لم يعد مهما موعد اعلان الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة مصطفى اديب اعتذاره عن عدم استكمال مهمته سواء حصل ذلك اليوم او غدا او الاحد في اجراء “لياقة” شكلي مع الجانب الفرنسي الذي رغب في ابتلاع ما لحقه من أفضال الفريق الذي امتهن “مهلة ماكرون” وتمنى على الافرقاء اللبنانيين المضي في محاولات التوصل الى حل ولو مددت المهلة حتى نهاية الأسبوع . اللعبة انكشفت أساسا بالكامل منذ يومين على الأقل مع انطلاق مراحل الانقلاب المتدحرج على اديب والمبادرة الفرنسية الذي كتبت عنه “النهار” اول من امس ولم يكن للوقائع التي أعقبت ذلك خصوصا البارحة تحديدا، الا ان اثبتت المثبت. والواقع انه ولو مدد الرئيس المكلف لنفسه فترة إضافية من الاتصالات والمساعي والمشاورات، فان تعمد الثنائي الشيعي الصعود بأقصى ما يمكن من وسائل التوتير الكلامي والتصعيد السياسي الى رأس الشجرة يثبت بان “امر العمليات” ليس داخليا اوطائفيا اوسياسيا فقط، وانما هو أيضا وربما أساسا إقليمي. ولعل اللافت انه في اللحظات التي كان فيها الثنائي الشيعي يضع اللمسات الأخيرة على اخر فصول اسقاط المبادرة الفرنسية من خلال اسقاط تشكيلة مصطفى اديب عبر اشتراطات تنهي مهمته عمليا، اندلعت عاصفة تسريبات مضللة مدبرة تولتها غرف عمليات راحت توزع التسريبات والمزاعم الإعلامية وفق وتيرة كثيفة مكشوفة اريد من خلالها التغطية الكاملة على فصول احباط المبادرة الفرنسية على يد الثنائي الشيعي ورمي تبعة ذلك على الرئيس سعد الحريري والفريق الداعم بقوة للرئيس المكلف. ولكن حسابات الحقل لم تتطابق وحسابات البيدر هنا أولا لان الفريق الذي عمد الى ابتزاز الجانب الفرنسي واستغلال انفتاحه على “حزب الله ” نفسه لم ينجح في اُسلوب المناورات وابتداع الاجتهادات حيال حقيقة ما اتفق عليه في اجتماع قصر الصنوبر خصوصا لجهة موضوع المداورة في الحقائب. اذ ان الاجماع السياسي على اعتماد المداورة كشف هشاشة المزاعم والتسريبات من جهة، كما ان الرئيس المكلف وضع حاسما لهذه المزاعم عندما رهن استكمال مهمته كلها بالمداورة والمجيء بحكومة اختصاصيين لانها صلب المبادرة الفرنسية. ويبدو ان ضيق الهامش امام الثنائي الشيعي دفع به الى اعتماد الأسلوب الدعائي السهل ولكن غير المضمون النتائج، فشن حملة تسريبات تضليلية سبقت وتزامنت مع صدور بيان عن “كتلة الوفاء للمقاومة” اتسم بنبرة تصعيدية حادة كشفت معظم المستور. فتحت ستار “رفض محاولات تجويف مضمون المبادرة الفرنسية” هاجمت الكتلة ما سمته”محاولات الاستقواء بقوى خارجية لتشكيل حكومة مزورة التمثيل لمصلحة فريق واحد” وأعلنت التمسك “برفضها المطلق ان يسمي احد عنا الوزراء الذين ينبغي ان يمثلونا في الحكومة ” كما تمسكها باسناد حقيبة المال الى الشيعة.
في غضون ذلك كانت موجة التسريبات تبلغ مداها اذ زعمت ان الحريري اشترط ان يسمي هو الشخصية الشيعية التي تتولى المال لكن ذلك اصطدم برفض رؤساء الحكومات السابقين الاخرين والثنائي الشيعي. وسارع المستشار الإعلامي للحريري حسين الوجه الى نفي هذه المزاعم مؤكدا ان موقف الحريري واضح كما جاء في تغريدته اول من امس لجهة تمسكه بالمداورة في الحقائب بين سائر الطوائف. كما نفى المزاعم عن التوافق مع الجانب الفرنسي على إبقاء المال من حصة الشيعة. وقبل زيارته عصرا لقصر بعبدا اجتمع الرئيس المكلف بالخليلين اللذين أبلغاه “الموقف الرسمي” النهائي للثنائي الشيعي بالتمسك بحقيبة المال وتسمية الوزراء الشيعة . وبعد لقائه وعون اعلن اديب “الاتفاق على التريث قليلا لإعطاء المزيد من الوقت للمشاورات القائمة لتشكيل الحكومة”. وقال انه عرض مع عون “الصعوبات التي تعترضنا لتشكيل الحكومة واعرف ان ليس لدينا ترف الوقت وأعول على تعاون الجميع من اجل تشكيل حكومة تكون صلاحياتها تنفيذ ما اتفق عليه مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون”.
