بين باريس ونيويورك، لا شك في أنّ الأنظار ستتجه إلى الأولى اليوم تعويلاً على نتائج “غداء العمل” في الإليزيه بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وانعكاساته على أجندة “معاً للإنقاذ”، أما الثانية فستشهد إطلالة بروتوكولية “عن بُعد” لرئيس الجمهورية ميشال عون أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والأكيد أنها لن تخرج عن السياق المعهود في إطلاق المزيد من الشعارات الإصلاحية الفضفاضة التي درج عون على إطلاقها كلما سنحت له الفرصة والمناسبة.
وعشية اجتماع الإليزيه الذي يُفترض أن يضع القطار الحكومي على أول سكة التفاوض مع الصندوق الدولي والدائنين، برز تقرير تحليلي لبنك “غولدمان ساكس” يشدد فيه على أنّ تشكيل حكومة ميقاتي هو بمثابة “خطوة أولى على طريق طويل ضيّق إلى التعافي الاقتصادي اللبناني، من المرجح أن يكون محفوفاً بالصعوبات والمخاطر”، متوقعاً حصول “هيركات” بنسبة 75% على قيمة السندات اللبنانية “إذا سوّت الحكومة الجديدة خسائر النظام المالي وبدأت في تنفيذ إصلاحات ذات صدقيّة، وفتحت الباب أمام الحصول على تمويل من صندوق النقد”… ما يعني أنّ قيمة التعافي للسند ستكون بحدود 15 و25 سنتاً على الدولار بما يتماشى مع تقييمات السوق الحالية، وفق إشارة نائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق غسان حاصباني، لكنه نبه في الوقت عينه إلى كون خطة التعافي تبدو مهمة شبه مستعصية في بلد كلبنان، في ظل “غياب الاستثمارات” واستمرار واقع “فوضى الميليشيات التي تتخذ القرارات الاستراتيجية والعسكرية نيابةً عن الدولة”.
وإذ يبدو التقرير ايجابياً لكونه يحدد الخطوات العملية الواجب اتباعها ليخرج لبنان من أزمته، لفت حاصباني إلى أنّ ما ورد في التقرير عن نسبة الـ75% هو أمر “حاصل اليوم ولكنه ليس مقونناً”، مشيراً في هذا الإطار إلى “سحب المواطنين ودائعهم من خلال شيكات لتسديد مدفوعاتهم مقابل تسجيل هيركات على أموالهم بنسبة 75%، فيما سحب الودائع بالدولار يتم بالليرة وفق تسعيرة الـ3900 ليرة ما يعني خسارة أو هيركات بنسبة 60% على قيمة هذه الودائع، وكذلك بالنسبة لمن يشتري الدولار من السوق السوداء بنسبة هيركات تبلغ نحو 80%، ومن هنا يبلغ متوسط الهيركات ما نسبته 75% كما يرى التقرير لتكون بالتالي نسبة الخسائر الحاصلة راهناً قد تمت قوننتها”.
واعتبر حاصباني أن تقرير “غولدمان ساكس” رغم ايجابيته إنما “أعدّ على الورق وتضمن الحلول المفروض القيام بها لبلد غارق في القعر، من دون الأخذ بعين الإعتبار الوضع الجيوسياسي في البلاد”، حيث رأى أنّ “التعافي المالي لا يمكن أن يحصل الا بتحميل الدولة خسائر كبيرة من خلال استخدام أصولها، وإعطاء إمتيازات على سبيل المثال لإدارة مرفأ بيروت من قبل شركة خاصة بقيمة 8 مليارات دولار، وليس ان تتنصّل الدولة كما فعلت من مسؤوليتها وتحميل المصارف والمواطنين ثمنها”، وسأل: “لماذا لا تُعتمد الخصخصة علماً أنّ القانون الناظم لها موجود منذ العام 2002؟ وهل أخذ كاتب التقرير بعين الإعتبار أننا مقبلون على انتخابات نيابية خلال أشهر، والحكومة المكونة من ممثلي أحزاب السلطة ستكون منشغلة بالاستحقاق الانتخابي، ولن تتجرأ على تقليص حجم القطاع العام وصرف الفائض من الملاك، وإصدار قوانين تتضمن شفافية تامة وغير قابلة للطعن كما حصل مع قانون الشراء العام، فضلاً عن قوننة الهيركات؟”.
وفي هذا المجال، يعود حاصباني بالذاكرة إلى العام 2017 حين كانت كل الأجواء ايجابية قبل الإنتخابات فعُقد مؤتمر “سيدر” ووعدت الحكومة اللبنانية بتطبيق الإصلاحات وتحسين وضع البلاد، لكن على أرض الواقع لم يحصل شيء و”طار سيدر”… لذلك يخشى اليوم أن تبقى خطة التعافي واعادة هيكلة الدين “على الورق”، بينما الجميع يعلم أنّ “لبّ الموضوع يكمن في بدء التفاوض مع صندوق النقد واستعادة ثقة المقرضين والإنكباب على الإصلاحات المطلوبة للتمكن من السير بالاتجاه الصحيح، خصوصاً وأنّ التعافي الإقتصادي لا يمكن أن يحصل خلال عامين أو ثلاثة بل هو مسار طويل يتراوح بين 5 و 10 سنوات إذا بدأنا به اليوم”.
بالعودة إلى زيارة باريس، فإنّ استضافة ماكرون ميقاتي إلى مائدة “العمل”، سيعقبها “إعلان مشترك” في باحة الإليزيه للإضاءة على جوانب التفاهم بين الجانبين على “دفتر ضوابط وشروط آليات العمل الإصلاحي المرتقب من الحكومة اللبنانية، بغية شروع فرنسا بفتح الأبواب الدولية أمام مساعدتها على انتشال لبنان من أزمته”، حسبما نقلت أوساط مواكبة للزيارة، متوقعة أن يكون الرئيس الفرنسي “واضحاً وصارماً في الإضاءة على الهامش الزمني الضيق أمام الحكومة للبدء بالشق التطبيقي من المهمة الإصلاحية المنتظرة منها، فضلاً عن تجديد وجوب التزامها إجراء الانتخابات النيابية واحترام المواعيد الدستورية”.
أما على الضفة المقابلة من المشهد، فاسترعى الانتباه أمس ما كشفه مصدر ديبلوماسي لبناني عبر وكالة “سبوتنيك” الروسية عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، ضمن إطار جولة ستقوده إلى دمشق وبيروت، عقب انتهاء أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.