمه في شتى المجالات”. ودعا الى “حماية المؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان بملء الشواغر في بعض مراكزها لتعزيز عملها المشهود له وعدم التدخل في شؤونها”. وقال: “حفظ الأمن في لبنان يقع على عاتق الجيش وقوى الأمن الداخلي والقوى الأمنية الأخرى التي تسهر على امن الوطن والمواطن وتوفير أجواء الطمأنينة والأمان”، وأكد أنه لولا “الوعي والحكمة والمسؤولية الوطنية التي تمتاز بها هذه المؤسسات وقياداتها، لَدخلَ البلد في اتون الفتن الداخلية في القرنة السوداء وعكار وقبلها في خلدة والطيونة وغيرها من المناطق اللبنانية”.
وأبدى “خشيته من فوضى مالية بعد انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي الذي هدّد نوابه بالاستقالة إذا لم يتم تعيين حاكم جديد، وهذا يتطلب معالجة فورية لا تحتمل الانتظار إمّا بالإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية أو باستمرار نواب الحاكم في تحَمّل مسؤولياتهم الوطنية”.
التعيينات
وموضوع التعيينات كان محور بحث بين رئيس حكومة تصريف الاعمال وعضو اللقاء الديموقراطي النائب وائل ابو فاعور، الذي قال: جَرى نقاش في موضوع الشغور في المؤسسات الأمنية والمالية، وواضحٌ بأن الشغور الرئاسي يبدو مديدا.
اضاف: اذا كنّا سنذهب إلى هذا الشغور المديد، هل نسمح بأن يسقط فوق رؤوسنا ما تبقّى من هيكل أمني ومالي يحفظ ما بقي من أمن اللبنانيين واقتصادهم؟ واشار الى صيَغ لمعالجة ازمة مصرف لبنان، ودعا الى “تعيين كافة أعضاء المجلس العسكري، واذا كان هناك نقاش أو خلاف على أسماء اخرى، فبالحد الأدنى لا خلاف على رئيس الأركان، فالمطلوب تعيين مجلس عسكري كامل ومن ضمنه رئيس الأركان لكي نحافظ على الجيش”.
ورداً على سؤال، قال: “يقوم الرئيس ميقاتي باتصالات، ووجهة نظره في ما يخصّ مصرف لبنان هي تعيين حاكم جديد، واذا ما تعذّر هذا الأمر فعلى نواب الحاكم تحمّل مسؤولياتهم. امّا بالنسبة الى ما خَص الجيش فهو مع ملء الشغور في المجلس العسكري حفاظاً على المؤسسة”.