بلا افق
ولكن كيف قرر اديب الاعتذار وكيف تريث؟
توجه اديب الى بعبدا وفِي جيبه كتاب الاعتذار بعدما اقفلت كل ابواب التوافق على تشكيلته الحكومية التي وضعها من 14 وزيراً من الاختصاصيين المستقلين.
وهذا القرار حسم بعد زيارة الخليلين اللذين نقلا اليه تمسكهما بحقيبة المال وبتسمية الوزراء الشيعة.
وكانت زيارة اديب لرئيس الجمهورية أرجئت من الساعة 11 الى 5 عصراً على اساس انه سيتوجه للقاء الرئيس بري وان ثمة مشروع حل يقوم على اسناد حقيبة المال لشيعي يكون مقبولاً ومتوافقاً عليه من كل القوى السياسية. وسرت شائعات ان اللواء عباس ابراهيم من جهة والسفير برنار ايمييه من المقلب الفرنسي يعملان على مشروع الحل هذا. الا ان هذه المعطيات التي شاعت من جهة واحدة نقضتها المعطيات المتوافرة عن رفض الرئيس المكلّف ومعه رؤساء الحكومات السابقون الخروج عن قواعد المبادرة الفرنسية التي تقوم على المداورة الشاملة في الحقائب دون استثناء، وان هناك اتجاها لاعتذار الرئيس المكلّف الذي لم توضع عليه مثل هذه الشروط عند تكليفه.
وتجنباً للدخول في عملية اخذ ورد خارج قواعد التسوية، لم يطلب الرئيس المكلّف موعداً في عين التينة وقبل ان يستقبل لاحقاً المعاونين السياسيين للأمين العام لـحزب الله وللرئيس نبيه بري، وزعت مصادره موقفه المتشدد ازاء اي طرح خارج صيغته الحكومية التي عمل عليها طوال اسبوعين. ونقلت عنه قوله” ان المهمة التي تم تكليفي على اساسها نتيجة تفاهم غالبية القوى السياسية اللبنانية ،هي تشكيل حكومة اختصاصيين غير سياسية، في فترة قياسية، والبدء بتنفيذ الاصلاحات فورا. وعلى هذا الاساس لم يكن الهدف لا التفرد بالرأي ولا استهداف احد من المكونات السياسية اللبنانية، بل اختيار تشكيلة حكومة من اختصاصيين. واي طرح آخر سيفترض تاليا مقاربة مختلفة للحكومة الجديدة، وهذا لا يتوافق مع المهمة التي كلفت من اجلها” .
ابلغ اديب هذا الموقف للخليلين ، وتوجه الى بعبدا لإعلان اعتذاره انطلاقا من هذا المبدأ، وتحركت خلية الازمة في الاليزيه وكان التمني الفرنسي عليه بالتريث الا ان ذلك لا يعني ان لدى الفرنسيين تعهداً من الثنائي الشيعي بالتراجع عن تمسكه بحقيبة المال أوبتسمية وزرائه. والرئيس المكلّف ليس في وارد الخروج على قواعد تشكيلته المصغرة المحايدة والمستقلة عن السياسيين. وكذلك هو موقف داعميه من رؤساء الحكومات السابقين.
وفي المحصلة تبين ان كل الاطراف يطالبون بأن تكون المداورة شاملة بمن فيهم رئيس الجمهورية ونقل عنه قوله لمحمد رعد بأنه ضد تكريس حقيبة لطائفة، وهذا الاعتراض يختصر مواقف كل الاطراف الاخرى المعلنة وغير المعلنة من الطرح الشيعي باستثناء حقيبة المال من المداورة. فانه لا يحظى بالتوافق المطلوب ما يعني سقوط كل احتمالات الوصول الى تسوية حكومية .
حتى ان المعلومات تشير الى ان رفض تكريس وزارة المال للطائفة الشيعية لا يقتصر على القوى المعنية بالتأليف ورؤساء الحكومة السابقين بل يصل الى البطريركية المارونية والقيادات المسيحية وهذا ماسيظهر خلال الساعات المقبلة.
في المحصلة ، ليس هناك حكومة وقرار الرئيس اديب هو بالاعتذار . ومطلب التريث الذي اصر عليه الفرنسيون وبعبدا والثنائي الشيعي والذي استجاب له اديب ليس الا لكسب الوقت لان أحداً ليس لديه تصور بديل لما بعد اعتذار اديب.
العقوبات الأميركية
وسط هذه الأجواء سارعت وزارة الخزانة الأميركية الى اصدار الدفعة الثانية من العقوبات على لبنانيين في اقل من أسبوعين . وإذ طاولت الدفعة الأولى الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس فان الدفعة الثانية امس طاولت شركتين مرتبطتين بـ”حزب الله ” وشخص مسؤول في المجلس التنفيذي للحزب . وأعلنت الوزارة فرض عقوبات على شركتي “آرش كونسالتينغ للدراسات والاستشارات الهندسية ” و”معمار كونستراكشن للهندسة والمقاولات ” لكونهما مملوكتين او مسيطر عليهما او موجهتين من “حزب الله ” . كما فرضت الوزارة عقوبات على سلطان خليفة اسعد المسؤول في المجلس التنفيذي ل”حزب الله ” الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالشركتين