خلال يومين ساد صمت كامل فيها على المستويات الداخلية كافة، كان الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون يعيد ترتيب خليته اللبنانية فيستبعد منها صقور وزير الخارجية جان إيف لودريان المتطابقي الرؤية مع وزارة الخارجية الأميركية ووزيرها مايك بومبيو، في استعمال منصة المبادرة الفرنسية لفرض المزيد من التصعيد بوجه المقاومة، عبر بوابة المعركة التي قادها رباعي رؤساء الحكومات السابقين من خلف الرئيس المكلف مصطفى أديب بوجه ثنائي حركة أمل وحزب الله، وصارت فيها وزارة المال رمزاً لموازين القوى المحليّة والإقليميّة والدوليّة، وبعدما اتضحت للرئيس الفرنسي المخاطر التي ستنتج عن سقوط مبادرته، والتي سيكون أقلها دخول لبنان مراحل شديدة التأزم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية، وفتح الباب أمام حكومة لون واحد تزيد التأزم وتستدرج خيارات إقليمية ودولية منافسة، وربما يتوّج كل التأزم بتصعيد لا تبقى الحدود اللبنانية الجنوبية بعيدة عنه، في ظل مخاطر حرب إقليمية سعى الرئيس امانويل ماكرون لتفاديها من ضمن مسعاه لتحييد ملفات الخلاف السياسية ومنها قضايا النظام السياسي وسلاح المقاومة، عن ملف تشكيل حكومة مهمّة تتولى معالجة الملف المالي برعاية فرنسية ودعم دولي، فوجد مَن أعاد زرعها في قلب مبادرته وحوّلها الى عنوان لها.
رتب الرئيس ماكرون فريقه المصغر، وفتح قنوات الاتصال بواشنطن والرياض، حيث هناك من يشبه ثنائية التصعيد والتهدئة في الخلية الفرنسية، فنجح بالحصول على ضوء أصفر فرنسي يتيح له الإقلاع مجدداً بقطار المبادرة، مستنداً الى أنه لم يبادر أصلاً من دون الحصول على مباركة أميركية وسعودية، ووصلت الأصداء للرئيس السابق للحكومة سعد الحريري مشفوعة بتمنيات فرنسية بالإقدام على مبادرة إيجابية، تلقفها الرئيس الحريري منفرداً بعدما فشلت محاولاته في إقناع شركائه في نادي رؤساء الحكومة السابقين بمجاراته ومشاركته في المبادرة. وفشل الرئيس السابق فؤاد السنيورة في تحريض المجلس الشرعي الإسلامي ودار الفتوى على الحريري، فأصدر الحريري موقفاً أعلن فيه موافقته على تسمية وزير شيعي لحقيبة المالية، على أن يتولى الرئيس المكلف بالمهمة، التنسيق والتعاون مع رئيس الجمهورية، من دون تثبيت ذلك عرفاً أو حقاً مكتسباً، وبدت مبادرة الحريري المدعومة فرنسياً، بداية اختراق نوعيّ كسر جليد الجمود، حيث توقعت مصادر على صلة بالملف الحكومي، أن يتلقف الثنائي مبادرة الحريري بإيجابية تساعده على النزول عن الشجرة التي صعدها، بإلصاق المداورة بالمبادرة الفرنسية، بهدف حشر الثنائي والاعتقاد بفرصة انتزاع تنازل منه يصوّر كهزيمة أنتجتها العقوبات الأميركية. وقالت المصادر إن الرئيس الفرنسي سيوفد مندوباً رفيعاً يرجّح أن يكون مدير المخابرات الفرنسية برنار ايميه إلى بيروت لمواكبة الاتصالات الحثيثة لتشكيل الحكومة عن قرب. كما توقعت أن يزور الرئيس المكلف مصطفى اديب بعبدا للبدء بخطوات ملموسة بالتشاور مع رئيس الجمهورية حول حكومة جديدة يرجّح أن تكون من ثمانية عشر وزيراً، يتشارك أديب مع الرئيس ميشال عون في التداول بأسماء وزرائها وحقائبهم، بمعونة فرنسية، وصولاً لولادة قريبة لا تتعدى مهلتها نهاية الأسبوع للحكومة الجديدة.
