لا مغالاة اطلاقاً ان تخوف الكثير من اللبنانيين من ان يكون اغتيال لقمان سليم تتويجاً للشرور اللاحقة بهم بل نذيراً لـ”يقظة” الترهيب الدموي في نسخة منقحة ومحدثة عن حقبة الاغتيالات التي هبت أعاصيرها في خريف 2004 وشتاء 2005 وظلت حلقاتها متتابعة في تصيد الرموز والشخصيات الاستقلالية والسيادية حتى 2013 مع الشهيد محمد شطح.
لا شك في ان لقمان سليم الذي انضم في ليل التآمر الدموي الاجرامي عليه في الجنوب، الى لائحة شهداء الترهيب الدموي، شكل في مسيرته وسيرته وافعاله ومواقفه ومراسه المهني والوطني والثقافي والفكري والبحثي النموذج الأكثر شجاعة وإقداماً وايمانا بنهج تعددي تحرري يرفض الديكتاتورية الفكرية والأثرة المسلحة والسطوة الأحادية الإرهابية على المجموعات اللبنانية بدءا ببيئته. معروفة وقائع سيرة لقمان سليم في تصدر المراس الفكري للانتفاضة والخيمة الأشهر التي أدار فيها ندوات النقاش الحيوي الحر المتجرئ ورفع الصوت المتحدي للترهيب الى ان أحرقت الخيمة وأطلقت صليات التهديد الكثيفة للقمان مقترنة باللغة البائدة للتخوين وإلصاق الاتهامات الجاهزة بالصهينة والأمركة والتجسس وتقديم الخدمات لكل أعداء “المقاومة” و”حزب الله”. اغتيال لقمان سليم استهدف بكل وضوح احد أبرز وأشجع رموز الثقافة المتحررة الاستقلالية وأحد أبرز المنخرطين في العمل الفكري التحرري وأحد الناشطين الكبار في حركة الثورة اللبنانية الاجتماعية والفكرية. لقمان سليم انضم امس الى قافلة الشهداء الكتاب والصحافيين والمثقفين من حقبة تصفية سليم اللوزي ورياض طه ومن قبلهما وبعدهما الى رعيل الشهداء الذي استهدفته حرب الاغتيالات من سمير قصير الى جبران تويني الى محمد شطح كذلك. والأخطر الأخطر ان ترسم عملية تصفيته ملامح عودة الترهيب سلاحا ووسيلة لإخماد التنوع السياسي في بلد يتخبط بكوارث متدحرجة تضعه على حافة نهاية النهايات الدراماتيكية. لم يكن أدل على الخشية من بداية دموية لمرحلة متبدلة تنذر بتنفس الصراعات والرسائل الدامية عبر الساحة اللبنانية من ردود الفعل الداخلية والخارجية الواسعة التي عكست من ضمن ما عكسته التوجس الكبير الذي اثارته الجريمة الإرهابية الترهيبية.
الجريمة والردود
استفاق اللبنانيون على خبر اكتشاف اغتيال الناشط والكاتب لقمان سليم بقتله بخمس رصاصات في رأسه وظهره في سيارة مستأجرة، بعدما فُقد الاتصال به منذ الثامنة من مساء الاربعاء بينما كان يقوم بزيارة عائلية في بلدة نيحا الجنوبية. وأشعل اغتياله موجة واسعة من ردود الفعل الرافضة لعودة الاغتيالات والتصفيات والمتخوفة من دلالات الجريمة التي ذكرت بمرحلة الاغتيالات التي ذهب ضحيتها رموز من انتفاضة 14 آذار. ومع ان ردود الفعل الداخلية حاذرت بمعظمها توجيه اتهامات مباشرة وحضت الدولة وأجهزتها على استعجال التحقيقات لكشف الجناة فان بعض المواقف اتسمت بتحميل “حزب الله ” تبعة كشف الجناة او تحميله المسؤولية وتمثل ابرز هذه المواقف في بيان لقاء عدد من الشخصيات والناشطين في “لقاء سيدة الجبل” اعلنه النائب السابق فارس سعيد الذي لفت الى ان “الشهيد اغتيل في منطقة نفوذ حزب الله وبالتالي هو المتهم الأساس، فإما أن يخبر اللبنانيين كيف حصلت هذه الجريمة أو يتحمل المسؤولية المباشرة عنها. فلبنان تحت حكمين، الاول ورقي دستوري يتمثل بشخص رئيس الجمهورية، اما الآخر أمني عسكري يتمثل بشخص أمين عام حزب الله وكلاهما مسؤول”.
وأصدر “حزب الله” مساء بيانا دان فيه “قتل الناشط السياسي لقمان سليم وطالب الأجهزة القضائية والأمنية المختصة بالعمل سريعا على كشف المرتكبين ومعاقبتهم ومكافحة الجرائم المتنقلة في اكثر من منطقة في لبنان وما يرافقها من استغلال سياسي واعلامي على حساب الامن والاستقرار الداخلي”.
الأصداء الدولية
اما في الردود الديبلوماسية الدولية حول اغتيال لقمان سليم فكان ابرزها بيان للسفيرة الأميركية دوروثي شيا التي وصفت اغتياله بانه “بربري” وأضافت : “لقد قال لقمان سليم سرا وعلانية أنه كانت هناك تهديدات لحياته، ومع ذلك استمرّ، بشجاعة، بالدفع من أجل العدالة والمساءلة وسيادة القانون في لبنان . هذا الاغتيال، لم يكن مجرد اعتداء وحشيا على فرد، بل كان هجومًا جبانًا على مبادئ الديموقراطية وحرية التعبير والمشاركة المدنية.إنه أيضا هجوم على لبنان نفسه.إن استخدام التهديد والترهيب كوسيلة لتخريب حكم القانون وإسكات الخطاب السياسي هو أمر غير مقبول”.
واكدت “ضرورة إجراء تحقيق سريع في هذه الجريمة وغيرها من عمليات القتل الحديثة التي لم يتم حلها حتى يتمّ تقديم مرتكبي هذه الأعمال إلى العدالة. في بلد يحتاج بشدة إلى التعافي من الأزمات المتعددة التي يواجهها، ترسل الاغتيالات السياسية إشارة جد خاطئة إلى العالم حول ما يمثله لبنان “.
وأعربت نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان والمنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية نجاة رشدي عن صدمتها وحزنها لاغتيال لقمان سليم. وحثت على “إجراء تحقيق وملاحقة قضائية شاملة وسريعة وشفافة لتطبيق العدالة بحق جميع المسؤولين عن هذا العمل الشائن”. واضافت أن “الشعب اللبناني يستحق قضاءً مستقلاً وفعالاً للوصول إلى نتائج بالسرعة المطلوبة ولضمان المساءلة وللحد من التفلت من العقاب في لبنان.”
ودانت الخارجية الفرنسية “قتل الناشط اللبناني لقمان سليم ورأت ان اغتياله “يشكل جريمة بشعة” وطالبت بتحقيق شفاف .
البيان المشترك
وإذ تشاء المفارقة ان يتزامن اغتيال لقمان سليم مع ذكرى مرور ستة اشهر على انفجار مرفأ بيروت سجل تطور بارز في هذا السياق تمثل في صدور اول بيان مشترك حول لبنان في ظل إدارة الرئيس جو بايدن عن وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جاء فيه : “بعد مرور ستة أشهر على وقوع انفجار الرابع من آب في مرفأ بيروت الذي أودى بحياة مئات الأشخاص وأسفر عن أضرار مادية فادحة، تؤكّد فرنسا والولايات المتحدة الأميركية مجددًا دعمهما الكامل والتام للشعب اللبناني. وستواصل فرنسا والولايات المتحدة تقديم المساعدات في حالات الطوارئ للشعب اللبناني، ولا سيّما في قطاعات الصحة والتعليم والسكن والمساعدات الغذائية، وذلك مثلما فعلنا منذ وقوع الانفجار، بمعية الأمم المتحدة وشركائنا والمجتمع المدني اللبناني على وجه الخصوص، في إطار مؤتمرَي دعم لبنان اللذين عُقدا في 9 آب 2020 و2 كانون الأول 2020. وتترقب فرنسا والولايات المتحدة صدور نتائج التحقيقات الجارية بشأن الأسباب التي أدّت إلى وقوع الانفجار بسرعة. ويتعيّن على القضاء اللبناني العمل بشفافية تامة بمنأى عن كلّ التدخلات السياسية. وتسلّط ذكرى مرور ستة أشهر على وقوع هذه الفاجعة الأليمة الضوء على الحاجة الماسة والضرورية إلى أن يَفي المسؤولون اللبنانيون أخيرًا بما التزموا به وأن يشكّلوا حكومة ذات صدقية وفعّالة وأن يعملوا على تحقيق الإصلاحات الضرورية، بما يتماشى وتطلعات الشعب اللبناني. وتبقى هذه الخطوات العملية ضرورة حتمية لكي تلتزم فرنسا والولايات المتحدة وشركائهما الإقليميين والدوليين بتقديم دعم إضافي وبنيوي وطويل الأجل للبنان”.