لا ينكر أحد، في الداخل أو الخارج، حقيقة أنّ لبنان تحكمه مافيا على هيئة دولة، تلعب دور الحامي والحرامي، وتدير بالزيّ الرسمي عمليات الإجرام والنصب والاحتيال في البلد، مسخّرة كل أدوات “الشرعية”، في السياسة والمال والأمن والقضاء، لمسح البصمات عن ساحات الجريمة، وطمس معالم الارتكابات الموصوفة بحق اللبنانيين والسرقات المشهودة للمال العام والخاص.
وبالأمس، لم تخرج كواليس “الطبخة التشريعية” لقانون الكابيتال كونترول عن سياق تشريع “سرقة العصر”، عبر الدفع الممنهج باتجاه تأمين “حصانة” نيابية للمصارف تطعن المودعين في ظهرهم وتجعل من عمليات السطو على أموالهم سرقة “حلال” لا يعاقب عليها القانون. إذ فرضت الصيغة المفاجأة اللقيطة التي طُرحت أمام اللجان النيابية المشتركة أمس حول إقتراح “الكابيتال كونترول”، والتي أطاحت بحقوق المودعين في مقاضاة المصارف في حال التخلف عن الدفع، المزيد من علامات الإستفهام والتخوف حول هذه الحقوق، لا سيما بعدما كانت اللجان أعطت مهلة أسبوع لنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بناءً على طلبه من أجل إستكمال جمع ملاحظات صندوق النقد الدولي والعودة بها الى اللجان، بينما استعجل رئيس مجلس النواب نبيه بري تحديد جلسة للجان يوم الإثنين المقبل لدرس الصيغة الجديدة، التي يبدو حسب بعض المصادر المتابعة أنها عادت إلى مقترحات “حزب المصارف” السابقة والتي أسقطت أيضاً تحديد سقوف السحب الشهرية للمودعين، إن كان بالدولار الأميركي أو بالعملة اللبنانية، وحتى القيمة السنوية المخصصة للطلاب في الخارج، والتي حددت في نص لجنتي المال والموازنة من 20 الى 50 الف دولار سنوياً.
فبعدما نفدت الرساميل و”ضرب مَن ضرب وهرب مّن هرب”، أتت الاستثناءات التي يطرحها اقتراح قانون الكابيتال كونترول لتتيح للمصارف الاستمرار بالاستنسابية، ولتمدّد الظلم بحق المودعين ضمن إطار “مسودّة” كارثية تشرّع “اللاعدالة والاستنسابية والتمييز بين المودعين في التحاويل إلى الخارج”، وفق تعبير الخبير الاقتصادي د. وليد أبو سليمان، خصوصاً وأنّ مسودة الاقتراح تعطي المصرف السلطة المطلقة لتحديد حجم التحاويل التي يسمح بها، مع منحه كذلك حقّ الاختيار من بين قائمة مودعيه المستفيدين من هذا الامتياز. وعلى هذا الأساس من الممكن أن يحول المصرف مبلغاً من دون سقف لعميل بشكل مقونن، ويحجم عن التحويل لعميل آخر أيضاً تحت سقف القانون، وهو ما يتناقض برأي أبو سليمان مع “روحية الكابيتال كونترول والهدف الأساس منه”.
هذا التطور الخطير في مسودة الاقتراح، ما هو عملياً سوى إستكمال لخطة جمعية المصارف بتخفيض سقوف التحاويل المسموح بها إلى الخارج، وصولاً حتى اختفائها كلياً. فالجمعية كانت قد اعترضت أثناء دراسة لجنة المال والموازنة في الفترة الماضية على سقف 50 ألف دولار للتحويل إلى الخارج للعميل الواحد وفق شروط محددة، وأعلنت في نيسان الماضي قدرة المصارف على تحويل 20 ألف دولار سنوياً، ثم عادت في أيار وخفّضت السقف مجدداً إلى 10 آلاف دولار بحجة أن مطلوباتها في الخارج تفوق موجوداتها بـ 1.7 مليار دولار آنذاك. وفي المقابل عمدت “الجمعية” إلى رفع تقديراتها لكلفة القانون من 4 مليار دولار إلى 8.8 مليار، بشكل يوحي بأن التكلفة تفوق قدرات المصارف، وحتى قدرة مصرف لبنان على الالتزام بها… ويبدو أنّ هدف المصارف بدأ يتحقق تحت قبة البرلمان فطارت السقوف والحقوق وطارت معها آمال المودعين بقانون يحميهم.
وبينما ستبقى حقوق المودعين ومصير أموالهم أمانة “في رقبة” حكومة “معاً للإنقاذ” بانتظار ما سيتمخض عنه استمهال نائب رئيسها لاستكمال النقاش مع صندوق النقد الدولي بشأن المقترح قبل البت به نهائياً… لا تزال الحكومة تتلمّس طريق “إنقاذها” وانتشال نفسها من مستنقع العجز والشلل الذي تتخبط به تحت سطوة و”ظلم ذوي القربى” من فريق أكثريتها الحاكمة، ولا يزال الرئيس نجيب ميقاتي عاجزاً عن جمع شمل حكومته والإيفاء بوعده دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، مفضلاً الاستمرار في التريث والعضّ على الجرح خشية تعميقه أكثر مع الثنائي الشيعي، فخرج بالأمس من قصر بعبدا بـ”بدعة حسنة” تعزّيه وتعينه على الصبر والسلوان ريثما يأتيه الفرج من عند “حزب الله”، فاصلاً بين الحكومة ومجلس الوزراء على اعتبار أنّ الأولى “ماشية” لكنّ الثاني “مش ماشي”.
وكان ميقاتي قد وضع رئيس الجمهورية ميشال عون في أجواء زيارته الفاتيكانية ناقلاً له أنه لمس “اهتماماً بالغاً” من البابا فرنسيس بلبنان، كاشفاً بحسب مصادر “نداء الوطن” أنّ البابا أجرى اتصالاً بشيخ الأزهر أحمد الطيب طالباً منه مساعدة مصر في معالجة الأزمة اللبنانية، فنقل الطيّب بدوره تمنيات البابا إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي وعد بإجراء الاتصالات اللازمة في هذا الصدد.
وبدوره، وضع عون ميقاتي في أجواء زيارته القطرية والتي تركزت المحادثات فيها على عدة محاور، أبرزها قضية الأزمة المستجدة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، فكان تأكيد وفق المصادر، على أنّ زيارة وزير الخارجية القطري إلى بيروت تنتظر “تطوراً إيجابياً” من جانب الدولة اللبنانية نفسها في القضية، لا سيما في ما يتعلق بمسألة استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي.
وفي الإطار عينه، يبدو أن استقالة قرداحي أصبحت فعلياً “في جيب” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ كشفت معلومات موثوق بها أنّ الاستقالة قد تأتي بالتوازي مع زيارة ماكرون إلى المملكة نهاية الأسبوع الجاري، بوصفها ستشكل مدخلاً له للتوسط لدى القيادة السعودية في ملف الأزمة اللبنانية.