الحريري: قرّرت مساعدة أديب
وفيما كان الملف الحكومي في دائرة الجمود الكلي ويقترب من وضعه على رف انتظار التطورات الاقليمية والدولية، حركت مواقف الرئيس سعد الحريري المياه الحكومية الراكدة بالتزامن مع الجهود الفرنسية المكثفة على الخطوط الداخلية والخارجية لدفع المبادرة الفرنسية إلى الأمام.
وأعلن الحريري في بيان صدر من مكتبه الإعلامي مساء أمس، بعد اجتماع لكتلة المستقبل النيابية في بيت الوسط، أنه قرّر “مساعدة الرئيس مصطفى أديب على إيجاد مخرج بتسمية وزير مالية مستقل من الطائفة الشيعية، يختاره هو، شأنه شأن سائر الوزراء على قاعدة الكفاءة والنزاهة وعدم الانتماء الحزبي، من دون أن يعني هذا القرار في أي حال من الأحوال اعترافاً بحصرية وزارة المالية بالطائفة الشيعيّة أو بأي طائفة من الطوائف”.
وأضاف الحريري: ”يجب أن يكون واضحاً أن هذا القرار هو لمرة واحدة ولا يشكل عرفاً يُبنى عليه لتشكيل حكومات في المستقبل، بل هو مشروط بتسهيل تشكيل حكومة الرئيس أديب بالمعايير المتفق عليها، وتسهيل عملها الإصلاحي، من أجل كبح انهيار لبنان ثم إنقاذه وإنقاذ اللبنانيين”.
ولفت إلى أنه “بهذه الخطوة، تصبح المسؤولية على عاتق الممانعين لتشكيل الحكومة. فإذا استجابوا وسهلوا ربحنا لبنان وربح اللبنانيون، واذا تابعوا عرقلتهم يتحملون مسؤولية ضياع فرصة لبنان لوقف الانهيار وإنقاذ اللبنانيين من مآسيهم الحالية والمرشحة للتزايد، لا سمح الله”.
وقال الحريري: ”مرة جديدة، أتخذ قراراً بتجرّع السم، وهو قرار اتخذه منفرداً بمعزل عن موقف رؤساء الحكومات السابقين، مع علمي المسبق بأن هذا القرار قد يصفه البعض بأنه بمثابة انتحار سياسي، لكنني اتخذه من أجل اللبنانيين، واثقاً من أنه يمثل قراراً لا بديل عنه لمحاولة إنقاذ آخر فرصة لوقف الانهيار المريع ومنع سقوط لبنان في المجهول”.
وعلّقت مصادر ثنائي أمل وحزب الله على مبادرة الحريري باعتبارها خطوة للإمام على أمل أن يتم التواصل باتجاه رئيس الجمهورية الذي هو شريك في عملية التأليف. فيما لفتت مصادر التيار الوطني الحر للـ”او تي في” أنه “في حال كانت مبادرة الحريري ستسهم بالحل فلا مشكلة لدينا معها، وما يهمنا تشكيل حكومة مهمة منتجة تنفذ الإصلاحات”.
أما موقف رؤساء الحكومات السابقون من مبادرة الحريري بحسب مصادر سياسية للبناء فكشف نياتهم التعطيلية للمبادرة الفرنسية. إذ اعتبروا في بيان لهم تعقيباً على بيان الحريري أن “مبادرة الحريري شخصية وليس هناك من حقيبة وزارية يمكن أن تكون حقاً حصرياً لوزراء ممن ينتمون إلى طائفة أو مذهب معين”. فيما نقلت مصادر إعلامية ان الرئيس المكلف مصطفى أديب سيزور بعبدا اليوم إذا لم يطرأ طارئ، وأشارت إلى أن الحكومة ستولد سريعاً. ولفتت إلى أن حركة اتصالات ناشطة ليلاً لاختيار اسماء الوزراء ومحاولة تقديم مسودة تشكيلة اليوم. كما قالت اوساط الرئيس المكلف أن مبادرة الحريري قيد الدرس.
السنيورة
وكان لافتاً زيارة الرئيس فؤاد السنيورة الى دار الفتوى ولقائه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان قبيل اجتماع المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى!
ولفت السنيورة بعد اللقاء الى أن هناك حاجة ماسة لحكومة قادرة وفاعلة لإيقاف الانهيار والتصدي للأزمات الكبرى التي اوصلت اللبنانيين الى الهلاك في البر والبحر، متمنياً على جميع المعنيين في لبنان التمسك بوثيقة الوفاق الوطني والدستور نصاً وروحاً والكف عن العبث بهذا النص المرجعي الجامع وذلك بفرض أعراف تخلّ بنصه او تدعو لنظام جديد يراد التفاوض عليه. كما دعا السنيورة الى تشكيل حكومة إنقاذ مصغرة تتألف من عدد من المتخصصين الأكفاء لا يكونون أسرى للعصبيات او الالتزامات الطائفية. وقال “ما عادت البلاد تتحمل ممارسات غير وطنية وغير مسؤولة ولا بد من الإقلاع عن التشبث بالحصص”.
بعبدا
وقبيل بيان الحريري كثف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون جهوده لتذليل العقد أمام ولادة الحكومة، وأشارت مصادر مواكبة لجهود بعبدا أنه “يتم الآن رصد ردود الفعل على دعوة الرئيس عون التي من المفترض أن تتبلور في الساعات الـ 24 المقبلة ليُبنى على الشيء مقتضاه”. وكشفت أن الرئيس المكلف أيضاً يقوم باتصالاته ومشاوراته في هذا الإطار مع العلم أن حتى الساعة لم يسجل أي اتصال بين الرئيس عون والرئيس المكلف بعد مبادرة رئيس الجمهورية أمس الأول.
اما بالنسبة للمبادرة عينها، فأكدت المصادر “ان ما قام به الرئيس عون أمس، هو فتح الباب بعدما كنا أمام وضع مقفل، وبعدما قام بخطوات لتذليل العقبات وحاول من خلال الاتصالات المباشرة والمشاورات إيجاد مخرج، وبعدما اصطدمت سلسلة الحلول التي تقدّم بها الرئيس بحائط مسدود أراد التقدم بهذه المبادرة. من هنا قدم الاقتراح الذي قدمه من باب حرصه على تشكيل الحكومة وهو يفتح باباً أمام الحل ان كانوا يريدون حلاً”. واضافت: ”حتى الآن لم تتبين ردود الفعل الرسمية ولم تعلن الكتل موقفها الرسمي من مبادرة الرئيس باستثناء بعض التسريبات التي لا يمكن أن يبنى عليها”.
وقالت مصادر مطلعة على أجواء بعبدا إن “هناك من تناول كلمة جهنم بسخرية، الرئيس عون عندما تحدّث أمس كان التعبير يهدف الى التحذير من الذهاب نحو الأسوأ. وتناول هذه العبارة بغير إطارها يهدف الى حرف النظر عن جوهر المبادرة والهروب من تحديد الموقف من الأساس وهو مبادرة رئيس الجمهورية، مع الإشارة الى ان ما قصده الرئيس عون بكلمة جهنّم لم يكن بالمعنى الروحي للكلمة إنما بمعنى التدهور الخطير، ومن ركز على الأمور الشكلية فهدفه التعتيم وحرف النظر عن أهمية المبادرة والإضاءة على تشبيه ثانوي ليس هو الأساس”.
ولفتت المصادر الى أن “ما أشير عن التقاء مبادرة الرئيس عون مع طرح التيار الوطني الحر بالتأكيد أن هذا موقف رئيس الجمهورية وهو طرح يراوده منذ بدء أزمة التأليف وتقدم فيه من باب حرصه على تشكيل الحكومة ولا شيء يمنع من أن يلتقي معه طرف بطرح مشابه. أما بالنسبة للاتصال مع الرئيس المكلف مصطفى أديب فأكدت المصادر أنه لم يسجل أي اتصال منذ يومين”. وعن الكلام حول زيارة مرتقبة لموفد فرنسي، قالت المصادر: سمعنا كلاماً كهذا ولكن الدوائر الرسمية لم تتبلغ شيئاً في هذا الإطار”.
اجتماع ماليّ
وواصل رئيس الجمهورية الاجتماعات التي يعقدها لمتابعة عمل الإدارات والمؤسسات الرسمية، فرأس للغاية اجتماعين في قصر بعبدا، بحضور رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب وعدد من الوزراء في حكومة تصريف الأعمال والمختصين. الأول حضره الى الرئيس دياب وزير المالية في حكومة تصريف الاعمال غازي وزني، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وبحث المجتمعون في السبل الكفيلة بمواصلة الدعم، لا سيما على الأدوية والقمح والمواد والسلع الأساسية. كذلك تقرر الطلب من الوزارات المعنية تكثيف اجتماعاتها مع مصرف لبنان بهدف تحقيق ما تقدم ضمن خطة متكاملة توضع لهذه الغاية.
وأشارت مصادر الاجتماع الى أنه “تم البحث باحتياطات المصرف المركزي وتبلغ 19 مليار دولار. وتم الاتفاق على استمرار الدعم للمواد والسلع الأساسية وتوجيهه لأطول فترة ممكنة مع المحافظة على الودائع بالعملة الصعبة”.
وأشار كبير المستشارين في بنك بيبلوس الخبير المالي نسيب غبريل لـ”البناء” الى أن “نظام الدعم إن كان هدفه استيراد المشتقات النفطية او القمح او الدواء او المعدات الطبية او السلة الغذائية او المواد الأولية للصناعة والزراعة، فهو من اختصاص الاقتصاد الموجّه وطريقة الدعم هذه أثبتت كلفتها وعدم فعاليتها في معظم البلدان التي طبقته قبل أن يثبت ذلك مرة إضافية في لبنان”. وأضاف غبريل: أن “احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية هبط 8,43 مليار دولار منذ اول السنة، اي بنسبة 27 في المئة تقريباً، من دون احتساب سندات اليوروبوند التي يحملها في محفظته، وبعد قرار الحكومة الامتناع عن تسديد سندات اليوروبوند في 7 آذار الماضي، جفّت بشبه كامل تدفقات رؤوس الأموال بالعملات الأجنبية الى لبنان وهذان العاملان أدّيا الى استنزاف احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية شهرياً، علماً أن الدعم بحسب غبريل عادة يكون من الخزينة وليس من المصرف المركزي. إلا أن قرارات الدعم، وخصوصاً آخر قرار، جاءت من دون تحديد مهلة زمنية لها وتقدير كلفتها بشكل دقيق”.
وبحسب غبريل فإن “ضخ سيولة بالعملات الاجنبية في السوق المحلّي يمر من خلال اتفاق تمويلي إصلاحي مع صندوق النقد الدولي، الذي بدوره لا يحبّذ الدعم عموماً فعاجلاً ام آجلاً ستضطر السلطات اللبنانية للرفع التدريجي للدعم عن بعض او كل هذه المواد، ولكن قبل ذلك، من الأجدى رفع الدعم عن قطاع الكهرباء الذي أرهق الخزينة وتسبّب بنصف عجز الموازنات العامة وبارتفاع الدين العام والمعروف أن هناك هدراً مقونناً في قطاع الكهرباء، حيث الخسائر غير التقنية، كما يسمّيها البنك الدولي، أي السرقة والاستخدام غير الشرعي للشبكة، تشكل أبرز تحديات القطاع”. وأوضح أن “رفع الدعم عن تعرفة الكهرباء يجنب رفع الدعم عن المواد والسلع الأخرى ويجبر كبار المستهلكين على دفع فواتيرهم حسب سعر السوق، ويحدّ من استنزاف احتياطي مصرف لبنان، كما يعطي الوقت للسلطات لإيجاد حلّ مقبول للمواطن الفقير من خلال الباقة التموينية”.
في المقابل يقول الخبير المالي وليد ابو سليمان لـ”البناء” إن “الوضع سيئ جداً والاحتياطات تراجعت على مدى السنوات الأخيرة بسبب تدخل مصرف لبنان الدائم لتغطية عجز الدولة”، مشيراً الى أن “الخيار الوحيد أمام الدولة هو الاستمرار بالدعم من خلال الاستدانة من الخارج مقابل رهن جزء من الذهب وفقط لدعم السلع الأساسية”.
انفجار عين قانا
على صعيد آخر، لم يُعرَف السبب الحقيقي الذي أدى إلى انفجار في بلدة عين قانا في إقليم التفاح حتى الساعة، وفيما ضرب الجيش اللبناني وعناصر من حزب الله طوقاً أمنياً في مكان الانفجار، اقتصر بيان الجيش على أن الانفجار وقع في أحد المباني في بلدة عين قانا وأن قوة من الجيش حضرت إلى المكان وباشرت التحقيقات.
واشارت قناة المنار الى أنه: ”حوالي الساعة الثانية بعد الظهر سمع دوي انفجار في قرية عين قانا قضاء النبطية قرب المدرسة الرسمية (الجبانة) والمبنى يعود لمؤسسة تعمل في مجال نزع الألغام ومخلفات الحرب والانفجار جاء نتيجة تخزين المخلفات التي تم نزعها”.